في الايام الاخيرة من عام 1997، جاءني السيد أمين فخري عبدالنور 86 عاماً وأعتبره "عظيم قبط مصر"، وقصّ علي كيف انه كان في لقاء عمل مع محافظ البنك المركزي، وذكر له المحافظ انه بصدد ان يصدر قراراً بإلغاء قرار سابق ربما رجع الى مطلع القرن، يفرض على جميع البنوك المصرية ان تقفل ابوابها يوم 7 كانون الثاني يناير من كل عام. ومن المعروف ان مسيحيي مصر يحتفلون بعيد الميلاد وفق التقويم الشرقي في هذا اليوم بدلاً من 25 كانون الأول ديسمبر وهو يوم "الكريسماس" لدى الكنائس في الغرب. ولان هناك صداقة بين الرجلين، حاول المحافظ ان يبرر قراره فقال: ان يوم 7 كانون الثاني سيجيء هذا العام موافقا يوم اربعاء، ولا استطيع ان اقفل البنوك في مصر يوم الاربعاء ثم تفتح يوم الخميس واتوقع ان يطالب معظم الموظفين بأجازة "عارضة" في هذا اليوم، اي الخميس، ثم تجيء الاجازة الاسبوعية المعتادة للبنوك يومي الجمعة والسبت. ولأن أمين عبدالنور هو ابن احد ابرز زعماء حزب الوفد القديم، فخري عبدالنور، وكان قد نفي مع سعد باشا زغلول في العشرينات اكثر من مرة، فيما عاصر "امين بك" - بحكم السن - ايام "شهر العسل" بين الاقباط والمسلمين آنذاك وقد كان من الاقباط في تلك الحقبة 1924 - 1952 وزراء للخارجة والمالية والحقانية كما كان ويصا واصف باشا رئيساً لمجلس النواب عام 1928، لذلك، وفي ضوء هذه الخلفية، قال لمحافظ البنك المركزي: إن هذا القرار على بساطته ورغم مبرراته سيؤدي الى مزيد من غضب الاقباط وعزلتهم، ثم ذكر لمحافظ البنك ان هذا التقليد وهو منح جميع موظفي البنوك اجازة يومي عيد الميلاد وعيد القيامة كان بسب ان نسبة عالية من موظفي البنوك في مصر كانوا من الاقباط، ولذلك لم يكن امام الحكومة في مطلع القرن الا ان تقفل البنوك ابوابها في هذين اليومين، فاضطر محافظ البنك المركزي لان يقول: صدقت. لقد تغير الوضع كثيرا، ولم يعد في معظم البنوك اقباط في مراكز رئيسية او غير رئيسية. فقد صار وجودهم محدودا ومعقولا ولذا فإن غيابهم في هذا اليوم وهذا حقهم المشروع لن يؤثر كثيرا على سير العمل. وبالفعل، وبعد ايام عدة، نشرت الصحف قرار محافظ البنك المركزي، وإذا بأحد مراكز حقوق الانسان والتي اتخذت لنفسها اسم "مركز حقوق الانسان المصري لتدعيم الوحدة الوطنية" ينشر بيانا بعنوان "انتهاك حقوق موظفي البنوك الاقباط". وكانت الاسطر الاولى من البيان تحمل مراراة وغضباً واضحاً. وجاء فيها: "في مسلسل انتهاك حقوق الاقباط، فوجئ المركز بنشرة صادرة من البنك المركزي تتضمن بيان ايام العطلات الرسمية في البنوك خلال عام 1998...". وقبل ذلك بأسبوعين جاءني فاكس من دار نشر لبنانية معروفة تصدر جريدة يومية "نهارية"، تطالبني بالرد - في مقال - على عدة استفسارات نصها كالآتي: - "هل المسيحيون العرب في طريقهم الى الاضمحلال؟. - وكيف يمكن ان نوقف نزيف الهجرة والاستنكاف والاستبعاد والإبعاد؟. ذلك لأن نزيف الهجرة المسيحية الكبير من لبنان وسورية وفلسطين والاردن والعراق ومصر، بات يشكل تهديداً جدياً للحضور المسيحي في المشرق