عم يحكي هذا الفيلم؟ كان هذا السؤال مألوفاً، في وقت كانت السينما تعتمد فيه بشكل اساسي على وجود "قصة" محددة يمكن نقلها شفاهيا من الناحية الدرامية، بعيداً عن "الحكي" البصري، ولم يكن في معظم الاحيان سوى تعبير مباشر عن هذه الحكاية الشفهية أي "تجسيد" مادي للشخصيات والاحداث والعلاقات من دون ادنى مجهود في خلق نص بصري سمعي، سينمائي بالتحديد وأقصد من دون محاولة خلق حكاية فيلمية من قلب هذه الحكاية الشفهية، تكتسب مميزاتها من الحكي المباشر الى الحكي عبر آليات السينما. وحتى عندما جاء جيل راقص الى السينما السردية جاء بهذا المعنى، واقصد به جيل الثمانينات لم يأت ليقدم بديلا يرتفع بالاداء البصري على الاداء الشفاهي في السرد الفيلمي، بل اكتفى بتقديم حكايات ظلت شفاهية، ولكن الفرق انها اصبحت اكثر اقترابا من اليومي للفرد العادي، وأصبحت الحكاية في "سينماهم" تمس الهامش الشعري في واقع لم نكن نراه في السينما السابقة، الا ان هذه السينما ظلت هي الاخرى تعتمد على السرد المألوف الذي يكتب خصائصه من وسائط أخرى غير وسيط السينما. ثم أتت الاتجاهات الاكثر حداثة لترفض مرة اخرى الحكي التقليدي، متمردة على طريقة السرد السائدة التي ارتبطت بوجود حكاية تبنى دراميا كما تبنى "الحواديت" التي نتداولها في ما بيننا في جلساتنا اليومية، على اساس ان السينما السردية بهذا المعنى، انما تعتبر نوعا من السينما يكتسب شرعيته من واحدية القصة التي تقوم عليها عملية السرد، وتنتمي بدورها الى فنون اخرى، ربما الى فن الرواية المكتوبة، او المسموعة او ربما الى فن المسرح، وبناء على هذا الرفض ظهرت سينما لا ترفض "الحكاية" عموما وانما ترفض الحكاية الواحدة، معتمدة بذلك على مجموعة من الحكايات الصغيرة المستقلة بعضها عن بعض، ويمكن ان يشكل كل منها على دائرة درامية تامة، لها بدايتها ونهاية، لا يربطها سوى عامل الجوار. هي حكايات متجاورة في فضاء مكاني واحد حي - شارع - مدينة والمشترك فيها جميعا شخصية رئيسية تنطلق منها واليها كل العلاقات والاحداث في الحكايات الصغيرة، لتصبح بذلك حكايتها هي، الحكايا الام التي تنبثق منها بشكل او بآخر الحكايات الاخرى لنصبح امام شبكة محورها هذه الشخصية تتفرع منها القصص الصغرى ونجد ذلك مثلا في افلام مثل "القبطان" للمخرج "سيد سعيد" او فيلم "هيستيريا" للمخرج عادل اديب، وقد لا توجد هذه الشخصية المحورية مع الاكتفاء بمبدأ التجاور بين هذه الحكايات، اعتمادا على عامل آخر وهو عامل جدة او غرابة "العالم" الذي تجتمع فيه هذه الحكايات ويجرنا الفيلم الى اقتحامه، فهنا عالم سائقي الميكروباص فيلم عفاريت الاسفلت - لأسامة فوزي او العالم الخاص للنساء فيلم يا دنيا يا غرامي - لمجدي احمد علي. هكذا اصبحت الافلام ذات القيمة الفنية تعتمد على بنية مجزأة حكائياً. لا تبتعد هذه المقدمة المعضلة عن الحديث عن فيلم المخرج رضوان الكاشف الاخير "عرق البلح". فعلى خلاف هذه الاتجاهات الحديثة نحو التفتيت الحكائي والتي كان يندرج تحتها كذلك فيلمه الاول "ليه يا بنفسج"، اعتمد "عرق البلح" على حكاية فيلمية واحدة. على بنية حكائية أحادية لا تنبثق منها حكايات صغرى او ثانوية وانما تشكل الحلقات الصغيرة فيها مجرد وحدات اصغر في البناء الواحد للحكاية الرئيسية التي يقوم عليها الفيلم. وتنطلق هذه الحكاية من سؤال افتراضي نظري: ماذا لو غاب الرجال عن مجتمع يبعد كثيرا عن مظاهر المدينة، مجتمع معزول تعتمد العلاقات فيه على قوانين بدائية تفصل فصلا حادا بين عالم ما هو ذكوري، وعالم ما هو أنثوي؟ ماذا يحدث لو غاب الرجال عن هذا المجتمع، تاركين النساء وذكراً؟ لا يترك رضوان الكاشف هذا السؤال وحيدا بل يلحقه بمجموعة اخرى من الظروف التي تمنح المجتمع خصوصية اكثر من كونه مجتمعاً من رجال ونساء. ان هذه البدائية يختار لها متعمدا فضاءً مكانيا متمثلا في "نجع" يقع في نقطة ما داخل صحراء ممتدة، ثم يختار لها زمانا غير محدد، فالأحداث تقع في فترة زمنية غير معلومة مع ما يعنيه ذلك في الوقت نفسه من أن جريان الاحداث يشغل حيزا ما من الزمن، ويشغل منطقة زمانية محددة، لا يكشف عنها الفيلم، هكذا تجتمع كل هذه الظروف الانغلاق المكاني، عدم تحديد الفترة الزمنية التي تنتمي اليها الاحداث، البدائية في القوانين التي تحكم العلاقات بين افراد هذا النجع لتخرج الفيلم من القالب الواقعي وتسقطه في قالب اسطوري يتلاءم مع غرابة السؤال الافتراضي. اختيار قالب اسطوري يمنح الاحداث طابعاً ملحمياً ويمنح المخرج حرية في اختيار تفاصيل عالمه بعيدا عن التقيد بمرجعية واقعية. نحن اذاً امام عالم متخيل تماما، لا يأخذ من الزي الواقعي سوى اسماء الشخصيات، وبعض ملامح الجنوب، وكذلك بعض العادات التي ارتبطت بصعيد مصر. لتصبح هذه التفاصيل المأخوذة من الواقع مجرد علامات تحيل ذهنية المتلقي مكان شغف المخرج به ،بل كان مسقط رأسه وهو الجنوب او الصعيد، اصر المخرج على الابقاء عليه معتمدا بشكل اساسي على "علامة" اخرى اكثر وضوحا من العلامات السابقة الذكر وهي "اللهجة" الصعيدية والتي كانت فعلاً غير مفهومة او غير مفسرة جيداً، نظراً الى عدم الاعتياد على سماعها، والى انتشار لهجات صعيدية "رسمية" عبر الاعمال الدرامية التلفزيونية. كان اصرار المخرج على احالة الجو العام الذي تدور فيه الاحداث الى الصعيد محاولة لتقديم الجانب الآخر المتخيل او الاسطوري من الصعيد الذي عاشه. هذا الصعيد الذي تنبني خلفياته الثقافية والمعرفية بشكل يومي على الاسطورة، على الحكايات القديمة، على الامثال على الحكمة المستقاة من الاحداث القديمة البعيدة في الزمن. تبدأ رحلتنا مع الزائر الغريب الذي يأتي الى نجع خال تماما من سكانه، وفي مشاهد متتالية نراه يتحرك داخل أزقة ضيقة يتخبط بين جدرانها، كأنه سقط في متاهة لا نهائية، وندخل الى الحكاية عبر راو كان شاهدا على الاحداث. هذا الراوي هو الجدة زاد الخير التي تبدأ في سرد وقائع ما حدث للنجع ولنسائه عندما شربن العرق في غياب الرجال، لاحظ هنا دلالة اختيار الراوي وعلاقته بالحكي الشفاهي الذي ارتبط في ثقافتنا بالجدود وكبار السن، يعني هذا اذاً ان الحكاية او حكاية الفيلم في "عرق البلح" هي في الاساس حكاية شفاهية يمكن حكيها سمعيا الى المتلقي. فهل لعبت آليات السينما دوراً في عملية الحكي او السرد؟ كان الدور الأول الذي لعبته "الصورة" في عملية السرد متمثلا، في مجموعة العلامات اللونية والشكلية التي لعبت دورا في الاحالة الى العالم الخاص الذي اختاره رضوان للتأكيد على القالب الاسطوري، كمناخ عام، مثل اختيار اللون الاصفر في المشاهد الاولى للنجع الخالي وتناقض هذا اللون بوضوح مع اللون الاسود الذي ترتدية وهي الشخصية الاخرى التي بقيت من الاحداث مع الجدة زاد الخير. كذلك اختيار الملابس للشخصيات وللجد القابع في صمت كأنه الزمن. حتى في الطريقة التي رحل بها الرجال حاول المخرج الا تكتفي عملية السرد برحيلهم للبحث عن الذهب الاسود - في احالة ذهنية ساخرة الى فترة السبعينات - وانما صور هذه الحلقة من الحكاية بطريقة كرست هذه الغرائبية عندما جعل الزائر الذي يدعو الرجال الى السفر يختفي في"تاختراوان"، ولا يبدو منه سوى صوته. وللتأكيد على ان السرد خرج من مرحلة الحكي الشفاهي الذي بدأت به الحكاية بصوت الجدة "زاد الخير" ودخل في مرحلة الحكي الفيلمي او البصري السمعي، منتقلين بذلك الى الزمن الماضي، يختفي صوت الجدة الرواي تماما، ونصبح نحن