لم يسع منصور الرحباني الى حصر نصّه المسرحي "آخر أيام سقراط" في شخص الفيلسوف الاغريقي وفي فلسفته بل شاء نصّه مقاربة للفترة الاخيرة من حياته التي تقاطعت مع احدى الحقبات السياسية البارزة في تاريخ أثينا. ولم يعمد الرحباني الى جعل سقراط واعظاً يلقي الخطب مقدار ما جعله شخصاً شعبياً يعاني ما يعانيه الناس ويناضل من أجل مثله العليا. بل مضى الرحباني في رسم صورة أليفة جداً لسقراط مذ جعله يرقص ويشرب ويلجأ الى دار الغانية الجميلة تيودورا. بدا سقراط وفق الرؤية الرحبانية انساناً عادياً جداً ولولا بعض الحكم التي تفوّه بها ولولا محاكمته لكان من الممكن ان يكون وجهاً آخر لسقراط، وجهاً جميلاً وهائماً. المهم هنا أمثولة سقراط التي افاد الرحباني منها ليسقطها على واقعنا فما حصل في أثينا يحصل في كل مكان وكل زمان. ولم يختر منصور الرحباني آخر أيام سقراط الا ليحتفل بمحاكمته احتفالاً تراجيدياً وليضيء الحقبة التي صادفت تلك الأيام الأخيرة وفيها احتل الاسبرطيون مدينة أثينا وعيّنوا كرتياس تلميذ سقراط حاكماً قاسياً لم يرحم الحزب الديموقراطي الذي كان مسيطراً على أثينا. إذاً الأمثولة التاريخية هي الهدف، وعرف الرحباني كيف يصوغ بعض الجمل السياسية التي تثير حماسة الجمهور، مذكّرة اياه بالسيادة الغائبة والعدالة والضرائب وسواها من قضايا. وبدت هذه الجمل أقرب الى الكليشيهات التي يحتاج اليها الجمهور العريض عادة ليصفق ويتحمّس. لجأ منصور الرحباني في كتابته المرحلة الأخيرة من سيرة سقراط الى محاورات افلاطون وأكزينوفون وكانا من تلاميذ سقراط. فالفيلسوف الذي يسميه منصور "احكم حكماء الأرض" لم يترك اثراً مكتوباً، وقد تولّى افلاطون نقل تعاليمه في محاورتين مهمتين هما "محاورة الدفاع" و"محاورة أقريطون". وكذلك فعل أكزينوفون اذ نقل بعض تعاليم استاذه. اما المرجع المهم الآخر والذي لم يعتمده منصور الرحباني فهو مسرحية "السحب" للكاتب الأغريقي أرستوفانيس وفيها يقدم سقراط استاذاً وصاحب مدرسة يعيش فيها الطلاب حياة مشتركة ملؤها الزهد والفقر. غير ان الرحباني لم يهدف الى كتابة نص مسرحي عن سقراط بل شاء سقراط ذريعة ليبني نصّاً يمثل المرحلة التي حوكم فيها الفيلسوف الأغريقي. وهكذا برزت شخصيات اخرى اضافة الى شخصية سقراط مثل كريتياس الحاكم الديكتاتور وانيتوس أحد زعماء الحزب الديموقراطي وغيرهما. وبرزت كذلك احداث سياسية لا ترتبط مباشرة بشخصيّة سقراط ومنها سقوط أثينا امام الزحف الاسبرطي ثم انتصار الحزب الديموقراطي على الحكم الظالم وحكومة الثلاثين. طبعاً كان سقراط هو المحور فهو رفض الانصياع لحكم تلميذه الذي خان مبادئه وانقلب الى حاكم قاسٍ وجشع ورفض كذلك حكم الديموقراطيين الذين اتهمهم بالفساد والظلم. بدا سقراط فيلسوفاً رافضاً وحكيماً شعبياً يزور عامة الناس ويدخل الحوانيت ويحرض العمال على الرفض. فالشارع هو القاعدة التي ينطلق منها ويرجع إليها. والشعب هو مرجعه الأول والأخير. ولئن كتب منصور الرحباني النصّ والموسيقى فأنّ الاخراج تولاه مروان الرحباني وقد بدا وفياً للنصّ وللموسيقى في المعنى المسرحي طبعاً. ونجح الرحباني الابن في جعل النص الدرامي منطلقاً لبناء عرض قائم على الجمالية البصرية والمشهدية وعلى الحركة والرقص. وسعى الى ترسيخ مبدأ المسرح الشامل الذي يوائم بين التمثيل والرقص، بين الدراما والميوزيكال، بين الموسيقى والغناء. وقد حشد المخرج قرابة ستين عنصراً بين ممثلين وراقصين ووزّعهم على الخشبة وفق أدوارهم ووفق المواقف التي يؤدونها. واختلط الممثلون والراقصون حيناً وانفصلوا حيناً آخر ولم يتوان بعض