"عرق البلح" فيلم رضوان الكاشف الجديد، وهو ثاني فيلم يحققه خلال مسيرة بات عمرها الآن اكثر من ثمانية اعوام، واحد من ابرز الافلام التي حققت في مصر في الآونة الاخيرة. صحيح ان الفيلم لم يعرض بشكل تجاري على نطاق واسع بعد، ولا يمكنه ان ينافس افلاماً من طينة "البطل" و"صعيدي في الجامعة الاميركية" و"رسالة الى الوالي"، لكنه يقوم حالياً بپ"دورة المهرجانات الضرورية" وينضاف الى السينما العربية الجيدة والجادة، ويفتح آفاقاً جديدة في مجال تعاطي الفن السابع مع الواقع وشاعريته وهمومه. في فيلمه الجميل الجديد هذا اراد رضوان الكاشف ابن الجنوب ان يرد جزءاً من حقوق ابناء الجنوب، التي ضاعت تاريخياً بين النكتة والنار، ولهذا جاء الاهداء الذي اعتلى عناوين فيلمه بمثابة التحية لشعب الجنوب "الى الجنوبي المطارد بخبيئته.. سلاماً اليك يوم تموت.. وسلاماً اليك يوم تبعث حياً". تدور احداث الفيلم في قرية صغيرة في جنوب مصر، تقبع في ظل نخلاتها. يصل موكب غريب، يدعو صاحبه المختبئ وراء ستائر البلاستيك، رجالها الى حيث بلاد الخيرات والكنوز.. يستسلم الجميع للحلم.. السراب.. فيما عدا أحمد، الصبي الذي شارف على البلوغ، الذي يتمسك بالبقاء ليحقق حلمه بصعود النخلة العالية الاسطورية ... والتي تؤكد الاسطورة ان رحيق بلحاتها البيض هو اكسير الحياة .... تتوالى خطابات الرجال الذين هاجروا وتكشف عن سلسلة من الهزائم والانكسارات. وكان فيلم "عرق البلح" عرض في حفلة افتتاح المهرجان القومي للسينما المصرية، وسبق عرضه جدل واسع في الاوساط الثقافية والسينمائية خصوصاً بعدما اعلن الروائي ابراهيم عبدالمجيد ان فكرة الفيلم تتشابه وروايته "المسافات"، لكن هناك عدداً من الكتاب نفوا وجود اية شبهة علاقة على الاطلاق بين العملين. "الحياة" التقت المخرج رضوان الكاشف الذي عاد الى الساحة السينمائية بفيلمه الثاني بعد ابتعاد سنوات منذ ان قدم تجربته الاولى "ليه يا بنفسج". خيانة الذاكرة قبل ان اطرح اول اسئلتي على رضوان الكاشف عن دوافع تحقيق "عرق البلح" وجدته يقدم لي ورقة عنوانها "كلمة للمخرج" بها الاجابة عما اردت ان يجيبني عليه. ويقول: "لم يكن سهلاً عليّ وعلى من معي صناعة فيلم كفيلم "عرق البلح" ليس فقط لخروجه عن الشروط السائدة والقاسية للسوق التجارية، وخصوصاً حين يحاول الفيلم التحرر من طرق السرد المألوفة بحثاً عن لغة فيلمه خاصة، وليس فقط لأن حظاً عاثراً جعل مشروع فيلم "عرق البلح" يتزامن طرحه مع ازمة طاحنة تمر بها السينما المصرية ذات التاريخ العريق، وليس فقط لصعوبة المكان الذي اخترته لتصوير احداث الفيلم في واحة الداخلة في قلب الصحراء الغربية و على بعد الف كيلو متر من العاصمة. "ليس لكل ما سبق كانت صناعة فيلم "عرق البلح" مهمة شبه مستحيلة الانجاز، بل كانت الصعوبة الحقيقية تتأتى من كونه فيلماً يتحدث عن "أناس" الجميع يطالب بنسيانهم. "لقد قال لي احد رجالات العمل السينمائي في مصر، بعد ان شاهد نسخة عمل الفيلم، ان فيلمك يتحدث عن اناس يستحقون القتل، لأعمل فيلم