المتلقين داخل الحكاية، ومع الوقت ننسى انه كان هناك راوٍ وانه كان هناك مستمع، بل ان المخرج لا يعود في نهاية حكايته الى النقطة التي بدأ منها، لا يغلق عملية السرد على نفسها، فينبه اذهان المتفرج باعادته الى الزمن الاول، بل ينهي الفيلم، بانتهاء الحكاية التي كان ادخله اليها مع بداية الحكي البصري، وكان هذا الزائر الغريب المستمع وهذا الراوي الجدة وهذه الطريقة التي بدأت بها عملية السرد لم تكن إلا ذريعة تكرس المناخ الاسطوري، من ناحية، وتلعب دورا تشويقيا من الناحية الاخرى. ومن خلال هذه الحكاية الفيلمية التي نصبح متورطين فيها بعد ان يدخلنا المخرج فيها ويتركنا من دون "راوٍ" مباشر، تبدي لنا هذه الحلقات الدرامية التي نتعرف فيها الى حكايات النساء، فماذا ترك الرجال وراءهم؟ تركوا شابا في بداية الرجولة "احمد" محمد نجاتي ونسوة تختلف اوضاعهن. احمد يبحث عن رجولة يكتسب شرعيتها من الوصول الى نهاية "العالية" وهي اعلى نخلة في النجع "العالية" التي تأكدت كعلامة في النص الشفهي الحكاية التي يمكن روايتها شفاهيا للرجولة وللموت ولم يستطع ان يلعب بها المخرج في الحكي الفيلمي بالشكل الكافي فلم تكن العالية تمثل علامة للرجولة فقط عند اهل النجع، لقد كانت تمثل علامة للخصوبة ايضا فبلحها الابيض يصنع منه العرق "عرق البلح" الذي عندما يشربه الرجال الذكور يعود كل منهم ليقضي ليلة مع زوجته. هذا الطقس الذي شكل جزءا مهما واساسيا من ثقافة اهل النجع، بل وعليه تأسست العلاقة بين عالم الرجال وعالم النساء في هذا المكان، كانت الاشارة اليه ايجابية فنحن نرى النساء في جلسة خاصة يسربن عرق البلح الابيض الذي ينجح احمد في الوصول اليه بعد ان ينجح في تسلق العالية مؤكدا بذلك رجولته وبعد ان ينصبنه النساء "رجلا" عليهن في مشهد طويل تأتي كل واحدة منهن بجزء من ملابس زوجها لتمنحه اياه - كما لو ان كلا منهن تعلنه زوجا لها - في هذه الجلسة تتكشف حاجة كل امرأة. كل منهن تعلن وتئن وتبوح تماما مثلما في الرقصة التي يرقصنها جميعاً. اننا لا نكتشف الطقس الجنسي المرتبط بشرب عرق البلح الا من خلال هذا المشهد السريع، ذلك ان احتياج النساء الجنسي كان مشارا اليه مسبقا عن طريق العلاقة التي نتلمسها بين شفا الجميلة "الشبقة" وبين "الدفاف" الذي ينتمي الى نجع آخر. يصبح موت شفا مطلباً لان احمد اغواها فرفضت ان تصبح بصمته على كل فرد في كل منزل من منازل النجع علامة جنسية على "تخصيبه" نساء النجع في غياب رجاله. يصبح البلح الابيض الموجود في كل دوار، وعرقه الذي كان علامة على الطقس الجنسي الذي ربط بين كل امرأة وزوجها في هذا النجع علامة الان على ما بين كل امرأة واحمد. ويكون من الطبيعي ان يحكم الرجال على احمد بالموت. في الموقع نفسه الذي اكتسب به رجولته في النجع، من العالية. انهم يقطعونها وهو يتسلقها فلا يقتلونه وحده، انهم يقتلون كل ثقافتهم، يقتلون رجولتهم المهانة بقتله وبقتل العالية التي تسقط ويسقط معها النجع الذي تحول الى هذه المتاهة المهجورة التي نراها في المشاهد الاولى من الفيلم ولا يبقى منه سوى الجدة وابنة سلمى واحمد. حكايات او حلقات تتداعى داخل الحكاية الرئيسية تنمو بشكل متوازٍ لا يخل، بل يؤكد على اعتماد وقيام كل حلقة من هذه الحلقات على اساس الحكاية الرئيسية. "عرق البلح" بهذه البنية الحكائية التي ظلت الى حد كبير تحتفظ بخصائص الحكاية الشفاهية، على رغم ما تضمنته من حكي بصري وذلك لقوة البنية الاسطورية التي اعتمد عليها الفيلم مما خلق تحديا امام المخرج حاول عن طريقه ان يخرج من قلب هذه الاسطورة المروية شفاهيا اسطورة مروية بصريا وسمعيا. نجح في بعض منه وغلب السرد الشفاهي - لقوته كما ذكرت - على معظمه.