اثبت النظام العراقي مرة اخرى انه العدو الاكبر لنفسه وللعراق، وان قوى العالم اجمع لو اجتمعت لن تستطيع انزال ضرر به اكبر من الاضرار التي يلحقها بنفسه وبشعبه كلما لاحت بارقة امل في الافق او ظهرت اشعة نور منبعثة من نهاية النفق. والعراق، كان، وندعو الله ان يظل، من اكثر الدول العربية قوة وثروة وقدرة على الصمود ودعم القضايا العربية واولها قضية فلسطين، موازناً بين قوة العرب والقوى الاقليمية الاخرى مثل اسرائيل وتركيا وايران، بخاصة لو تمكن من تحقيق نوع من التضامن مع سورية ومصر والسعودية. فهو يملك احتياطاً نفطياً لا ينضب ويتمتع بمياه نهرين على امتداد حدوده من الشمال الى الجنوب، ويملك ثروة زراعية هائلة واراضي خصبة يمكن ان تطعم المنطقة باسرها لو احسن استغلالها، عدا ثرواته الاخرى، واولها الثروة السياحية والاثرية والحضارية، وقبل كل شيء الثروة البشرية اذ تميز الانسان العراقي بالعلم والمعرفة والشهامة والكرم وحقق تقدماً هائلاً في مجالات الطب والعلوم والتكنولوجيا والذرة. وفي المجال العسكري شكلت قوة الجيش العراقي مفصلاً تاريخياً اذ اثبت قدراته وتميزه في الحرب مع ايران التي استمرت 8 سنوات. ولكن اين نحن الآن من كل هذا؟ ولماذا وصل العراق الى هذه الحال؟ وهل صحيح ان الحصار وحده هو السبب؟ وما دمنا نقول ان هناك مطامع اجنبية وان العراق سيظل محاصراً ولو نفذ كل ما يطلب منه، لماذا نمنح الآخرين الذرائع والحجج لتكرار ضربه واضعافه؟ هذه الاسئلة وغيرها تفتح باب حوار شامل يجب ان يبدأ من منطلقات الموضوعية والصدق والاخلاص في الدفاع عن مصالح العراق والرغبة الاكيدة في رفع المعاناة عن شعبه، وانهاء هذه المحنة وفتح صفحة جديدة يعود فيها العراق الى سربه العربي اخاً عزيزاً مكرماً. ومن هذا المنطلق لا بد من الاعتراف بالخطأ الاساسي وما تبعه من اخطاء وخطايا ومسببات، وبينها امعان النظام العراقي في اهدار الفرص واضاعتها واحدة بعد الاخرى، ورفض المبادرات الصادقة وآخرها المبادرة السعودية لرفع الحصار عنه. صحيح ان الغزو العراقي للكويت عام 1990 شكل بداية الانحراف و"أم الاخطاء والخطايا" وتسبب في ضرب العمود الفقري للعراق وتقسيمه على ارض الواقع، واضعاف جيشه وقدراته العسكرية والتسبب في سقوط مئات الآلاف من الضحايا وافقار شعبه واذلاله وهدر ثرواته ورهن مصيره ومستقبله لعشرات السنين. وصحيح ان الغزو وما نتج عنه وما تبعه بعد تحرير الكويت وصدور قرارات مجلس الامن تسببت في احداث شرخ رهيب في الجسد العربي شلّه تماماً وجعله مرتعاً للمطامع الاجنبية ومسرحاً للوجود العسكري الغريب عن المنطقة بحجة الدفاع عنها، كما اهدر الثروات العربية وسط تقديرات تتحدث عن خسائر تجاوزت 500 بليون دولار خلال السنوات العشر اضافة الى تعرية صدر الامة العربية في مواجهة اسرائيل والمطامع الصهوينية، مما ادى الى وصول القضية الفلسطينية الى هذا الدرك الاسفل من التردي والتنازلات والمهازل. ولكن، رغم كل هذا كان يمكن تجاوز هذه الاخطار والاخطاء والعوامل والمعطيات، وفتح صفحة جديدة لو تعلم النظام العراقي من الدروس وأخذ منها العبر وتعامل مع