عنهم. "لم يكن الرجل وهو يقول ذلك يكشف عن شر يكمن داخله، بل كان، وبكل بساطة وطيبة، يعكس وعياً سائداً بالشكل الذي يجب ان يكون عليه الخطاب السينمائي. "فالسينما المصرية، ومنذ سنوات بعيدة، تحافظ على كونها سينما "المدينة" بكل ما يطرحه ذلك من مفردات بصرية وسمعية، ومن افكار وعواطف. "وفي هذا الاطار كانت الصعوبات التي واجهت "عرق البلح" هائلة. "لقد قمت بكتابته قبل فيلمي الاول "ليه يا بنفسج" الذي استقبل بشكل طيب من الجمهور والنقاد حين تم عرضه في عام 1993. "وسواء كان ذلك ارادياً او لا ارادياً، خطأ او ليس بخطأ، قررت ان يكون فيلم "عرق البلح" فيلمي الثاني، حتى لو كان ذلك يعني تعطيلي كل هذه السنوات، التي حقاً كانت بالنسبة لي "سنوات عجاف". "ما الذي دفعني الى "عرق البلح"؟ هل هو "الهم" ذاته الذي ترددت اصداؤه في فيلمي الاول "ليه يا بنفسج" والمتعلق بالخراب والفساد الذي يلحق ب"الناس" والمكان" حين يهجر احدهما الاخر؟، هذا "الهم" الذي سيطر علي منذ ان اجتاحت مصر، وخصوصاً جنوبها، بدءاً من منتصف السبعينات، موجة من الهجرة دفعت بالملايين نحو بلاد لا يعرفونها بحثاً عن حلم "زائف" بالخلاص؟ "ام ان الذي دفعني الى "عرق البلح" هو ذلك الشعور الجارح المدمي الذي سيطر علي وعلى جيل بالكامل، انتمي اليه، شعور بأن "الوطن" الذي عرفناه قد "أُبدل" وبات يعادي ذاكرته ويخوض معركة هائلة ومدمرة معها، شعور بأن "الوطن" الذي عرفناه ينفلت من نفسه ومن منظومة قيمه الاجتماعية والاخلاقية والثقافية والجمالية، ليصبح على مقاس "مشروع" غامض، لا يعيه، ولا يعرف الى اين سينتهي به. "هل كانت الهجرة، والتي لم يعرف الشعب المصري مثلها من قبل، احدى ادوات عملية "الابدال" هذه؟ ام كانت احدى نتائجها؟ ام انها لعبت الدورين معاً؟. "هل العنف الذي يباطن كل تفاصيل حياتنا، ويعلن عن نفسه بوضوح في "الجنوب" الفقير المحاصر بين جبلين والمهمل دائماً، هو احد الافرازات الضرورية لعملية "الابدال" القاسية؟ ام هو شكل من اشكال الرد على "خيانة الذاكرة" التي هي اقسى تجربة يمكن ان يمر بها شعب والتي تقترب من اعلان "موته" كما رددت اغنية الفيلم "والصعيد مات"؟. كل هذه التساؤلات المقلقات وغيرها هي التي دفعتني نحو "عرق البلح". ومن هنا جاء كل شيء - تقريباً - الفكرة.. والاسطورة والخيال والاشعار والاهداء، جنوبياً؟". أنا جنوبي انا جنوبي المنشأ والتربية، قال رضوان الكاشف رداً على سؤالنا الأول واضاف وانا لست مجرد تولدت هناك وانما ابي وامي اولاد عم من القرية نفسها احدى قرى محافظة سوهاجالجنوبية، وكانوا معتزين بقريتهم وكانوا حريصين، وانا تربيت على "الحكي" والاساطير والخيال الجنوبي هذا يمثل لي منطقة إبداع خاصة يعني من اكثر المناطق قرباً من قلبي. والجنوب في مصر له قيمة كبيرة تاريخاً وحضارة، وانا قريتي مر عيها الرومان، والصعيد طول عمره له دور مهم وطول عمره مظلوم، فالمكان ضيق يعني الارض الزراعية محصورة بين جبلين، والصعيدي متهم بالعنف دائماً ومهمل من الحكومات، وتاريخياً المدينة تتعامل معه