الممثلين عن أداء الرقصات الطفيفة مشاركة منهم في احياء الجو الاحتفالي الذي شاءه المخرج. ولم يكن من السهل تحريك الجماعات، وقد برزت بعض اللوحات الجماعية المرسومة برهافة وجمالية كمشهد الاحتفال ومشهد القضاة المقنعين بالأبيض وبرزت كذلك بعض المشاهد السينوغرافية كمشهد السفينة وبعض المشاهد الأخرى. ونجح المخرج في بلورة الكورس الاغريقي اذ جعله مجموعة من النسوة المتشحات بالأسود يطللن بسرعة ويلقين بعض الجمل موحيات بالمأساة التي ستحل بمدينة أثينا. وحسناً فعل المخرج بتعاونه مع مصممين للرقص والكوريغرافيا فليكس هاروتونيان وسامي خوري حتى وان بدت بعض اللوحات ضعيفة لا سيما وسط الجو الاحتفالي الباهر. "آخر أيام سقراط" ليست عملاً مسرحياً عادياً فالانتاج الضخم بدا واضحاً سواء في تصميم السينوغرافيا الجميلة والمفاجئة دوماً أم في تصميم الملابس التي كانت تتبدل من حين الى آخر ومن مشهد الى مشهد. وتجلت الضخامة ايضاً في الموسيقى التي كتبها منصور في مشاركة أبنائه مروان وغدي وأسامة وقد عزفتها اوركسترا كييف السمفونية مانحة الجُمل الرحبانية الحجم الموسيقي الذي تستحقه. وحملت المقدمة الموسيقية الأولى ملامح جديدة بدت كأنها تطوير حي للموسيقى الرحبانية، واختلط العمل المشترك بين منصور وابنائه ولم نعلم ماذا كتب الابناء من الحان ومقاطع وماذا كتب منصور. الا ان لمسات منصور ظلت واضحة في بعض الأحيان سواء تأليفاً أم توزيعاً أوركسترالياً. أما الاغنيات الفردية فلم تكن كثيرة، فالمطربة الشابة والواعدة جداً كارول سماحة أدّت اغنيتين جميلتين هما "روح ولا يهمّك" و"غرّب الليل" ونمّ اداؤها عن صوت جميل ذي مسحة خاصة جداً. وأدت كذلك المطربة هدى اغنيتين جميلتين ايضاً هما "لو فيّي خبيّك" و"تشكّينا". وبرزت بعض الأغاني الثنائية ذات الطابع الجديد، وكالعادة ادى بعض الممثلين حوارات ملحنة وعلى الطريقة الرحبانية المعروفة. وإن بدت "آخر ايام سقراط" مختلفة بعض الاختلاف عن العالم الرحباني الذي أسسه الاخوان عاصي ومنصور فأن الاختلاف يرجع الى الموضوع الذي اختاره منصور والشخصية، شخصية البطل التي اعتمدها ايضاً. فالبطل فيلسوف إغريقي والاحداث تحصل في اثينا والبطل سيصبح هو الضحية البريئة التي يكفّر بها عن الآثام المرتكبة، وكان من السهل على البطل ان يشرب السم من ان يتراجع عن مبادئه. فسقراط كما رسمه منصور سوف يظل سقراط الفيلسوف مهما بلغ طابعه الشعبي ومهما أصبح رحبانياً. وبدت المؤامرة عليه سهلة لأنه كان يدرك انه سيبقى شبه وحيد في الختام وليس من حوله سوى بضعة تلاميذ وامرأة وغانية. أما المآخذ التي أخذتها السلطة عليه فهي دينية وسياسية. فقد اتهم برفضه الآلهة المتعددة وإيمانه باله واحد واتهم كذلك بتخريب عقول الشباب وإفساد الأخلاق وهدم الدين. الا أن سقراط كان الضمير الحي واليقظ الذي يخيف السلطة وكان الصوت الصارخ الذي تهابه الدولة كلّها. علماً انه كان ضعيفاً وأعزل ولا يملك من سلاح سوى افكاره الاصلاحية ومبادئه الفلسفية. وحين أودع السجن جاء من يحاول تهريبه من قرار الاعدام ورفض الفرار مؤثراً كأس السم. وشرب تلك الكأس ومات واقفاً وقفة عزّ. والنهاية طبعاً شاءها المخرج ونجح فيها أيما نجاح لا سيما بعدما اطل سقراط منتصباً كتمثال من وراء الضباب وكأنه لم يمت، بل كأنه تحدى الموت وانتصر عليه. فسقراط هو الذي بقي، أمّا القضاة المزورون والمقنعون بالأبيض فيما داخلهم شديد السواد فلم يبق منهم احد ولا بقي أنيتوس ولا أحد من الذين تآمروا على سقراط. لم يعقّد منصور الرحباني ملامح الشخصيات وعلاقاتها بل تركها بسيطة وعفوية، وكما