"آخر ايام سقراط" هو العمل المسرحي الثالث الذي ابدعه الفنان منصور الرحباني منفرداً بعد رحيل شقيقة عاصي، وكان قدم من قبل مسرحيتي صيف 840 عام 1987 والوصية 1993، ولأن منصور كان اكد غير مرة ان من رحل هو عاصي ومعه جزء من منصور، وان من بقي هو منصور ومعه جزء من عاصي، لذا فإن مشاهدي "آخر ايام سقراط" في دار الاوبرا المصرية يرون ملامح عدة مما قدمه منصور مع عاصي مسرحياً على مدى نحو 30 عاماً، بل ان سقراط يحمل شذرات كثيرة من اعمال سابقة للاخوين رحباني منها "جبال الصوان" 1968 و"يعيش يعيش" 1970 وحتى "بترا" 1977. ويبرر منصور اختيارة شخصية سقراط تحديداً لتقديمها في نص مسرحي بقوله: "لأنه حان وقت الصراخ، وعذابات الانسان اكتملت، ولان العدالة قلت في الارض، والظالمين امعنوا بالاعتداء على الحرية، ولان شعب اثينا القديمة هو كل شعب في الارض، فالظلم واحد والفقر واحد، والضرائب التي ارهقتهم ترحقنا ولاننا مثلهم نقاتل من اجل الخلاص". ولكن على ما يبدو ارتكز اختيار منصور لشخصية سقراط على امور اخرى بينها ان شخصية سقراط ببعدها التاريخي والاجتماعي تبدو قريبة جداً من الشخصيات الرحبانية المسرحية، كغربة مثلا في "جبال الصوان" او زاد الخير في "ناطورة المفاتيح"، ولان مسرح الرحابنة طالما كان مع الانسان ضد الظلم والقهر، ولانه ايضا مع التغيير والحث على الثورة كان من الضروري استدعاء سقراط ليموت من جديد في مساحة كل مدينة. تبدأ المسرحية باحتلال جيوش اسبرطة لأثينا وطن الفكر والفلسفة، ويعيّن القائد الاسبرطي ليساندر كريتياس احد تلامذة سقراط حاكما على اثينا، ويؤلف الاخير بدوره وزارة من 30 وزيراً عرفوا ب""الطغاة الثلاثين" كما يحل الحزب الديموقراطي، ويعدم وينفي الكثيرين من اعضائه، ولان "الارض بتساع الكل لكي ما بتساع الناس والظلم، ولما بيوقع الظلم بتضيق الارض" يبدأ سقراط في مهاجمة تلميذه وحكمه الظالم في الساحات العامة داعياً الى التغيير والثورة على الظلم، قائلاً "انا وهالعصا وهالثياب المدروشة جايين بالثورة"، ما يذكرنا بمقولة مشابهة لسيف البحر في "صيف 840" ومفادها: "انا جاييكن بالثورة بغموض وفرح الثورة جاييكن بالتغيير"، وبسبب حاجة المجتمع الاثيني المهزوم الى ضحية "كبش محرقة" تبرر انكسارة امام جيش اسبرطة يدبر انيتوس تاجر الجلد الحاقد على سقراط مؤامرة لمحاكمته بتهمة افساد الاخلاق وتهديم الدين، وتعقد محاكمة صورية لسقراط، ويحكم عليه بالموت بشرب السم. ويرفض سقراط عروض تلاميذه بالهرب من السجن "خبروني في مكان برات السجن ما فيه موت"، كما يرفض النفي خارج اثينا مذكراً ايانا بقول زنوبيا الشهير" لا إذا انا بهرب الارض ما تهرب، واللي بيقى لوحدة شرف الوقفة صرخة بوجه الظلم". ويرفع كأس السم هاماً باجتراعه، غير ان تلاميذه، يرفضون، معللين بأنه "عناحكي كثير وسؤلات كثير" وهم متشحون بالسواد. ويجرع سقراط الكأس كأنه يصرخ صرخة زنوبيا "كاسك ياموت". ورغم ان المسرحية توافرت لها عناصر وامكانات لم تتوفر لمسرحية رحبانية من قبل نحو 77 ممثلاً وراقصاً واوركسترا كييف 140 عازفا ومنشدا!