العربي. - وهل هجرة المسيحيين هي جزء من ازمات المجتمعات العربية: الديموقراطية، غياب المجتمع المدني، هيمنة الانظمة الديكتاتورية، وانتكاسة الفكرة العلمانية؟. - "ثم كيف يمكن مواجهة هذا الخطر الكبير الذي يهدد الثقافة العربية في احد ابرز وجوهها: التعدد والتنوع؟". هذه واقعة ثانية تشير الى ان الظاهرة ليست مصرية فحسب ولكنها عامة على نطاق العالم العربي كله في ما يبدو. وفي منتصف أيلول سبتمبر الماضي، جاءتني دعوة كريمة من "المعهد الملكي للدراسات الدينية" في عمان لحضور ندوة تناقش اوضاع المسيحيين العرب، ومما طرح اثناء اللقاء ادركت بالفعل ان الجماعات المسيحية ذات الجذور العربية تعاني مشاكل مجتمعية وثقافية حادة تؤثر على كياناتها التاريخية، وان معظمها - وبالذات الموارنة في لبنان - كانوا الى ما قبل الحرب الاهلية عام 1975 جزءاً مؤثراً في السياسة والاقتصاد اللبناني ولكنهم يعانون الآن من تهميش دورهم السياسي والاقتصادي تدريجياً، ويبدو ان الشباب الاصغر سناً يفضل الهجرة المبكرة حالياً قبل ان تسوء الاحوال المحتملة حالياً ومستقبلاً. كما نشرت وسائل الاعلام اخيراً أخباراً تفيد ان بعضاً من مسيحيي فلسطين يؤثرون السلامة في الوقت المناسب، ويهاجرون من المناطق "المحررة"، على الرغم مما كنت آمله من ان النضال الوطني المشترك من اجل استعادة وطن واحد، من المفترض ان يكون "الاسمنت" الذي يربط ويولد التماسك الشعبي من مسيحيين ومسلمين كما حدث في مصر عام 1919، خصوصا وقد اكتسبت الدكتوره حنان عشراوي مكانة واحتراماً على الصعيد المحلي والعربي والعالمي، كواجهة مشرقة ومشرفة للشعب الفلسطيني كله، كما كنت متأثراً بالمناخ الحضاري الذي انتجه الزواج الفريد من نوعه، بين ابو عمار وزوجته المسيحية الجميلة سها. ولكن يبدو ان النماذج المشرقة وحدها لا تكفي لتؤثر في حركة التاريخ لان النضال الوطني الفلسطيني - وبالذات في الحقبة الاخيرة - اخذ بعداً دينياً. فإسرائيل اختارت نتانياهو وركيزته السياسية هي الجماعات والاحزاب اليهودية بمفاهيمها التي ترتكز على نصوص توراتية، ولذا كان طبيعياً ان يفرز النضال الفلسطيني جماعة "حماس" المرتكزة على ايديولوجية الجهاد الاسلامي، كما ان حزب الله في جنوبلبنان قد صار رأس الرمح الفعال في مواجهة الصلف العسكري اليهودي، ولذلك فإن "اوهامي" او احلامي - المتأثرة بخبرة مصر في النضال الوطني الذي تفجر من خلال الانصهار الاسلامي القبطي عام 1991 - قد صارت خبرة تاريخية فريدة من نوعها وغير متكررة بسبب تغير المناخ الثقافي العام في المنطقة. فبعد ان كانت الليبرالية الفكر السائد في مصر في حقبة ما قبل 1952، إذ بالمنطقة تعيش حالة "الصحوة الدينية" على كل مستوياتها واشكالها، وهو الامر الذي فرض هذه الاسئلة المهمة التي طرحتها الجريدة اللبنانية المرموقة والتي اشرنا اليها سابقا. فقد ظهرت حركات التحرر الوطني تباعا بعد الحرب العالمية الاولى ثم بعد الحرب الثانية على نطاق واسع، وكان ابرزها ولا شك ما ظهر في مصر عام 1919 وما تلاها، فكانت النموذج للانصهار