كان أهم ما ثقفه هيكل من ممارسة الحرية بمعانيها المختلفة في المجتمع الباريسي أن الحرية لا تتجزأ أو تنقسم في الفعل المتحد لممارستها، مهما اختلفت مجالاتها أو تعددت مستوياتها. فالعلاقة بين مجالاتها ومستوياتها أشبه بالعلاقة بين الأواني المستطرقة، ما يحدث في أي واحد منها يؤثر في غيره. وأول ما يلزم عن غياب هذه الحرية غياب روح الإبداع الذي أطلق عليه هيكل روح التجديد. وهو الغياب الذي أكدّته في الوعي معايشة نقائضه في حضارة الآخر التي تحوّلت إيجابياتها إلى إطار مرجعي يقاس به التقدم أو التخلف، خصوصا تلك النقائض المتصلة بالممارسة المفتوحة للحرية التي تضع كل شيء موضع المساءلة، بعيدا عن الإيمان الأعمى بالمطلقات التي تنقلب إلى محرمات لا يملك الفكر سوى السكوت عنها أو الإذعان لحضورها القمعي. وكانت الممارسة المفتوحة للحرية في وعي هيكل الوجه الآخر من عقلانية المساءلة التي تتمرد على اتباع القديم أو تقليده، ولا تتقبل مبدأ النظر إلى الماضي بوصفه الإطار المرجعي الذي يقاس عليه كل جديد، في عملية تحديد القيمة التي يستدير بها الزمن إلى مبتداه، أو يغدو بها المستقبل صورة أخرى متكررة من صور الماضي. ولذلك يكتب هيكل في مذكراته بعد حوالي نصف عام من إقامته في باريس، مؤكدا أن أهم ما يعوق وطنه عن التقدم هو غلبة "الروح الرجعية" التي تسري في نفوس وعقول أبناء الأمة على اختلاف طبقاتها، وتتخلل أنظمة التعليم والتجارة والزراعة والصناعة، فضلا عن المفاهيم السياسية السائدة التي تضيف إلى غياب الحرية ما تتأكد به طبائع الاستبداد. هذه الطبائع المترتبة على غياب الحرية هي العقبة الأساسية في سعي أحسن المفكرين والكتاب المعتبرين عندنا، في ما يكتب هيكل، أولئك الذين ما إن يدفعهم تفكيرهم ليظهروا للناس فكرا جديدا حتى ينهال عليهم استبداد الروح الرجعية، فيضطر اصحاب الجديد إلى التراجع وراء ضغط العداء للجديد وغلبة نزعات التقليد. ويبدو أن هيكل كان يفكر، عندما كتب هذه الكلمات، في ما حدث لأمثال شبلي الشميل 1860-1917 الذي هوجم أعنف هجوم لدعوته إلى نظرية التطور ونشره كتاب "شرح بخنر على مذهب دارون" سنة 1884 وإلحاقه إياه بكتاب "الحقيقة" المطبوع سنة 1885 قبل ثلاث سنوات من ولادة هيكل، شأنه في التعرض للهجوم شأن سلفه الحلبي فرنسيس فتح الله مراش 1836-1873 داعية التفكير العلمي الذي انهالت عليه حملات التكفير بعد أن كتب ما كتبه عن "سياحة العقل" و"غابة الحق". وأحسب أن ذاكرة هيكل استرجعت ما علق بها من حملات التكفير والاتهام التي عانى منها قاسم أمين 1865-1908 منذ أن نشر كتابه عن "تحرير المرأة" سنة 1899 وأتبعه بكتاب "المرأة الجديدة" سنة 1901 فظل هدفاً لهجوم الجماعات الرجعية التي كشفت عن براثنها مرة أخرى في الفترة نفسها، حين كتب فرح أنطون 1874-1922 ما كتبه عن فلسفة ابن رشد واضطهاد حرية الفكر في مجلته "الجامعة" سنة 1903 فانهالت عليه حملات التكفير التي شنتها مجلة "المنار"، وكان يرأس تحريرها الشيخ محمد رشيد رضا 1865-1935 الذي ظل