الجنوب بقسوة شديدة عزلته، ولهذا ليس صدفة ابداً ان "تلاقي"، تجد الرد على الاضطهاد الذي حدث طوال الاعوام حتى ما قبل الرئيس جمال عبدالناصر. "انا شفت بنفسي الناس بتتجلد الزاي على ايدي الحكومات وانت كمان تعرف" - ليس صدفة ان يكون رده عنيفاً رغم انني لست مع هذا العنف - وما اقصده ان هذا له تفسيران هذا المكان أُهمل الى حد انه دفع دفعاً الى ذلك، ومن هنا اقول الاهداء "الى الجنوبي المطارد بخبيئته.. سلاماً اليك يوم تموت.. وسلاماً اليك يوم تبعث حياً". واردت ان اقول انه حتى الآن "ماحدش فهم" الجنوب، فإما ان تطلق عليه الجنوبي النكات او انه يُضرب بالرصاص.. انما محاولة فهمه "مش موجودة" وانا احاول في فيلمي ردّ اعتبار الجنوبيين واحاول ان اعيد اكتشاف قلوبهم الصادقة النظيفة "يعني قلوبهم البيضاء". مرة اخرى، هل هناك قصد في اختيار الابطال ابناء الجنوب حمدي احمد وعبدالله محمود وفائزة عمسيب؟. - العمل يفرض عليك احياناً اشياء من هذا القبيل وحتى شريهان شكلها جنوبي.. ولكن هذا ليس مقصوداً لذاته وانما فرضه الحد المناسب للشخصية. السينما للمدينة نحو 6 سنوات من الابتعاد منذ تجربتك الاولى "ليه يا بنفسج"؟ - اعمل ايه؟. انا كتبت السيناريو قبل "ليه يا بنفسج"، و"عرق البلح".. فيلم صعب.. يتحدث عن صعايدة وليس عن مدينة والسينما.. سينما المدينة. والجلاليب على الشاشة لايرغبها مستهلك المدينة.. والمكان الذي سأصور فيه يبعد الف كيلو عن القاهرة، ولغة السرد صعبة وليست معتادة وغير مألوفة وكل هذا اخاف المنتجين. كل هذا ادى الى تعطيل الانتاج. اعتقد ان اللهجة الصعيدية في الفيلم هي الاصدق على الاطلاق في كل ما قُدم على الشاشة عن الصعايدة؟. - يرجع ذلك الى كوني كمخرج قريب من هذه اللهجة.. فأنا كاتب الموضوع وجنوبي.. يعني "ما فيش" سياحة في الموضوع وليس فيه افتعال. اذن ما قُدم في السابق عن الصعيد مواضيع سياحة؟. - لا.. ففيلم مثل "الطوق والاسورة" مهم جداً وكاتبه جنوبي، و"دعاء الكروان" احداثه تمت في الصعيد.. و"البوسطجي" الذي اعشقه وقدمت تحية لمخرجه حسين كمال عن فيلم "شيء من الخوف" في مشهد المشاعل، صعيدي كذلك. .. انا كنت انوي طرح اول اسئلتي عليك عن الاتهام الذي وجهه اليك الروائي ابراهيم عبدالمجيد من ان فكرة الفيلم مأخوذة عن روايته "المسافات"؟ - بيننا القضاء، وحالياً تتخذ اجراءات اقامة دعوى ضده لان تشويه سمعة الناس ليس "هزاراً". والفيلم ليس له علاقة على الاطلاق بالرواية لا من قريب او بعيد ولهذا لن اتراجع عن مقاضاته لانه اساء الى سمعتي وتاريخي. هل انت وعبدالمجيد اصدقاء؟. - لا .. ولكن اعرفه، وعمرنا ما كنا اصحاب. هو قال في حديث لي نشر في "الحياة" انك حاولت شراء الرواية في العام 1983؟. - كيف احاول ذلك، انا لم اكن تخرجت بعد. فأنا تخرجت في العام 1986. وفي عام 1983 كنت احضر مشروع فيلم التخرج "الجنوبية". هذا الشخص يريد مصادرة الجغرافيا والتاريخ والناس والتجارب والهجرة والحب.. فهو يقول عنده صحراء في الشمال يضحك.. وانا عندي صحراء في الجنوب.. الصحراء "بتاعة" ربنا. بعيداً عن القضاء، رغم الاستقبال الكبير لفيلمك من قبل النقاد وجمهور حفلة افتتاح المهرجان القومي للسينما الا ان البعض قال انه ليس فيلماً جماهيرياً؟. - انا صنعت فيلماً فيه قلب، فيلم حابب الناس ... يمكن صعوبة السرد فيه تجعل جماهيريته محدودة، ولكني في النهاية اراهن على المشاعر وارى لو ان هذا الفيلم اخذ حقه في العرض سيكون له جمهور. ففيلم مثل "المومياء" اخذ حقه. انا عملت فيلم كتبته وأصررت على عمله وبقيت في البيت 5 سنوات من غير شغل ولو لم تكن ورائي عائلة تحميني "كنت جعت بجد". لا تتخيل انك تقعد كل هذه السنوات من غير شغل ... وفي النهاية انا سعيد واعتقد ان هذه هي الرسالة الحقيقية. رغم انك من أسرة ثرية، ما أسباب اقترابك من الفقراء ومشاكلهم وهمومهم؟ - سأقول لك أنت رجل صعيدي وتعرف ان في "قُرانا" ليس هناك اغنياء حقيقيون غني، ففي الآخر جميعهم يأكلون من نفس الخبز ويصنعونه في البيوت. يعني في الصعيد التميز الطبقي لا يمنع ان البشر سواسية، اي انهم عجينة واحدة، خصوصاً انه في العائلة الواحدة نجد الاثرياء والفقراء. وبالنسبة لي لا افهم ماذا يعني مجتمع يكون فيه فقير وغني هذه مسألة انا معني بها ومهتم، وتاريخي السياسي يؤكد ذلك خصوصاً انني كنت في الحركة الطلابية في السبعينات اطالب بمجتمع عادل ووطن ديموقراطي. لم ينهزموا كلهم؟ في فيلمك كل من هاجر.. عاد مهزوماً في شيء، وهذا ضد ما هو موجود على ساحة المجتمع.. فليس كل من سافر عاد مهزوماً؟. - لا، اختلف معك، فعلى الاقل من لم يعد مهزوماً في اسرته عاد بثقافة اخرى وهذه هزيمة، خصوصاً ان الذين عادوا بالثقافة الاخرى لم يأخذوا منها سوى السطحي. ناهيك عن انك تقرأ كل يوم عن زوج عاد ليجد زوجته لها علاقات وحكايات وروايات، طبعاً الهجرة احدثت تخريباً حقيقياً. ما دوافعك لتصوير الفيلم بعيداً عن الاستديوهات؟. - انا اخترت ارضاً بكراً، لأنني كنت اريد ان اصور في قريتي ولكنها اختلفت ولم تعد القرية التي اعرفها، ولهذا ذهبت لقريتي "بلاط" و"بشندي" على بعد الف كيلو من القاهرة من اجل اظهار طابع الجنوب الحقيقي. يعتبر البعض ان مسألة التمويل تهمة، وفيلمك فيه جزء من التمويل الخارجي؟. - لا، فيلمي انتاج مصري مئة في المئة، وانا فقط اخذت دعماً لتطوير السيناريو في مهرجاني "روتردام" و"لوكارنو" وليس للفيلم. ما ردك على التهمة التي توجه للتمويل؟. - طيب، الدولة نفسها تمول من الخارج، وكل نشاطات حياتنا ايضا يضحك لماذا السينما لا تمول؟ انا لست ضد التمويل وكنت اتمنى ان يكون ثمة تمويل لفيلمي "عرق البلح". ما الذي يجمع بينك وبين بطل الفيلم الذي رفض السفر والهجرة؟. - انه بقي ولم يسافر.. وانا طول الوقت كنت اقول يا رب ساعدني حتى استطيع ان أكوّن بيتاً واسرة من دون ان اسافر. واخيرا، هل النخلة في الفيلم هي مصر؟. - النخلة هي الخير الذي زرعناه بأيدينا.. النخلة هي الوطن، والخير موجود في الوطن، والنخلة هي الشيء العملاق رمز جذورنا وتراثنا وتاريخنا الطويل، وقطع النخلة يعني اننا نقطع جذورنا.