الواقع بحكمة وعقلانية، وعض على جرحه واستغل اية فرصة او مبادرة ولو كانت شبيهة بالقشة ليتمسك بها وينقذ شعبه من هذه المحنة الاليمة التي يمر بها، بدلاً من المزايدات ورفع الشعارات البراقة الكاذبة وادعاء الانتصارات الزائفة واضاعة الفرص الثمينة للخروج من عنق الزجاجة، فرصة بعد فرصة، كأنه صدق من قال انه في قرارة نفسه لا يريد هذا الخروج بل يفضل بقاء الحال على ما هي عليه، طالما انه مازال ممسكاً بتلابيب السلطة يعيش حياة الرفاهية والبذخ والقصور فيما ابناء الشعب العراقي في الشمال والجنوب والوسط يئنون تحت وطأة العذابات والآلام والظلم المزدوج من داخل وخارج. فرص كثيرة سنحت للعراق منذ غزو الكويت. مبارات عربية ودولية قدمت له على طبق من فضة فرفضها واحدة تلو الاخرى، ومن الامين العام للامم المتحدة وفرنسا وروسيا والسعودية ومصر وسورية والمغرب، وحتى من دول مجلس التعاون الخليجي، من دون ان يقتنع احد بتبرير واحد او ان يفهم اسرار هذا الموقف الغريب العجيب او ان يفك الغازه. يقال ان الحصار طال امده والظلم بلغ مداه الاقصى وان العراق نفذ 95 في المئة من التزاماته بالنسبة الى قرارات الشرعية الدولية ولجان الرقابة والتفتيش عن اسلحة الدمار الشامل من دون ان يرى نوراً في نهاية النفق… ويجيب العقلاء: هذا عظيم اذا كان صحيحاً فلماذا لا "يكسر الشر" ويقلب المائدة في وجه الجميع وأولهم الولاياتالمتحدة وينفذ الخمسة في المئة المتبقية. هذا التصرف العقلاني كان يمكن ان يحرج العالم بأسره ويدفع العرب والدول الفاعلة مثل روسيا وفرنسا والصين، وحتى الاممالمتحدة، الى الضغط لرفع الحصار وانهاء محنة شعب العراق فوراً من دون قيد او شرط. لكن الذي حدث هو العكس: اثارة العداوات والشكوك ومعاودة استخدام لغة التهديد والوعيد التي سبقت غزو الكويت واثارة غبار الشتائم والاتهامات وفتح جبهات عدة على مصر والسعودية والكويت ودول الخليج، والتهديد برفض قرارات مجلس الامن وعدم التعاون مع لجانه ومبعوثيه. ويبدو ان النظام العراقي فهم التعاطف العربي مع شعب العراق بصورة مغلوطة، فوصلته رسالة خاطئة ظن من خلالها انه انتصر فعلاً بعد الضربة العسكرية الاخيرة بخاصة ان الشارع العربي تحرك ليعبر عن غضبه، وهذا امر طبيعي يجب ان لا يفهم خطأ علماً ان الشعارات لم تبن ابداً سياسات واستراتيجيات عملية، وان التظاهرات لم تكن ابداً الوسيلة المثلى لتحقيق الاهداف الوطنية بل هي مجرد تعبير جماهيري عن واقع لا يمكن نفيه، هو ان "الدم لا يمكن ان يتحول الى ماء" وان على الأخ نصرة اخيه اذا تعرض لعدوان، وان كل انسان عربي يرفض ان يتعرض شقيق له لعمل عسكري اياً يكن المبرر. فليس هناك عربي واحد لا يتعاطف مع شعب العراق المنكوب ولا يدعو الله يومياً ان يرفع عنه معاناته وينجيه من العذاب. اما التحرك للدعوة الى قمة فأمر طبيعي، لأن من غير المعقول الا تعقد قمة عربية دورية لمعالجة المستجدات ومواجهة الاخطار ليس في العراق فحسب بل في المنطقة كلها ومن كل الاتجاهات وأولها الاتجاه الصهيوني. لكن الواقعية تدفعنا الى التساؤل عن جدوى مثل هذه القمة اذا استمرت الممارسات