داعية لأفكار الدولة الدينية التي حملها عنه حسن البنا 1906-1949 إلى مدى أبعد من التخطيط والتنظيم والتأسيس مع إنشاء جمعية "الاخوان المسلمين" التي أصبح شعارها "الإسلام عقيدة وعبادة ووطن وجنسية ودين ودولة روحانية ومصحف وسيف". وقد تأثر هيكل في شبابه الباكر قبل رحيله إلى أوروبا بمبادئ حرية الفكر التي نشرها فرح انطون في مجلته "الجامعة" التي ظلت لسان حال المجتمع المدني القائم على التسامح، كما تأثر بالكيفية نفسها، لكن بدرجة أكبر، بأفكار قاسم أمين الذي ظل مدينا له بأفكاره الجذرية عن تحرير المرأة والمرأة الجديدة، خصوصا بعد أن وجد مصداق هذه الأفكار في باريس التي دفعته إلى وضع سؤال المرأة العربية موضع البحث على امتداد مذكرات شبابه. وبقدر ما كانت الحرية الباريسية تدفع هيكل إلى خوض آفاق جديدة، متنوعة، من الممارسة السلوكية والفكرية والإبداعية، في لهفة المتعطش إلى مقارفة ما ظل محروما منه في مجتمعه التقليدي، كانت هذه الحرية تدفعه إلى تذكر ضحاياها والمدافعين عنها في وطنه الذي تركه وراءه، والذي لم يغب عن وعيه بواسطة الذاكرة التي لم تتوقف عن العمل في سياق المقارنة بين تخلف "الأنا" وتقدم "الآخر"، ومن ثم بين مبدأ الرغبة الذي انطوى عليه المثقف الوطني المتطلع إلى التقدم ومبدأ الواقع الذي فرضه واقع الوطن المحصور بين سندان التقليد ومطرقة الاستبداد. هكذا، رأى هيكل التعارض الذي لاحظ أنه ينحل، غالبا، لصالح الروح المعادية للحرية والمؤدية إلى غياب الشعور بوجوب التجديد. والدليل على ذلك العبارات القاسية التي يصف بها الأفكار الرجعية التي تبدأ بالتصورات القديمة عن المرأة ونظام العائلة الشرقية الذي يفضي إلى تخلف المجتمع الأبوي البطريركي بتراتبه القمعي، وذلك في سياق تقاليد الاتباع التي تفرض استرجاع عادات "العائلة القديمة العربية ونظامها النصف بدوي". ولم يكن هيكل بعيدا عن قاسم أمين الذي تأثر به في هذه المحاجة، خصوصا ما حاوله قاسم أمين من نفي للأوهام عن "تمدننا القديم" في كتابه عن "المرأة الجديدة" التي حاول التبشير بنموذجها الواعد، ومن ثم رفضه النظر إلى التمدين العربي القديم بوصفه "المجد الصحيح الذي يجب أن نشدّ له رواحل العزائم، والذي سيتضح للعالم أجمع يوما أنه هو نفس الكمال الذي ينشده الإنسان ويلتمسه الوجدان". وقد أكدّ قاسم أمين أن هذه النظرة تحرك الميل الغريزي في الإنسان إلى التعلق بآثار الآباء والأجداد، وتعزز فيه روح التقليد التي تجتث دوافع التجديد والابتكار. وإذا كان تمدننا القديم بدأ وانتهى قبل أن يكشف الغطاء عن أصل العلوم، فكيف يمكن الاعتقاد بأنه "نموذج الكمال البشري" في إطلاقه؟ ونحن نعلم أن نموذج الكمال البشري لا يمكن البحث عنه في الماضي، لأنه لا يكون إلا في المستقبل البعيد جدا جدا، وأمام البشرية لا وراءها في مسعاها الصاعد الذي لا يتوقف صوب التقدم الذي لا نهاية له. فالكمال البشري إمكان مفتوح من احتمالات التقدم التي تتضاعف إلى ما لا نهاية في تتابع أزمنة المستقبل. ومثل قضية المرأة "مما تحتله الأفكار الرجعية احتلالا ظاهرا" قضية اللغة، فيما يقول هيكل، تلك التي لا يكتفي فيها "الرجعيون" بأن تبقى قواعد النحو والصرف على ما وضعها أبو الأسود الدؤلي منذ ثلاثة عشر قرنا مضت، بل يضيفون إلى ذلك التمسك بالحفاظ على صيغها ومفرداتها كما كانت أيام العصر القديم، كي تبقى معاجمنا قاصرة على ما كان في العهد الأول، كأنهم ما علموا أن اللغة نفثة من روح الأمة تظهر فيها أفكارها وإحساساتها، ولباس من ملابسها يضيق ويتسع بمقدار ضيق أو اتساع حاجيات الأمة وكمالياتها. ويعلم الله أنه لولا أن الكلمات والصيغ الجديدة تدخل اللغة على رغم أنف هؤلاء الرجعيين، وتندمج فيها لمطلق حاجة الناس إليها، في ما يقول هيكل، لكنا أشد فقراً مما نحن اليوم. ولو أن عندنا روحاً كريمة تحس بحقيقة حاجاتنا لكانت الكلمات والتراكيب الجديدة التي نجيء بها من لغات أخرى أو التي نشتقها من لغتنا أضعاف ما هي عليه اليوم. ولكنها رغبة التجديد المحبطة بسبب غياب الحرية التي تترك آثارها في ممارسة اللغة التي تستبدل التقليد بالتجديد، فتجمد اللغة في قوالبها إلا ما جاء منها استجابة حتمية إلى التطور. وستبقى قضية اللغة حية في وعي هيكل، لا تهدأ وقدتها منذ ما كتبه عنها في الثاني عشر من كانون الثاني يناير سنة 1910. وستظل نقطة خلاف جوهرية بينه وصديقه طه حسين الذي ظل هيكل يراه أزهريا متزمتا في قضية اللغة، وظل يدعو إلى ما كان يدعو إليه قاسم أمين الذي تأثر به في الدعوة إلى إصلاح اللغة ووصلها بروح العصر وتأكيد عناصر التغير في تراكيبها وعلاقاتها حتى تصل إلى ما وصلت اليه اللغات الأوروبية التي ترتقي كلما تقدم أهلها في الآداب والفنون والعلوم، حتى أصبحت النموذج المطلوب في السهولة والإيضاح والدقة والحركة والرشاقة، وصارت أنفس جوهرة في تاج التمدن الحديث، في ما يقول قاسم أمين، الذي ينقل عنه هيكل في إحدى مقالات كتابه "تراجم مصرية وغربية". ولم يكن هيكل في هذا التأثر يكتفي بترديد آراء قاسم أمين التي قرأها قبل سفره إلى فرنسا فحسب، وإنما كان يتحدث عن الخبرة المضافة من تعلم اللغة الفرنسية وممارسة التفكير بها، وذلك على نحو دفعه إلى المقارنة بين تقبلها للجديد وتجسيدها للمتغير، وتأبي قوالب اللغة العربية على مثل ذلك التجديد والتغير. وتلك خبرة لا تنفصل عن السياق نفسه الذي وصل أمثال قاسم أمين بأمثال رفاعة الطهطاوي 1801-1873 خصوصا فيما استهله الثاني في كتابه "تخليص الإبريز" 1834 من مبدأ المقارنة الذي يؤكد علاقة اللغة بالحضارة. وربما كان عبدالرحيم أفندي أحمد مبعوث مصر في مؤتمر المستشرقين الحادي عشر المنعقد في باريس سنة 1897 أول من أوضح التلازم الوثيق بين قضية اللغة وقضية الحرية، في التقاليد الثقافية التي انطوى عليها وعي هيكل قبل سفره إلى باريس التي وجد في ممارساتها اللغوية ما يدل على صدق ما ذهب إليه ذلك الرائد المجهول. فقد تحدث عبدالرحيم أفندي أحمد للمؤتمرين في باريس عما وجده من نسبة تامة بين الحرية وارتقاء لسان العرب، فكلما اتسع نطاق