قدّر لأهالي بلدة شبعا الرابضة على سفوح جبل الشيخ في أقصى الجنوب شرقاً أن يعيشوا صراعاً مريراً مع الإحتلال الإسرائيلي الذي يمارس في حقهم صنوفاً من التنكيل والتعذيب والإرهاب منذ العام 1967، وما زالوا إلى اليوم يدفعون ثمن رفضهم التعامل معه، قتلاً واعتقالاً وتفجير منازل وإبعاداً. وكأن هذه البلدة التي كتب عليها أن تتحمل لعنة قمة جبل حرمون ذاك الموقع الاستراتيجي الذي زرعه الجيش الإسرائيلي بمراصد يشرف من خلالها على فلسطين وسورية ولبنان، كأنها لم تكفها ما عانته من قسوة الطبيعة حتى بلغ من شراسة إرهاب الإحتلال إبعاد كثر من شيوخها ونسائها وأطفالها، وهي البلدة الجنوبية الأولى التي ذاقت مرارة التهجير. ففي السابع من كانون الثاني يناير الجاري، وفي طقس قارس ووسط تساقط الثلوج، اقتلع الإحتلال الإسرائيلي أسرة عن آخرها من ال نبعة من بلدتها كان أفرادها يحضّرون لتناول إفطار رمضان، وهم إمرأة عجوز خط الشيب شعرها ورسم الزمن بمآسيه خطوطاً على ملامح وجهها هي عزيزة شحادة موسى على رغم سنيّها التي لم تلامس الستين، وأبناؤها الخمسة حسن خليل ابراهيم نبعة واسماعيل اعتقلا في 27 كانون الاول /ديسمبر من العام الماضي وأودعا سجن الخيام ومحمد وأحمد وقاسم وزوجاتهم الخمس وأطفالهم الستة عشر الذين تتفاوت أعمارهم بين أربعة أشهر كلارا و13 عاماً إيمان، حين اقتحمت منازلهم مجموعات أمنية من "جيش لبنان الجنوبي" مدججين بالسلاح يساندهم عناصر من المخابرات الإسرائيلية ودفعوا بهم قسراً إلى أحضان الوطن خارج المنطقة المحتلة التي طالما رغبوا في عودة الشرعية إليها تاركين وراءهم جنى العمر والرزق. وجاءت عملية الإبعاد بعد اثني عشر يوماً من الحصار المطبق الذي فرضته قوات الإحتلال على البلدة اثر اغتيال مسؤول أمن "الجنوبي" فيها غسان ضاهر لإبعاد الشبهة عنها، في سياق الصراع الدائر بين الأجنحة هناك والأسلوب الذي تتبعه إسرائيل في تصفية الرموز الذين يختزنون ملفات أمنية وبالتالي إحداث فتن بين العائلات، على ما قال ل"الحياة" أبناء البلدة. إذ دفعت بقوة من "الجنوبي" معززة بالمدرعات وناقلات الجند تواكبها أجهزة الإستخبارات الإسرائيلية إلى داخل أحياء شبعا. وراح الجنود من فورهم يدهمون المنازل وسط زخّات الرصاص على جدرانها وفوق رؤوس المواطنين من الشيوخ والنساء والأطفال، الذين أوقفوهم على حين غرّة وفرضوا عليهم الركوع في الشوارع بعدما انهالوا ضرباً بأعقاب البنادق على اجسادهم فأصيب الكثيرون منهم في حال إغماء. ومع إحكام الحصار على البلدة لجأ عناصر الأمن الى اعتقال شبّان كثر للتحقيق معهم بعدما منعوا التجول من دون التوقف عن اطلاق النار في كل اتجاه ناشرين الهلع والرعب بين السكان مع تشديد الأوامر بمنع دخول التموين والأدوية والمحروقات إلى شبعا التي يكسوها الثلج على مدار السنة تقريباً لارتفاعها 2814 متراً عن سطح البحر. ويأتي هذا كله على مرأى ومسمع من قوات الطوارئ التي تخضع البلدة لسيطرتها وسيطرة الاحتلال. ومن العمروسية في صحراء الشويفات حيث حط رحال العائلة في منزل متواضع من ثلاث غرف لقريب لها اسمه