الكتاب: فضل العرب والتنبيه على علومها المؤلف: أبو محمد، عبدالله بن مسلم بن قتيبة الدينوري المحقق: وليد محمود خالص الناشر: المجمع الثقافي - أبو ظبي 1998م شكّل خطاب الشعوبيين وأهل التسوية مناخاً اجتماعياً وثقافياً وإيديولوجياً في المجتمع العربي/ الإسلامي، مع تحوّل السلطة السياسية إلى العباسيين، متجاوزاً دعاية الأعاجم لآل البيت، ليصبح العصر العباسي الأول بيئةً رحبةً لذلك الحراك الاجتماعي الذي طرحته الفئات الاجتماعية غير العربية، عبر أسئلتها الثقافية والإيديولوجية التي كانت تتوخّى، من خلالها، طرح عقد اجتماعي وثقافي مغاير للثقافة العربية القديمة القائمة على رواية الشعر واللغة، التي تعني من طرف خفيّ سيادة العنصر العربيّ وتفوقه. ومن هنا كان خطاب أهل التسوية داعياً إلى المساواة، اجتماعياً، بين العرب والأعاجم، وثقافياً، بين علوم الأوائل، وثقافة العرب التليدة، بل واختبار آليات الثقافة الأجنبية الجديدة - وبخاصة منطق أرسطو - على البنى الثقافية العربية التالدة: شعراً ولغةً وتاريخاً، ما دعا إلى بروز خطاب ثقافي ذي سمات سجالية / حجاجية يفاضل بين ثقافتين وجنسين، أسهم في بلورة ذلك الخطاب عددٌ من رموز المؤسسة السياسية والثقافية في المجتمع العربي في القرنين الثاني والثالث الهجريين. يأتي ابن قتيبة الدينوري ت 276ه إلى جانب الجاحظ - على الرغم من اختلاف الانتماءات الفكرية والعقائدية بينهما، بوصفهما مؤصَّلين للخطاب العربيّ الذي يساجل خطاب الشعوبية وأهل التسوية، في صورة تتعدّى - كما لدى الجاحظ - المفاضلة بين ثقافتين متعايرتين: بيانية عربية، وفلسفية أجنبية، ليصبح السجال منصباً على البيان العربي والبيان الأجنبي، الذي يأتي بوصفه الصورة المثلى التي يدعو إليها الشعوبية وأهل التسوية، ما يعني - على المستوى الثقافي والاجتماعي - محاولةَ لدكّ البنى الاجتماعية العربية، ومنافستها في ما تفخر به على الآخرين! غير أن النغمة الهادئة الجدالية لدى الجاحظ، تتحوّل إلى تلك النغمة السجالية الحادّة لدى ابن قتيبة الذي حنَّد كلّ طاقاته الفكرية والثقافية ليواجه الخطاب الثقافي الأجنبي، الذي بدا - كما في مقدمة أدب الكاتب - مهيمناً على بنية المؤسسة الرسمية، ممثلة في كّتاب الدواوين، الذين انصرفوا إلى حكمة فارس وفلسفة اليونان، وزهدوا في ثقافةالعرب وبيانهم، إلى ذلك الحدّ الذي جعلهم "عن سبيل الأدب ناكبين، ومن اسمه متطيرين، ولأهله كارهين .."، ولترتفع نبرات صوته حينما يحاول تهشيم منطق أرسطو، الذي بدأ يجلب له مؤيدين في الثقافة العربية، عبر تلك المصطلحات المنطقية، وعنوانات كتب أرسطو التي يسرد ابن قتيبة طرفاً منها، للتدليل على انصراف مثقفي تلك المرحلة عن بيان العرب وثقافتهم، وليصل إلى مقابلة منطق اليونان بلغة العرب وأصول دينهم، عبر هذه اللهجة ذات الدلالة "ولو أن مؤلَّف حدّ المنطق بلغ زماننا هذا حتى يسمع دقائق الكلام في الدين والفقه والفرائض والنحو لعدّ نفسه من البكم، أو يسمع كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلّم - وصحابته لأيقن أن للعرب الحكمة وفصل