الحرية في الدولة اتسع معه نطاق الأدب في العربية وزادت فصاحة هذا اللسان وبلاغته، وكلما زاد الاستبداد تقيّدت عقول الأدباء بالسلاسل وصاروا ينطقون بما يوافق الزمان والمشرب لا بما يشعرون به ويعلمونه ويرونه. وقال الرجل في بحثه الذي ألقاه على مؤتمر المستشرقين إنه لاحظ في المتكلمين بلسان العرب أن الحرية إذا فقدت منهم كثر في كلامهم تكرار اللازمة الدالة على الإذعان، والكاشفة عن عدم الرغبة في الحوار، إما بتلاوة دعاء مأثور، أو السكوت من غير تفوه بكلمة أو كلمات يقتضيها الحال والمقام. وقد بدأ هيكل من هذه التقاليد التي وصلت ما بين رفاعة الطهطاوي وعبدالرحيم أفندي أحمد وقاسم أمين، في تأكيد العلاقة المتبادلة بين اللغة والحرية، ومضى بها إلى ما أضاف إليها، فوصل بين اللغة في معناها اللساني الضيق واللغة في معناها العلاماتي الواسع، كاشفاً عن أن غياب الحرية يؤدي إلى شيوع علامات الذل والخنوع في لغة اللسان والجسد معا. وآية ذلك الحزن الذي تبدو علاماته في عيون الشرقيين بأكثر مما يوحي به سنهم، على النقيض من عيون الغربيين الذين تنطق أوجههم كعيونهم بالفرحة والحماسة والميل إلى الحركة. ويرجع ذلك عند هيكل إلى تاريخ الشرق وحال الشرقيين الاجتماعية أكثر مما يتعلق بالطقس والموقع الجغرافي، ذلك أن الشرقيين ظلوا محكومين بالاستبداد القرون الطوال، فدخلت إلى نفوسهم آثار الحزن وغادرها معنى الفرح الخالص، نتيجة تاريخهم الأليم الذي أرغمهم على وجود صاغر مستكين، جعلهم أميل إلى الحزن الذي يلوح في أعينهم، والعين مرآة النفس. ومن آثار غياب الحرية الاستبداد الذي رآه هيكل متغلغلاً في كل شيء يستعيده من وطنه بالذاكرة في مذكرات الشباب، الاستبداد المقترن بالتعصب وقمع الفكر وحرمان الوطن والمواطن من حقهما الطبيعي في ممارسة الحرية بمختلف جوانبها ولوازمها. ويكتب هيكل بعد حوالي شهر من إقامته في باريس قائلا: "إن الاستبداد تخلل نفوسنا وأفسد ملكاتنا، وتوصل شره إلى الدخول في دمنا فلم يبق في الإمكان أن نتخلى نحن عن الظلم بل تدفعنا نفوسنا إليه دفعاً". وأحسب أن ما كتبه هيكل عن الاستبداد على هذا النحو يكشف عن وجه آخر من أوجه علاقات التناص التي تصل "مذكرات الشباب" بكتابة السابقين عليها من دعاة الحرية، ومنهم عبدالرحمن الكواكبي 1849-1902 الذي تحوّل كتابه "طبائع الاستبداد" إلى دعوة حماسية لممارسة الحرية في مختلف جوانب حياة الفكر والإبداع والسياسة والاعتقاد. وكما ذهب الكواكبي إلى أن "طبائع الاستبداد" تؤدي إلى غلبة روح الإذعان والتقليد والخنوع في الأمة وشيوع أخلاق العبيد بين أبنائها، ذهب هيكل إلى أن الاستبداد يشيع النفاق والملق والمداهنة والمراوغة وضعف الثقة وغير ذلك من الأخلاق التي يؤكدها في مذكراته، خصوصا حين يكتب: "يعاب علينا جماعة المصريين - وبحق - أن لا ثقة لنا ببعضنا ولا بنفسنا، فيبحث الناس عن أسباب ذلك فيعتقدونها أحيانا في نقص التعليم وأخرى في ضعف النفوس، والذي أعتقده أن سبب ذلك أننا لا نعرف في الواقع طعم المساواة".