الوطني بين الاقباط والمسلمين وهو تراث مازلنا نعيشه ونضطر - حكومة وشعبا- لان نحتمي فيه فنجتره كلما واجهنا واقعة ارهابية او ازمة نسميها تأدبا وتهذبا بعبارة "الفتنة الطائفية"، وكأنها إفراز طبيعي للمجتمع. وكذلك لكي نغطي بها التغيرات الهائلة التي ظهرت في اقتصادات المنطقة وانعكست على البنية الثقافية المصرية، فقد كان في مصر اسلام مصري واحد وفريد صاغته عبارة بليغة تقول ان الاسلام المصري سني الوجه، شيعي الدماء، قبطي القلب، فرعوني العظام. ولكن عبر سنوات طويلة - ولاسباب كثيرة ليس هذا موضعها - تغير الاسلام المذكور ليصير اسلاماً آخر بشعارات حركة الاخوان المسلمين، وبعدها تطور ليكون اكثر اصولية حتى خرجت منه جماعات تهدد سلطة الدولة فكان العدوان على السياحة منذ 1992 وصولا الى مذبحة الاقصر الاخيرة التي هزت مصر في تشرين الثاني نوفمبر 1997 ثم كان العدوان على رموز الدولة ممثلة ببعض الوزراء ثم رئيس الوزراء وصولا الى حادث اديس ابابا الذي استهدف شخص رئيس الجمهورية عام 1995، فضلا عن رموز ثقافية كثيرة اهمها نجيب محفوظ وفرج فودة. وكان رد فعل الدولة - بدلا ان تتجه الى مزيد من "العلمانية" وتنشيط آليات وفاعليات "المجتمع المدني" - "المزايدة" على التيار الأصولي نفسه بأنها أكثر اسلاماً، وبأن ما تبشر به هو "صحيح الاسلام". وقد ادى تتالي الاحداث والمناخ الثقافي العام الذي ساد بمخطط هادىء ودفين من قبل مجمل التيار الديني، الى شد الحكومة لكي تنازل وتصارع هذا التيار المتنامي على ارضيته. وبالفعل تغيرت البنية والممارسات الثقافية اليومية، وبدلا من ان يكون للثقافة المصرية مرتكزان احدهما الاسلام المصري الذي اشرنا الى خصوصيته الثقافية والآخر المسيحية القبطية اي المصرية، وهي ثقافة لها خصوصيتها في امتداد الجذور الى الفرعونية من دون ان تشوبها اي شائبة في انها ذات توجه او نكهة غربية، هي التي اضطُهدت من الكنائس الغربية، حل عدم التوازن، لان المرتكز الثقافي القبطي اي المصري قد ضمر عندما استبعد من الساحة بشكل تدريجي من خلال سيطرة التيارات الاسلامية ذات التوجهات غير المصرية. وكان من نتيجة هذا "العرج" الثقافي انكفاء الاقباط على انفسهم وبالذات ابتداء من السبعينات. فقد كانت لهم فاعلية واضحة في عالم السياسة والثقافة علاوة على المال والاقتصاد، واذ بهم يتقوقعون تدريجياً داخل المؤسسات الدينية حتى صاروا هم انفسهم "اصوليين"، اي عادوا للاصول والجذور ودخل قاموس تعاليمهم عبارة "الموروث الآبائي". ولكنها اصولية خاصة لا تنحو الى العنف بل الى الانعزال والتقشف في سلك الرهبانية، حتى صار احدهم، البابا شنودة، على قمة السلطة الدينية ففرض المفاهيم الرهبانية على السلوك العام للشعب القبطي. وتبدو المفارقة واضحة اذا قارنا اوضاع وسلوك الاقباط حاليا بما كان في السابق ابان 1919 عندما كان السلوكَ الاكثر ديناميكية في مجال الاستنارة والعلمانية والعمل الاجتماعي، ولم يكن رموز الاقباط ممثلين برجال الدين وحدهم، بل برجال لهم وجودهم السياسي القيادي في كل الاحزاب، ولهم