قد تكون معركة الاسلاميين الأتراك في الانتخابات المقبلة نيسان/ ابريل من العام الجاري ضد الاحزاب العلمانية من جهة ومؤسسة الجيش التي تعتبر نفسها حامية الدستور العلماني للدولة من جهة اخرى، اقل ضجّة من معركتهم الانتخابية الماضية اواخر عام 1995. والارجح ان نتائج الانتخابات المقبلة لا تفرز النجاح الذي يطمح اليه حزب الفضيلة الاسلامي في الحصول على 30 في المئة من اصوات الناخبين وتشكيل الحكومة منفرداً من دون الحاجة الى الائتلاف مع اي حزب علماني آخر. صحيح ان كل هذا، تكهنات سابقة للأوان قد يثبت عكسها، خصوصاً في دولة متوترة داخلياً واقليمياً كتركيا. لكن الصحيح ايضاً ان الاسلام السياسي التركي المتمثل في حزب الرفاه قبل حظره، ومن ثم في حزب الفضيلة منذ تأسيسه بعد حظر الرفاه في العام الماضي، يعيش في ظل زعيمه الحالي رجائي قوطان مرحلة تحولات سريعة نحو الاعتدال والتناغم مع المقتضيات العلمانية. ويسمي بعض المراقبين هذه التحولات بانكماش الاسلام السياسي في تركيا، بينما يرى فيه آخرون خطوة ذكية للاندماج في الحياة القانونية والتخلي عن طموحات الصدام ونزعات الثورة الدينية التي كانت بارزة بعض الشيء في طروحات أربكان. اسباب هذا التحول كثيرة، اذ يرتبط بعضها بالقسرية التي شعر الاسلاميون الأتراك ان اكتافهم غير قادرة على تحمل عبئها، والتي تجسدت في الوقفة الهجومية التي وقفتها مؤسسة الجيش ضدهم واجراءات التضييق التي طاولت نشاطاتهم بما فيها غلق المراكز او المدارس الدينية وتصفية الجيش والدوائر الحكومية من عناصرهم. اما بعضها الآخر فداخلية نبعت من تغييرات في بنية الاسلام السياسي نفسه في تركيا بعد اختيار رجائي قوطان لرئاسة حزب الفضيلة. والواقع ان الرجل استطاع بطباعه الشخصية الهادئة وعلاقاته الواسعة مع العلمانيين وخلفياته المدينية والثقافية وبعده عن التطرف الايديولوجي ان يدفع بزخم غير مرئي في اتجاه التحول نحو الاعتدال على رغم ان اربكان ظل، بتأثير قاعدته الشعبية الواسعة، فاعلاً من وراء الستار ومؤثراً في بعض اهم مسارات حزب الفضيلة. قوطان المولود في مدينة ملاطية في 1930، تخرج في جامعة اسطنبول التكنولوجية في 1952. وهي الجامعة التي تعرف بحاضنة السياسيين الأتراك اذ درس فيها سليمان ديميريل وتورغوت اوزال ونجم الدين اربكان. طوال فترة دراسته وبعدها بسنوات طويلة لم ينغمس مهندس الانشاءات والسدود المائية، قوطان، في اوحال السياسة. بل ظل يخصص جلّ هواه لوظيفته التي استكمل بعض مؤهلاتها في الولاياتالمتحدة منتصف الستينات. طوال هذه الفترة عمل في مشاريع مائية وانشاءات عديدة في تركيا، ابرزها مشروع غاب المؤلف من اثنين وعشرين سداً مائياً عملاقاً. في 1973 بدأ قوطان حياته السياسية عبر انتسابه الى حزب السلامة الوطني 1974 - 1980 تحت زعامة نجم الدين اربكان. لكنه حرص على البقاء بعيداً عن الصراعات التي تشتهر بها الحياة السياسية في تركيا، على رغم ان الحزب انتخبه نائباً لأربكان في 1978. وكان يعرف عنه، على عكس اربكان الذي كان يمضي جلّ وقته مع مشايخ الطرق الصوفية، ابتعاده عن الدعوات المتوترة واحتفاظه بعلاقات شخصية حميمة مع العلمانيين وفي مقدمهم رئيس الجمهورية الحالي سليمان ديميريل. وهذا المسار السياسي الهادئ ربما كان وراء موافقة ديميريل على ضمه الى حكومته