الخطاب"! إنَّ هذه اللهجة السجالية المشبعة بالحمولات اللغوية التي تستجيب للوظائف النفسية والاجتماعية لأيّ خطاب إيديولوجي مماثل، والتي نرى لها نماذج مكرَّرة في كتبه الأخرى، وبخاصة تأويل مشكل القرآن، وتأويل مختلف الحديث، يَّتسع فضاؤها الدلالي في ذلك الكتاب الذي وقفه بكامله، للبرهنة على ذلك السجال الذي يريد - فيما يبدو - أن يثبت امتلاك الثقافة العربية لالحكمة وفصل الخطاب! عن طريق هذا العنوان ذي الدلالة فضل العرب والتنبيه على علومها، وهو عنوانٌ يسكت عن مضادّه الذي يومئ عن إنكار فضل العرب وتجريدها من أيّة مزيّة أو محمدة! أو كما يقول: "إذ كان غرضنا في هذا الكتاب التنبيهَ، والدلالةَ، ودفعَ الخصم عمَّا ينسب إليه العربَ من الجفاء والغباوة"، ذلك الجحود الذي استدعى من ابن قتيبة تأليف كتاب بكامله لكي يدلّ على فضل العرب، ولكي ينبَّه على ثقافتها، عبر هذا المصطلح المضاف إليها علومها، الذي يستدعي، في الحال، علوم الأوائل من فرس وهند ويونان! يحمل الكتاب في داخله صورة للعراك الاجتماعي والثقافي في القرنين الثاني والثالث الهجريين، الذي كان له أن ينعكس على البنى الفوقية لذلك المجتمع الفسيفسائي، في وضع يتجاوز الخطاب الثقافي الذي يفاضل بين ثقافتين وفكرين، ليصبح ذلك العراك تمثيلاً للفئات الاجتماعية الصغيرة غير العربية، التي مورس عليها خطاب التهميش الاجتماعي، والقمع الثقافي، لا من الفئات العربية اجتماعياً وثقافياً، ولكن، يضاف إليها الفئات الاجتماعية والثقافية الكبرى غير العربية التي وجدت أن من مصلحتها الاجتماعية والسياسية، والاقتصادية، الانسياق وراء خطاب الثقافة العربية، بوصفه خطاب المؤسسة السياسية، ما يعني أنَّ على هذه الفئات غير العربية المهمَّشة من الطرفين، التلبُّس بخطاب اجتماعي وثقافي مغاير، وهو ماجعل ابن قتيبة في هذا الكتاب يحمَّلها تبعة النيل من العرب والثقافة العربية - ثقافة النخبة السياسية والاجتماعية - يقول ابن قتيبة: "ولم أرَ في هذه الشعوبية أرسخ عداوةً، ولا أشدّ نَصَباً للعرب من السفلة والحشوة، وأوباش النبط، وأبناء أكرة القرى. فأمًّا أشراف العجم، وذوو الأخطار منهم وأهل الديانة فيعرفون ما لهم وما عليهم، ويرون الشرف نسباً ثابتاً. وقال رجل منهم لرجل من العرب: إن الشرف نسبٌ، والشريف من كل قوم نسيب الشريف من كلّ قوم ..." وإن كان إلصاق خطاب الشعوبية إلى الفئات الاجتماعية المهمَّشة، يمكن أن يكون - إضافة إلى ذلك - قناعاً إيديولوجيا يسترضي به ابن قتيبة كبار المتنفَّذين - سياسياً - كالوزير ابن خاقان الذي أهدى إليه كتابه المهمّ أدب الكاتب، وهو - أي ابن خاقان - من أصل غير عربي! يردّ ابن قتيبة خطاب النيل من العرب - تاريخياً - إلى زياد بن أبيه، الذي أنكر عليه أعداؤه نسبته إلى أبي سفيان، ونالوا من شرفه ومكانته، ما دعاه إلى أن يعمل كتاباً في مثالب العرب لولده، وقال: "من عير كم فقر عوه بمنقصته، ومن ندّد عليكم فابدهوه بمثلبته، فإن الشرّ بالشر يتقّى، والحديد بالحديد يفلح"! وهو ما يعني أنَّ أصل النيل من العرب، وتأليف الكتب في مثالبهم، يمكن ردّه - إضافةً إلى الدوافع الحضارية والفكرية - إلى دوافع اجتماعية ونفسية، تجعل من ذكر مثالب العرب والنيل من ثقافتها وعلومها، بمنزلة الترس النفسي والاجتماعي، الذي يتمترس خلفه المنتسبون إلى الفئات الاجتماعية المهمشة والمسحوقة، ويصبح خطاب المثالب هذا، خطاباً للتسوية الاجتماعية بين الأكثر نقاءً في العروبة، والأقلّ نقاءً! وبين العرب وغيرهم، في إرجاع كلَّ من هاتين الفئتين إلى مستوًى اجتمعي واحد! يؤكّد ذلك ما يذكره ابن قتيبة نفسه عن أبي عبيدة معمر بن المثَّنى، الذي كان - كما يذكر ابن قتيبة - ممن "يحمل عنه العلم ويحتج بقوله في القرآن"! حينما جعل جزءاً من مشروعه الثقافي اللهج "بمثالب العرب"، نظراً لطبيعة البنى الاجتماعية العربية، التي تعتدّ بالنسب العربيّ، وهو ما لم يتحقّق لأبي عبيدة، فحاله - يقول ابن قتيبة - "في نسبه وأبيه الأقرب إليه حالٌ نكره أن نذكرها"! ولَّما كان كتاب فضل العرب والتنبيه على علومها سجاليّ الطابع، فإَّنه من الطبيعي أن يتوسَّل بآليات الخطاب الإيديولوجي من إخفاء وإظهار وتسويغ وتفخيم وتحقير، ففخر أبي عبيدة بملوك الفرس ليس له فيه، حسب ابن قتيبة، "حظ ولا نصيب، فإنما يفخر بملك فارس أبناء ملوكها، وأبناء عمالهم، وكتَّابهم، وحجّابهم، وأساورتهم، فأمّا رجل من عُرْض العجم وعوامّهم لا يُعرف له نسب، ولا يشهرله أب، فما حظه في سرير كسرى، وتاجه وحريره وديباجه، وليس هو من ذلك في مراح ولا مغدى ... فإن قال: لأني من العجم وكسرى من العجم، فمرحباً بالمثل المبتذل: أنا ابن جار النجَّار ..."!! وإذا كان من العرب، كما يذكر الشعوبيون، من له في المثالب تاريخ مؤثَّل، ومناقص يشار إليها في عاداتهم، وآدابهم، ومأكلهم، ومشربهم! فإن الأعاجم الذين يفخرون بآدابهم، وعاداتهم، ومأكلهم، ومشاربهم، لا يفترقون عن العرب في ذلك! أم أنَّ كلّ العجم - يقول ابن قتيبة - أشراف؟ "فأين الوضعاء، والأدنياء، والكسَّاحون، والحجَّامون، والدبَّاغون، والخمَّارون، والرعاع، والمُهَّان؟... وأين ذراريهم وأعقابهم؟ أَرَدَجوا جميعاً فلم يبق منهم أحد، وبقي أبناء الملوك والأشراف"! ويتّضع من خطاب ابن قتيبة تضييق دائرة العجم على الفُرْس الذين استهدفهم بحجاجه هذا، ليضيق الفضاء الدلالي والجغرافي للعجم، ويقصر على الفرس فقط! ونتج ذلك الخطاب السجالي لابن قتيبة نتيجة عوامل تتعلّق باتصال الشخصي بالثقافي والسياسي والاجتماعي، فابن قتيبة أعجمي النسب، غير أّنه يُخْرِج نفسه من خطاب الذمّ والتهميش، حينما يحدّد المقصود بالعجم بفارس وحدها. فهو خراساني مروزي نسبةً إلى مرو، التي تعدّ خارجة عن الفضاء الجغرافي لفارس، فضلاً عن أَّنه يتحرَّك، وفي باله طبيعة البنى الاجتماعية والسياسية للمؤسسة الرسمية، تلك المؤسَّسة التي تنتمي في صميم مشروعها السياسي إلى العرب والخراسانيين، حيث أسهم أهل خراسان - وهم من الأعاجم - في الدعاية لبني العيَّاس، وتوطيد حكمهم، والنيل من خصومهم. ولَمَّا كان أهل خراسان ذوي شأن بحكم انتمائهم إلى المؤسسة السياسية، كان من الطبيعي أن يجد ابن قتيبة مخرجاً لخطابه الإيديولوجي، يجعله بمنأًى