حضورهم الثقافي نظرا لمعرفتهم واتقانهم لا اللغات الاجنبية فحسب، وانما اساساً اساليب البلاغة في اللغة العربية. وكان مكرم عبيد خير مثال على ذلك. وقاد هؤلاء مسيرة العلمانية يوم لم يكن هذا اللفظ سيء السمعة كما هو الآن. وفرز كل ذلك رموزا مثل لويس عوض ومجدي وهبة وسلامه موسى والفريد فرج ويوسف جوهر وسامي داود الى جانب زملائهم العمالقة طه حسين وتوفيق الحكيم والمازني وعباس العقاد وحسين فوزي ونجيب محفوظ وبهاء طاهر ويوسف ادريس وغيرهم، فكانوا بالفعل شركاء في الوطن. وفور اختفاء والغاء الاحزاب القديمة وسيطرة الحزب الواحد باسمائه المختلفة خلال فترة حكم عبدالناصر، بات من الصعب ان ينجح قبطي في الانتخابات، فكان قرار مجلس قيادة الثورة باعطاء الحق لرئيس الجمهورية في تعيين عشرة اعضاء في مجلس الشعب او الامة او النواب او الشورى، وظل الوجود يضعف والشخصيات المختارة صارت اكثر ضمورا وخفوتا حتى غدت باهتة غير مؤثرة. ولذلك عندما قرر حزب الحكومة الاعلان عن قائمة ترشيحاته في انتخابات مجلس الشورى في نيسان ابريل 1995 ثم مجلس الشعب في تشرين الاول اكتوبر 1995، لم يعر الاقباط انفسهم هذا الامر اهتماما. وهكذا وببساطة اسقطت الحكومات الاقباط والمرأة ايضا من حساباتها فلم تتضمن قوائمها قبطياً واحداً او امرأة. وربما كانت الحسابات مزيدا من التقرب الى للاصولية الاسلامية، وبالفعل لم يحدث اجتماع انتخابي واحد، لا من الكنيسة والتي صارت وكأنها مؤسسة حكومية ولا من قيادة قبطية. فقد اختفت القيادات التقليدية، لانه لم يعد يسمح بوجود قيادة قبطية لا تلبس العمامة السوداء، ولم يعد البابا شنودة رئيس الكنيسة القبطية بل صار معبرا عن الاقباط في مجملهم، وهو امر ارتاحت له الدولة. فقد صار دور الاقباط هامشياً وهي العملية التي استغرقت نحو ربع قرن تقريباً من 1973 حتى الآن. ولذلك، وعندما اجمع بعض الاقباط في المهجر وفي اميركا بالذات، على ما اسموه تجاوزات او انتهاكات ضد الاقباط وفق مفردات مواثيق حقوق الانسان، كان البابا شنودة نفسه - وكذلك رموز الاقباط المعينين من الدولة - اول من هاجموا اقباط المهجر بشراسة، ما ادى الى مزيد من تهميش دور الاقباط ومن السلبية والانكفاء على الذات والتمسك بالفكر الاصولي المبني على تراث ومقولات الآباء، حتى قال بعض المتفكهين انه لم يعد للاقباط وجود فعلي ملموس في مصر الا في صفحات الوفيات لان غالبية منهم وبالذات الطبقة الوسطى حريصون على ان ينشروا خبر الوفاة في الجرائد. وفي النهاية لا يمكن التنبوء بمصير الاقباط في المستقبل بشكل محدد، غير ان قبط مصر متمسكون بالبقاء فيها، واذا كان بعض الاثرياء قد اضطروا للهجرة من بعض قرى الصعيد حيث تفرض عليهم احيانا ما يسمى الاتاوة او الجزية او الفدية، فان هذا لن يعني الهجرة من مصر كلها ولكنها خطوة من اجل مزيد من الامان والطمأنينة من خلال الدفء الاجتماعي في المدن الكبرى. اما فقراء الاقباط - وهم عدد هائل وكبير - فليس لهم من سبيل الا البقاء في مصر ، مهما تغيرت او تبدلت الظروف، لانه ليس امامهم بديل آخر.