الخاطئة ورفض صاحب الشأن مساعدة نفسه واللجوء الى اخوانه لاخراجه من محنته واصر على اسلوبه المتعالي وتهديداته وشتائمه، علماً ان العراق يعرف، والعرب يعرفون والعالم يعرف، ان الحل ليس في يد العرب ولا في يد القمة بل في يد مجلس الامن، وبين العراقوالاممالمتحدة تحديداً حيث الفيتو الاميركي يتربص بأي مبادرة لا تتضمن التنفيذ الكامل للقرارات ووقف تهديد الجيران. العرب قادرون على دعم العراق والوقوف الى جانبه واعلان مبادرات ايجابية مثل المبادرة السعودية الاخيرة التي فتحت الباب على مصراعيه امام حل منطقي وعقلاني لقضية الحصار، يفيد العراق ويحرج الآخرين ولا تستطيع الولاياتالمتحدة وبريطانيا معارضته في انتظار ايجاد مخرج دائم ورفع الحصار في شكل كامل ليتحرر العراق من القيود والعقوبات. ولكن كيف يمكن انساناً ان يساعد اخاه اذا كان يرفض المساعدة، ويمتنع عن تناول الدواء ولو كان مراً، او لا يمد يده الى يد تمتد لانتشاله من محنته؟ كان ممكناً البناء على المواقف العربية الرسمية والشعبية ضد الضربة العسكرية الاخيرة لعقد قمة عربية تسهل ايجاد حل لمحنة العراق. كما كان ممكناً ان يسفر الاجتماع التشاوري لوزراء الخارجية العرب في القاهرة عن قرارات مهمة تفتح باب المصارحة والمصالحة وتعيد قارب التضامن العربي الى شاطئ الامان، لكن ما صدر من بغداد من اتهامات وتهديدات ضد الكويت والسعوية والتلويح بالغاء قرارات الالتزام بقرارات مجلس الامن وتوزيع الشتائم في كل اتجاه، احبطت خطط المصالحة. وجاء رفض المبادرة السعودية ليسد الابواب في وجه اي مبادرة خيّرة لانهاء محنة الشعب العراقي، ويفتح مجدداً ابواب خطر الضربات العسكرية التي يتوقع مراقبون ان تكون خطيرة جداً هذه المرة، تترك انعكاسات مؤلمة على العراق والمنطقة. اتيحت فرص كثيرة للعراق للخروج من عنق الزجاجة، بل ان رسائل كثيرة وصلته من اجل التعاون لايجاد مخرج مشرف للجميع، لكنه اغلق الابواب في وجهها ولم يتسلم سوى الرسالة الخاطئة في شأن التعاطف العربي الصارم مع شعب العراق، فاستخدمها في شكل سيء داعياً الشعوب الى الثورة، كأنه لا تكفينا حروب ومشاريع فتن واضطرابات ومخططات هدر للثروات والطاقات والارواح. ضاعت فرص عديدة كانت آخرها المبادرة السعودية، وقبلها مبادرة دول اعلان دمشق وقمة مجلس التعاون الخليجي في ابو ظبي، حيث قدمت مبادرة لم يفهم النظام العراقي معانيها، اذ قدم له المخرج السليم وهو تنفيذ قرارات مجلس الامن والاعتذار عن احتلال الكويت وتعهد عدم تكراره واعادة الاسرى الكويتيين في مقابل وقوف العرب جميعاً معه ومساعدته لرفع الحصار. كما وضع مجلس التعاون خطة مرحلية لاعادة التضامن العربي ورأب الصدع عبر سلسلة خطوات مدروسة على ان تعقد القمة العربية المطلوبة بعد اعداد جيد لها كي تخرج بقرارات عملية قابلة للتنفيذ بحسب اعلان ابو ظبي. ضاعت فرص كثيرة لانهاء محنة شعب العراق، لكن السؤال المطروح الآن هو: هل هناك فرص اخرى متاحة أم ان النظام العراقي اضاع، بممارساته الاخيرة ورفضه المبادرة السعودية آخر الفرص، وأصر على الفهم المغلوط للرسائل الخاطئة؟ * كاتب وصحافي عربي.