لو شئنا ان نختصر ما جرى في العراق في الايام الاخيرة لقلنا انها محنة اخرى في سلسلة من المحن المتتالية على التاريخ العربي المعاصر من محن المواجهات الاسرائيلية الى محنة الحرب الاهلية اللبنانية، الى محنة الحرب العراقية الايرانية الى محنة احتلال الكويت وما تلاها من نتائج كارثية على حاضر العرب ومستقبلهم. ومرة أخرى تكشف المحنة العراقية مدى انهيار التضامن العربي الذي لم يأبه لمأساة العراقيين ولم يفعل شيئاً حيال عاصمتهم ومنشآتهم ومؤسساتهم التي راحت صواريخ الاميركيين وحلفائهم تدكها دون هوادة بعد ايام قليلة من شطب آخر فقرة تدين الصهيونية في الميثاق الوطني الفلسطيني. كما كشفت المحنة هشاشة موقع العرب في النظام الدولي حيث اقتصرت ردود فعل بعض الدول الفاعلة في هذا النظام، على ابداء الاسف والدعوة الى حل الأمور العالقة سلمياً، فيما اكتفى الروس بسحب سفيريهم من واشنطن ولندن استنكاراً لقصف تتابع رغم ذلك بلا مبالاة لافتة. ولقد اثبتت المحنة ايضاً ان العرب هم دائماً ضحايا مصالح ومخططات خارجة عن ارادتهم ومصالحهم، بل انهم في اكثر الاحيان جسر لعبور الآخرين الى غايات وأهداف لا علاقة لهم بها. فلم يصدّق احد ان تدمير المرافق والموانئ والمنشآت العراقية، انما هدفه احقاق الديموقراطية في العراق وإزاحة كابوس الطغيان على رؤوس العراقيين. ما لم يشكّ فيه عربي مستنير ان العمليات الحربية الاميركية ضد العراق، تنطوي في حقيقتها، رغم كل التفسيرات والتبريرات على ارادة القضاء على العراق كجزء من الامة العربية يختزن طاقات هائلة بشرية واقتصادية وعلمية وعسكرية وحسم هذه الطاقات من ساحة المواجهة المصيرية مع الصهيونية. تحديات كبيرة تهدد المستقبل العربي في الصميم، هل يجدي ازاءها ادعاء "النصر المبين" رغم الخراب الهائل وآلاف القتلى، او وصف العدوان ب "الخاسئ" ونعت الاميركيين ب "أعداء الله" والاسرائيليين ب "الشياطين" والدعوة الى "الجهاد" لدحر "المعتدين" واعتبار المعركة مع أميركا "أم المعارك"؟! هل يكفي هذا كله لإخراج العراقيين من عنق الزجاجة التي زجّوا فيها نتيجة القراءة الخاطئة للواقع السياسي بتحولاته وتعقيداته. ان المناسبة في نظرنا ليست مناسبة للحزن او للتشفي او لإطلاق التهم على الجميع، بل انها مناسبة للتفكير والتأمل والعمل وإعادة النظر في موقع العرب في النظام العالمي. فهل كان سيحدث ما حدث من انتهاك لحرمة العراق ومن خراب لمرافقه ومدنه، ومن اذلال لأهله، لو ان العرب تمسكوا بتضامن جدي وفعال فيما بينهم، تضامن يحترم مصالح شعوبهم واراداتها في السلم وفي الحرب، في السراء وفي الضراء؟ ولو انهم استطاعوا ان يقدموا للحضارة الانسانية من علمهم وابداعاتهم ما يجعل العالم يرى في العدوان عليهم عدواناً على العلم والحضارة؟ ولو انهم تمكنوا من بناء اوطان قادرة على انتاج مقومات وجودها بنفسها لا عالة على غيرها في غذائها وكسائها وسلاحها؟ ولو انهم كذلك استطاعوا ان يبنوا المواطن المتحرر من الخرافة ومن العصبيات القبلية والطائفية في مجتمع مدني يحترم حقوق الانسان؟ ان الصراخ وحرق العلم الاميركي ونعت الاميركيين والغرب بشتى النعوت "الشيطانية" لن يقدم العرب قيد أنملة في حل مشكلتهم التاريخية مع مطامعهم واستعلائهم. فالطريق الى مقاومة هذه المطامع يبدأ من بناء الانسان العربي والمجتمع المدني العربي، من ازالة الفوارق الاجتماعية الهائلة حيث لا يزال الفقر يرتع في مدن العالم العربي وأريافه، ومن إلغاء الامية حيث لا يزال اكثر العرب اميين، ومن احترام حقوق الانسان حيث لا تزال هذه الحقوق منتهكة في اكثر الاقطار العربية، ومن التعامل مع المرأة العربية بمنطق مساواتها الانسانية ودورها الاساسي في بناء المجتمع العربي. إن الرد على تعامل الغرب مع العرب يبدأ من هنا. ومن هنا يجب ان يعيد العرب النظر في محنهم ونكساتهم المتتالية وفي استباحة الآخرين لأرضهم ومصالحهم. من هذه المراجعة ستنقلب توجهات الاحداث وتتغير صورة المستقبل ومنها وحدها يبدأ "النصر المبين". * كاتب لبناني.