شاء سقراط بطلاً رحبانياً وشعبياً شاء زوجته كزنتيبي شخصية عادية جداً وكأن لا علاقة لها بزوجها وفكره. وزاد اداء هدى المؤسلب والضعيف من ضعف الشخصية، وقد ذكرت كعادتها بالمطربة الكبيرة فيروز وكان على المخرج ان يكسر الاطار الذي وضعت فيه هدى كي تذكّر بالمطربة فيروز. وهي طبعاً لم تستطع ان تحل محلها ولا ان تملأ الفراغ الذي تتركه فيروز في المسرح الرحباني. أما افلاطون فبدا عادياً جداً ولم يكن ذلك الفيلسوف الكبير الذي عرف سقراط زهاء عشرين عاماً ولم يتوان عن الغناء بدوره، وكذلك كان الفيلسوف اكزينوفون أقرب الى الطيف. ربما كان على الاخراج الذي نجح في تحريك المجموعات وفي خلق جو احتفالي أن يوثق علاقات الشخصيات بعضها ببعض فلا تبدو علاقاتها تلك بسيطة او مبسطة. فالشخصيات غالباً ما تصنعها حواراتها التي تقترب كثيراً من المونولوغات القصيرة المتداخلة، انها شخصيات رحبانية اكثر مما هي شخصيات إغريقية، شخصيات تسيطر عليها وجهة نظر الكاتب ولا تخلو حواراتها من الشعر حيناً ومن الكلام الوجداني حيناً آخر. كان على الاخراج ان يجعل تلك الشخصيات من لحم ودم أكثر وأن يرسّخها في الواقع خصوصاً انها شخصيات واقعية وليست قدرية في المعنى الاغريقي. حتى سقراط نفسه بدا واقعياً في قراره الاخير وان تحول الى بطل تراجيدي. ولعل مشهد شرب السم كما شاءه المخرج انقذ العمل من الميلودرامية التي كان من الممكن ان يقع فيها. فإذا الموت افتداء وانتصار على الموت. ونظراً الى بساطة العلاقات التي جمعت بين الشخصيات بدا بعض الممثلين وكأنهم يمثلون كل على حدة وبدا بعضهم كأنه يؤدي كلامه اداء مصطنعاً. لكن ممثلاً مثل رفيق علي أحمد استطاع ان ينجح في اداء شخصية سقراط وفي تلوينها وفي تكوين ملامحها وكان ذاك الفيلسوف الذي ضحّى بنفسه من اجل قضيته. وكان ايضاً ذلك الرجل الشعبي الذي يحب الناس ويشاركهم معاناتهم، يرقص ويغني ويشرب ويؤنب امرأته كأي رجل عادي. ونجحت كارول سماحة في اداء شخصية الغانية اذ منحتها الليونة والطواعية جسداً وصوتاً وتعبيراً. اما الممثل وليم حسواني فأطل كعادته بصوته ومشيته ممثلاً رحبانياً صرفاً. وذكر صوته بالشخصيات السابقة التي أداها في الاعمال الرحبانية. نجح منصور الرحباني في كتابة نص يستوحي التاريخ ويستخلص منه العبر ونجح ايضاً في اسقاط "الامثولة" السقراطية بل الاثينية على الواقع اللبناني وأثار حماسة الجمهور الذي بات يحتاج الى من يعبّر عن همومه اليومية. لكن الرحباني استطاع ان يرتقي بالفيلسوف سقراط الى مصاف البطولة الحق إذ جعل منه ضحية للمثل والمبادىء التي آمن بها، بل جعله يفتدي نفسه ويفتدي العالم في الحين عينه فمات واقفاً ومبتسماً غير خائف من كأس الموت. إنها "تراجيديا" رحبانية فيها من الشعر ما فيها من السخرية، فيها من البطولة ما فيها من الحق. تراجيديا تنتهي نهاية شبه سعيدة على الرغم من موت البطل. فالموت هنا ليس الا حافزاً على الحياة والدم ليس الا "حبر الحقيقة" كما قال منصور الرحباني. انها تراجيديا حديثة احتفالية تتوجه الى الجمهور بصرياً لتفتنه بأضوائها وأزيائها ورقصاتها وتتوجه اليه سمعياً لتفتنه ايضاً بموسيقاها وألحانها الجميلة. انها مسرحية شاملة جمعت بين المسرح والرقص والموسيقى جمعاً مرهفاً وذكيّاً، ونجحت في مخاطبة الجمهور العادي والجمهور المثقف. ولعله الرهان الذي نجح فيه منصور الرحباني كل النجاح. * تقدم المسرحية على مسرح كازينو لبنان، شارك في التلحين والتوزيع مروان وغدي وأسامة الرحباني، الاضاءة: فؤاد خوري، الازياء: غابي أبي راشد، الديكور: روجيه جلخ، مستشار فني: نقولا دانيال.