وزيراً للتعمير بعد دخول قوطان البرلمان، لأول مرة، نائباً عن ملاطية في انتخابات 1977. اثر الانقلاب العسكري في 1980 وحلّ الاحزاب واعتقال العديد من قادتها بينهم اربكان، ظلّ قوطان بعيداً عن احتراف السياسة، مفضلاً تخصيص وقته لمتابعة النشاطات الهندسية ومشاريع الطاقة. وعلى رغم قبوله في 1985 منصب نائب رئيس حزب الرفاه الذي اسسه اربكان بعد عودة الحياة المدنية الى تركيا، الا انه ظل بعيداً عن الاحتراف اليومي للعمل الحزبي الى عام 1995. وفي هذا العام دخل البرلمان ثانية عن مدينته ملاطية، لكنه ظل في الوقت عينه متطلعاً الى اشباع رغبته الأساسية في ميادين الطاقة الطبيعية. وقد تحقق له ذلك حين دخل حكومة اربكان - تشيلر الائتلافية في 1996 وزيراً للطاقة والمصادر الطبيعية. في الأعوام القليلة التي سبقت وصول حزب الرفاه الى الحكم، كانت تركيا تشهد تململاً داخلياً تصب تياراته الرئيسية في اتجاه توسيع قاعدة انتشار الاسلام السياسي وسط الشباب والنساء وبعض القطاعات الريفية. والواقع ان ذلك كان محط مخاوف عميقة لدى الأوساط العلمانية والجيش، خصوصاً بعد فوز الرفاه بأعلى نسبة انتخابية بين احزاب تركيا في انتخابات 1996 ونجاحاته في الانتخابات البلدية. وما زاد من المخاوف في هذا الصدد ان تركيا كانت تعيش مشكلة متفاقمة اخرى على الصعيد الكردي، فيما كانت علاقاتها لا تني تتدهور مع ايران وسورية المتاخمتين لحدودها الشرقية والجنوبية. لكل ذلك اعتبر وصول اربكان وحزبه الى السلطة، وبالذات الى رئاسة الحكومة من طريق الائتلاف مع تشيلر، مبعث قلق كبير على مستقبل العلمانية في تركيا. ولا يستبعد مراقبون ان العنف والتشدد اللذين طبعا ممارسة الجيش حيال اربكان وحزبه في هذه الفترة، عبّرا عن رغبة الجيش في وضع نهاية سريعة لحكم الرفاه. لكن آخرين يرون ان دور نائب اربكان ووزير الطاقة رجائي قوطان كان مؤثراً، ولو من خلف الستار، في تهدئة مخاوف العلمانيين من جهة، وإقناع اربكان بعدم ابداء ردود فعل غير قانونية حيال هذه المخاوف من جهة ثانية. الى ذلك يرى هؤلاء ان الدور الذي لعبه قوطان لم يقتصر على تأجيل الانقطاع بين الاسلاميين والجيش مدة عام تقريباً، وهي الفترة التي استمر فيها اربكان رئيساً للحكومة، بل شمل ايضاً الحد من مخاطر صراعات داخلية في حزب الرفاه نفسه بين تيارين: شبابي دعا الى مقاومة سلوكية الجيش ولو عبر اعمال عنف، وكهولي ان صحّ التعبير، دعا الى التروي وتجميع الصفوف وحشد القوى والقضاء على العلمانية عبر هجوم قانوني، قادته زعامة اربكان الكاريزمية. في كل هذا يأخذ مطلعون على شخصية قوطان افتقاره الى طموح سياسي وحنينه الدائم الى مهنته الهندسية. ويأخذون عليه ايضاً سماحه بدور خفي ومؤثر لأربكان على امور اساسية في حزب الفضيلة. ويوردون في هذا الخصوص دور رئيس الوزراء السابق في ترتيب قائمة حزب الفضيلة لانتخابات نيسان ابريل المقبل. لكن النظر الى قوطان من زاوية مختلفة، او من زاوية تاريخه السياسي الشخصي، يوضح ان خطواته هي في اتجاه اجراء تغيير رئيسي نحو الاعتدال على مسارات الحركة الدينية السياسية في تركيا. ولا ادل على هذه النية عند قوطان من الحاحه على ضرورة ان تكون مرشحات حزب الفضيلة الى الانتخابات المقبلة نسوة حاسرات الرأس ممن يحملن مؤهلات اكاديمية او صحافية وثقافية.