عن تهميش نفسه وذمّها - على المستوى الشخصي - أو الاصطدام - على المستوى السياسي المؤسسي - بهذه الفئة التي ينتمي إليها عددٌ من الوزراء وعلية القوم! عند هذا المستوى يحشد ابن قتيبة كلّ إمكاناته الخطابية والحجاجية لإخراج أهل خراسان من الذمّ والمنقصة. فأهل خراسان يتلون العرب في الشرف! فهم "أهل الدعوة، وأنصار الدولة، فإنهم لم يزالوا في أكثر ملك العجم لقاحاً، لا يؤدون إلى أحدٍ إتاوةً ولا خراجاً"! ومن هنا كان من الطبيعي أن تنهال الروايات والأحاديث التي تعلي من شأن أهل خراسان. فمرو - قصبة خراسان - كما في الحديث الذي ساقه ابن قتيبة "بناها ذو القرنين، وصلّى فيها. غزيرة أنهارها تجري بالبركة على كلّ نقب منها ملك شاهر سيفه يدفع عن أهلها السوء إلى يوم القيامة..."! وإذا ما اتُّهِم أهل خراسان بالبخل، فإنّ هذا "كذبٌ بين ظاهر للعيان، لا يقدم على مثله إلا الوقاح البهات الذي لا يتوقي الفضوح والعار"، وإذا ما جوبه ابن قتيبة بذلك الحديث الذي يعلي من شأن فارس: "لو كان الإيمان منوطاً بالثريا لتناوله رجال من فارس"" سرعان ما يجيّره لمصلحة خراسان لا فارس، ولا يجد صعوبةً في استدعاء التاريخ والجغرافيا، ف"فارس وخراسان كانتا عند العرب شيئاً واحداً لأنهما يتحاذيان ويتصلان، ولأن لسان أهل فارس، ولسان أهل خراسان الفارسية فهم يسمون الفريقين: الفرس". ويبدو أنّ الجدل العلمي والثقافي في عصر ابن قتيبة، وتبيين موقع العرب منه، كان قد قاده إلى الوقوف عليه، وبحسب خطابه الحجاجي الممعن في العقائدية الدوغماتية، حيث يستحوذ العرب على العلوم بشقيها: الإسلامي الناتج من الدين واللغة كالفقه، والنحو، ومعاني الشعر "وهذه للعرب خاصة، ليس للعجم فيه سبب إلا تعلمه، واقتباسه، وللعرب سناؤه وفخره"، وعلوم الأوائل، تلك العلوم التي، عادة، ما يحاجّ الفرسُ العربَ فيها، وينحون في تجريد العرب منها. ولكن هذا العلم المتقادم - يقول ابن قتيبة - "لا أعلم منه فناً إلا وقد جعل الله للعرب فيه حظاً، ثم تنفرد من ذلك بأشياء لا تشارك فيه"! ومنها فيما يقف عليه وقفات مطوّلة: علوم الخيل والنجوم والفراسة والقيافة والعيافة والطَّرْق والخط والكهانة والخطب والشعر، وإذا ما فخرت العجم بحكمة بزر جمهر وآنو شروان، فإن للعرب في ذلك أصلاً ماثلاً في كلام أكثم بن صيفي وعامر بن الظرب العدواني وأشباههما، ما جعله يقابل كلّ حكمة للفرس بأصل عربي قديم لها! ليصل إلى غايته الظاهرة والُمَبطنة من خطابه الحجاجي هذا: وهي أصالة العرب في علومها، التي خلصت لهم دون منازع، "ولايدّعي أحدٌ من الأمم أّنهم أخذوا شيئاً من ذلك عنه"، وخروج فارس من كلّ ذلك صفر اليدين! ف"كلّ ما يعلمه أهل فارس فهم له متعلَّمون، وفيه لغيرهم متَّبِعون، ولأعقاب الأمم واطئون"! فللطبّ أبقراط وجالينوس، وللحساب إقليدس، وللمنطق - الذي كان قد هشّم رأسه في أدب الكاتب - أرسطو طاليس، وهذا كله لليونان، وللهند الشطرنج، وكتاب كليلة ودمنة. أمّا أهل فارس، الذين استفرد بهم ابن قتيبة في خطابه الإيديولوجي هذا، فليس لهم في هذه العلوم "إلا ما لغيرهم من القابسين المستفيدين"!