وجيه نبعة تروي السيدة عزيزة موسى ل"الحياة" عن ذلك "اليوم الأسود" بالقول: "نحو الثالث والنصف بعد الظهر وبينما كنت أحضّر إفطار رمضان فوجئت بثلاث سيارات تقل عناصر مشتركين من "الجنوبي" والإسرائيليين يحاصرون المنزل ثم اقتحمه ثمانية عناصر لحديين وطلبوا مني مغادرته على الفور. ولما حاولت الإستفسار أبلغوني أن عليّ ترك كل شيء والخروج كما أنا. وهكذا الحال بالنسبة الى عائلات أبنائي الخمسة وأطفالهم. وضعونا في ساحة البلدة مع أبنائي وزوجاتهم وأحفادي الذين جمعوا بعضهم من المدارس وسط الصقيع وتساقط الثلوج نحو ساعة الى ان أحضروا اربع سيارات وبيك آب نملكها، ووضعونا داخلها وساقونا امامهم الى مبنى الأمن في حاصبيا حيث أدخلوا ابنائي وزوجاتهم اليه بعض الوقت وأنا إمرأة عجوز والأطفال الستة عشر أوقفونا على الثلج، ثم اخرجوهم وطلبوا منا مرافقتهم الى معبر زمريا ولما أبلغونا رغبتهم في إبعادنا سألهم ابني السبب فأسمعوه كلاماً قاسياً. وعندما طلب منهم السماح بالعودة الى البلدة لجلب حاجات الأطفال رفضوا، فتجادل معهم، الأمر الذي دفع بعدد منهم الى تكبيله ثم انهالوا عليه بالضرب المبرح وبأعقاب البنادق وأدخلوه مكتب الأمن ونحن في العراء وسط بكاء الاطفال ونحيب النسوة من دون ان تنفع توسلاتنا لهم بتركه ليخرجوا به بعد قليل مغمى عليه، والدم يسيل من وجهه. ثم اقتادونا الى معبر زمريا بعدما حل الظلام ونحن صيام والأطفال الرضّع من دون طعام وحشرونا جميعاً داخل سيارتين وفي صندوقيهما وعلى الشبك بعدما استولوا على السيارات الاخرى وفتحوا لنا الحاجز وأمرونا بالإنطلاق فتوجهنا من هناك الى حاجز للجيش اللبناني الذي تولى عناصره نقلنا الى ثكنة راشيا الوادي وأتوا لنا بالطعام وحليب الأطفال ثم أحضروا لنا سيارات للصليب الأحمر أقلّتنا الى بيروت". وتتابع كلامها والغصة تكاد تخنقها "عيد حزين مرّ علينا هذا العام. قضيناه بكاء بعيداً من بيوتنا وأرزاقنا وأبنائنا المعتقلين. كان يوم حداد بالنسبة إلينا". مناشدة أم وناشدت والدة المبعدين العجوز، التي قتل الإسرائيليون زوجها رمياً بالرصاص في العام 1967 عندما استولوا على مزارع شبعا وفجّروا منازلها، الرئيس اللبناني إميل لحود "الذي استبشرنا فيه خيراً وسمعنا عن اهتمامه بنا وقلقه لما أصابنا"، ورئىس الحكومة سليم الحص "لرعايته واستقباله لنا واحتضاننا غداة وصولنا إلى بيروت" أن يعملا "لإعادتنا الى بلدنا وجمع شمل عائلتنا". وتضيف بصوت حزين "بدّي إرجع لأكون قريبة من أولادي في سجن الخيام. لم أعد أحتمل بكاء أطفالهم وهم يكررون عليّ: بدنا بابا يا تاتا"، وهنا خنقتها الغصة ولم تعد تقوى على الكلام، وتولى عنها ابنها احمد الذي فقد ثلاثاً من اصابع يده اليمنى في بداية الثمانينات بفعل انفجار قلم من مخلّفات الإحتلال، حين كانت الطائرات الإسرائيلية ترمي لعباً مفخخة في المنطقة، عثر عليه اثناء تشييد احد المنازل المحاذية للبلدة. وروى حكاية الإبعاد وهي أشبه بالقصص البوليسية التي مارسها في حقهم عناصر المخابرات من ساعة الإعتقال حتى إخراجهم من المنطقة المحتلة. وقال: "كنا في