، وكلفة انتاج فاقت النصف مليون دولار، الا انك تشعر وانت في قاعة المسرحة بأنك شاهدت وسمعت الغالب الاعظم مما امامك في اعمال رحبانية سابقة. مثلا مشهد جرع سقراط السم، يشبه مشهد جرع زنوبيا للسم في "ناس من ورق". ومشهد نزع التلاميذ الثياب السوداء فور موت سقراط، يشبه مشهد نزع اهالي "جبال الصوان" لثيابهم السوداء لدى عودة غربة. بل ان شخصية سقراط تطابقت في امور كثيرة مع شخصية "غربة" في وقوفها في وجه السلطة المحتلة الظالمة مرة، وبحثها الشعب على الثورة والتغيير تارة اخرى. حتى موت سقراط جاء قريبا من مقتل غربة على البوابة وفي اختيارهما للموت الذي حددته الاقدار سلفا، من اجل الخلاص والحرية، لدرجة ان المشاهد المتابع لاعمال الرحبانية يتوقع ان ينشد سقراط "ندهتني النسمة الغريبة ولفحتني ريح السفر". ليس هذا وحسب بل ان قول سقراط "بس التاريخ بدو ينكتب، مين اللي بيكتبو؟ المنتصر وانا راح اكتب التاريخ.. وانتصاري عليكن بالزمان اللي جاي"، يذكرنا بمقولة اهل جبال الصوان المشهورة "تعب السيف ما تعب البطل، سكر السيف ما سكر البطل، انكسر السيف، انكسر اللي انتصر، انكسر الموت ما انكسر البطل" نعم لم ينكسر سقراط فهو مات واقفاً ولم ينكسر، وظهر طيفة في خلفية المسرح وكأنه صاعد الى السماء، ما جعله يبدو اقرب الى السيد المسيح منه الى سقراط، وذلك بعد وضع المشلح الاحمر على كتفيه، وبدت الغانية "تيودورا" في الفصل الثاني اقرب الى مريم المجدلية. حتى اغنية النهاية الرحبانية التي تدعو الى الحلم والامل في غد افضل كما في كل مسرحيات الاخوين رحباني، بدت قريبة من اغنية مجد العروس في نهاية "جبال الصوان" بعد مقتل غربة. في سقراط، تقول الاغنية "الراكع بدو يعلي الطاعني بدو ينزل، ما في ع جبينك تاج، لا عرشك دهب وعاج"، وفي جبال الصوان: "مجد العروس غمر الارض والطاعني هرب من صوتها. تاجها على تاجو انكسر والقوى وقع بالهزيمة". على صعيد الاخراج اعتمد مروان الرحباني نجل منصور الاسلوب السينمائي في تقطيع المشاهد مستفيداً من تجاربه السينمائية السابقة، ما حافظ على ايقاع المسرحية. ونجح مروان في اخراج مشهد السجن، عندما جعل الجمهور في القاعة يبدو وكأنه في سجن واحد مع سقراط. وبدت عناصر اخرى موفقة جداً، مثل ديكور روجيه جلخ وازياء غابي ابي راشد. موسيقياً عمل منصور الرحباني للمرة الاولى بشكل مكثف مع اولاده مروان وغدي واسامة، فشاركوه كتابة نصوص الاغاني وتلحينها وتوزيعها موسيقياً. وللمرة الاولى ايضا لم يفضل منصور عمله عن عمل اولاده. وكان مروان وغدي شاركاه في توزيع عدد من اغنيات مسرحية "صيف 840" وفي "الوصية" شارك اسامة في التلحين والتوزيع، فيما شارك غدي في التوزيع فقط. بقي انه في هذا العمل تحديداً، بدت فكرة الوطن الحلم لدى الرحبانية اكثر تكثيفا، لا سيما مع سقراط وافلاطون وجمهوريته الفاضلة التي تلاقت وامتزجت مع وطن الرحبانية "فتش تانفتش ع جمهورية ما منعرف اسما ولا وييني، قولك حقيقة او مش حقيقة". هذه الجمهورية او الوطن الحلم بعيدة المنال كلما شعرنا بالاقتراب منها، فوجئنا بأن "الحرية كذب والعدالة كرتون، وكل حكم باطل بالارض". يرفض منصور فكرة ان هذا الوطن خيال، لان الذي سقط في العام 1975 هو وطن التوافقات وليس لبنان الحقيقي الذي يؤمن منصور بأنه "جايي لبنان البساطة، جايي تيشيل الوجوه المصبوغة، الوعود المدفوعة، وياخدهن الشتى يا وطني العظيم، نهر الفرح والع وبضو الفجر الطالع تتوهج الحياة". لقي العرض صدى طيباً لدى الجمهور المصري الذي كان متعطشاً لمشاهدة العروض الرحبانية، و"سقراط" هو العرض الرحباني الاول الذي ينتقل كما هو بعناصره كاملة من بيروت الى القاهرة.