المنزل نحضّر للإفطار وإذا بمجموعة مسلحين تدخل علينا من دون استئذان ويطلب المسؤول عنهم مني الخروج وعائلتي بما نحن عليه من دون ان يسمحوا لنا بأن ننبس ببنت شفة. ثم اصطحب آخرون من تبقى من ابناء اخوتي من المدارس ووضعونا في العراء وسط البلدة ثم اقتادونا الى حاصبيا. ونحن في الطريق أطل باص المدرسة الذي يقل ابنتي غصون 5 سنوات وابن اخي محمد 10 سنوات من مدرستهما في مرجعيون. فقطعوا عليه الطريق وأنزلوهما منه وهما يبكيان ويرتجفان برداً ورموهما داخل السيارة ثم تابعوا سيرهم الى حاصبيا وأنزلونا من السيارات وراحوا يجرّبون عضلاتهم بي وبأخوتي ثم تقدموا نحو النسوة وانتزعوا ما في حوزتهن من ذهب وحلي وأموال تمكنّ من جمعها على عجل، بعدما كانوا عبثوا بمحتويات منازلنا وسرقوا ثلاثة اجهزة هاتف خليوي و25 الف دولار من منزل اخي المعتقل وهي جنى العمر وكانت مخبأة في الخزانة لعدم توافر بنوك عندنا. ثم زجّونا 25 فرداً داخل سيارتين وأبعدونا الى حيث تسلمنا الجيش اللبناني وكان في استقبالنا موفد من قائده حضر للإطلاع على اوضاعنا، وبعدما قدّموا إلينا المساعدات حضر الصليب الأحمر وأقلّنا الى العمروسية حيث استقبلنا أبناء بلدتنا وهيئة أبناء العرقوب، وساعدونا واصطحبونا الى السرايا الكبيرة لمقابلة الرئيس الحص من اجل إثارة قضيتنا وإعادتنا إلى بلدنا". وربط أحمد عملية الإبعاد برفضه وأخوته الأربعة الإنخراط في صفوف جيش لحد. وقال "منذ سنتين وجهاز الأمن في "الجنوبي" يلاحقنا لتجنيدنا معه، تارة بالتهديد وطوراً بالترغيب ولم يلقَ منا، كل مرة، إلا الرفض فعرض علينا التعاون امنياً معه او مع الادارة المدنية ولما حانت الفرصة له ووجد أن محاولاته لم تفلح معنا أقدم على إبعادنا". وتقول إيمان 13 عاماً ابنة المعتقل اسماعيل، وحال الصدمة لم تبارح ملامحها الشقراء وهي تتذكر دخول "العساكر" قاعة صفها مصوّبين بنادقهم نحو التلامذة وسؤالهم عنها "وقفت مرعوبة فتقدم احدهم وجرّني بيدي خلفه وأنا أبكي وأسأله ما ذنبي وماذا فعلت؟ فطلب مني السكوت، ولم يسمح لي بجلب محفظتي وكتبي. ولحظة وصولي الى البيت وجدته محاصراً بالمسلحين والسلاح مصوّب نحو والدتي وأخوتي الصغار وهم يرتجفون من شدة البرد، فعلا صراخهم حين رأوني ثم اخذونا الى الساحة حيث وجدت اعمامي وأبناءهم متجمعين في انتظارنا". وببراءة الأطفال تضيف إيمان "أطلب من الرؤساء والمسؤولين أن يرجعونا إلى بلدنا، انا مشتاقة إلى البابا. بعدو بالسجن وخايفة ما يكونوا عم يعذبوه، ومشتاقة لرفقاتي بالمدرسة وإن شاء الله ما تروح عليّ السنة الدراسية. بيروت مش مثل ضيعتنا، هونيك منلعب بالحي مع اصحابي، هون مزروبين بالبناية ما بنعرف حدا حتى نلعب معه في الحي". رواية محمد اما محمد الذي لم يبلغ العاشرة فيروي ل"الحياة" حال الخوف التي انتابته وهو عائد في باص المدرسة الى البيت، ويقول متذكراً ما حدث معه: "لم يفارقني ما رأيت لحظة واحدة، كنت ألهو في الباص مع رفاقي عندما شاهدت قافلة من السيارات تعج بالمسلحين لتقطع فجأة الطريق علينا. وترجل عدد منهم وأشاروا الى السائق بالتوقف. ثم صعد اثنان الى الباص وسأل احدهم اين محمد نبعة؟ فارتجفت فزعاً ثم تقدّما إليّ وحملاني عنوة ورمياني داخل سيارة عسكرية، فوجدت اهلي فيها. ولما حاولت التحدث مع أمي وضع العسكري يده على فمي وهددني بالضرب اذا تكلمت. ثم منعني من مساعدتها على حمل اخي الصغير، وعمره سبعة اشهر، اذ كان يبكي ويريد ان يرضع". وحال الأطفال المبعدين عن مدارسهم عنوة كحال آبائهم الذين أمسوا من دون عمل بعدما أبعدوا عن عملهم في مجال البناء ورعاية الماشية قسراً. فمتابعة الدراسة في بيروت او شبعا مرهونة بنجاح الإتصالات التي تجريها المراجع المختصة مع المعنيين من اجل عودتهم. وللوقوف على خلفية الإبعاد والعمل الذي يمكن القيام به مستقبلاً، التقت "الحياة" في منزل الأسرة المبعدة رئىس هيئة أبناء العرقوب مدير مدرسة شبعا المبعد يحيى علي الذي يتولى متابعة الموضوع، فقال "إلى اهتمام المسؤولين حصل تضامن اجتماعي مقبول من بعض الجمعيات الأهلية مع المبعدين، وتلقينا مساعدات مالية من مجلس الجنوب بناء على طلب الرئيس الحص، اضافة الى الصليب الاحمر الدولي الذي بدأ بتحركه مع المركز الرئيس في جنيف للعمل على اثارة قضيتهم مع المعنيين من اجل اعادتهم والسماح له بمقابلة الشقيقين المعتقلين في سجن الخيام". وأشار علي إلى أن عدد المبعدين من شبعا إلى الآن بلغ نحو 250 شخصاً، بينهم أفراد أسرتين من آل هاشم أبعدوا قبل شهر. وقال "ان اجراءات الإبعاد مقصودة لرفض التعاون مع اسرائيل وانتقاماً من موقف اهالي المنطقة التي تشهد من حين إلى آخر انتفاضة شعبية في كل قرى العرقوب ضد المخطط الاسرائيلي القاضي اما بقبول الواقع الاسرائيلي والعمل داخل فلسطينالمحتلة وإما بتفريغها من سكانها". ولفت الى ان "ما يضايق اسرائيل اكثر التحرك الذي نقوم به ومطالبتها باعادة مزارع شبعا التي سوّت منازلها بالأرض وأحاطتها بالأسلاك الشائكة، ومطالبة السلطات اللبنانية بالعمل على عودة كل المبعدين وفك الحصار عن البلدة وتفعيل دور القوات الدولية المنتشرة فيها لحماية أمن المواطنين وبالتالي فتح طريق شبعا - عين عطا الخارجة عن سيطرة الاحتلال بالتنسيق مع قوات الطوارئ والجيش اللبناني اذ بذلك يتم تحرير المنطقة ويعود المبعدون اليها ويعزز صمود الاهالي فيها". وكشف علي، وهو مبعد منذ العام 1985، ان الاسرائيليين بعثوا برسائل تهديد اليه عبر اقارب له بتفجير منزله اذا واصل التحرك في هذا الاطار وإثارة قضية المبعدين، بعدما طالب الدولة بمتابعة جهودها في اثارة هذه القضية على أعلى المستويات. ولأن لجنة تفاهم نيسان ابريل التي اعتبرت ان عمليات الإبعاد لا تدخل في نطاق عملها، ولأن مساعي قوات الطوارئ فشلت في إقناع الإسرائيليين بالسماح للمبعدين بالعودة إلى ديارهم بذريعة "عدم ضمانها سلامتهم من جانب ميليشيا "الجنوبي" التي رمت المسؤولية عليها، فإن معالجة هذه القضية يجب ان تبقى في طليعة اهتمامات الحكومة اللبنانية وإثارتها يومياً وفي كل المحافل الدولية لإرباك إسرائيل كي تكون هذه العائلة القافلة الأخيرة من سلسلة قوافل الإبعاد حتى لا تليها دفعات أخرى على قائمة الإنتظار.