أصبح واضحاً في النصف الاخير من 1998 ان الولاياتالمتحدة تبنّت سياسة جديدة تجاه العراق رغم ان ذلك لم يُعلن ابداً، والارجح ان هذه السياسة ستستمر في التحكم بمواقف اميركا في 1999. وكانت سياسة "الاحتواء المزدوج" القديمة، التي سادت منذ انتهاء حرب الخليج، فقدت صدقيتها على نحو متزايد في ما يتعلق بالعراقوايران على السواء. واظهرت اول ازمة عراقية في 1998، وهي الازمة التي حُلّت بتدخل شخصي من جانب كوفي أنان الامين العام للامم المتحدة في زيارته لبغداد في شباط فبراير الماضي، بشكل واضح ان الاسلوب القديم لواشنطن لم يعد ملائماً. واصبحت الادارة الاميركية في مواجهة خيار صعب، فإما القبول برفع تدريجي للعقوبات من دون تحقيق اذعان العراق لقراري مجلس الامن 687 و 688، أو الانتقال من التعامل مع العراق بسلسلة من الازمات القصيرة المدى الى استراتيجية أبعد مدى يمكن التعامل بها مع كل ازمة تختلقها بغداد في اطار مجموعة من الضغوط والقيود المستديمة والمطبقة بطول نفس، على نحو يماثل سياسة الاحتواء التي طبّقتها الولاياتالمتحدة على مدى اكثر من 40 سنة ضد الاتحاد السوفياتي. دعونا نطلق على هذه السياسة "الاحتواء الاضافي"، ونتفحص مكوناتها والعوامل التي دفعت صانعي السياسة الاميركيين الى تبنيها. دروس ازمة شباط فبراير استخلصت الولاياتالمتحدة دروساً عدة من الازمة الاولى في 1998. عندما طرد النظام العراقي الاعضاء الاميركيين في اللجنة الدولية الخاصة المكلفة نزع اسلحة الدمار الشامل "أونسكوم" واغلق بعض اجهزة المراقبة ونقل بعض الالات الحساسة بعيداً عن مدى كاميرات المراقبة، ادركت واشنطن مدى هشاشة نظام التفتيش الدولي بأكمله وكيف يمكن ان يُفكّك بسرعة اذا استيقظ صدام حسين ذات يومٍ وقرر ان هذا هو ما يريد القيام به. كما ادركت في الوقت نفسه انه يمكن لنظام مصمّم ان يعيد بسرعة تشغيل برامج الاسلحة الكيماوية والبيولوجية. فتكنولوجيا انتاج هذه الاسلحة او منشآت تصنيعها لم تكن على مستوى من التطور او الانتشار يكفي للسيطرة عليها بشكل فاعل من جانب نظام التفتيش القائم. وتجلت على نحو مرعب مرة اخرى قدرة الولاياتالمتحدة على نشر قوتها العسكرية في أي مكان في العالم. لكن عندما بدأ الزعماء الاميركيون مشاورات في شأن استخدامها، وجدوا ان الدعم لعمل عسكري لن يكون تلقائياً او ثابتاً، سواء من داخل المنطقة او وسط الحلفاء الاوروبيين أو حتى في الولاياتالمتحدة. كانت هناك اسباب عدة. كان الاجهاد الناجم عن العقوبات قد اخذ مداه. ولم يُنظر الى تجاوزات العراق باعتبارها انتهاكاً سافراً يماثل غزو الكويت. ولم يبد منطق القيام بتحرك وقائي لدرء تهديد غير مؤكد في المستقبل جذاباً. لكن الاهم من ذلك ان الرأي العام، بشكل خاص في العالم العربي، قيّد الحكومات واجرى مقارنات غاضبة بين ما يلمسه من عدم استعداد اميركا للضغط على اسرائيل في ما يتعلق بعملية السلام وبين الحماس الاميركي للضغط على العراق. وقد اعترف الرئىس كلينتون شخصياً وعلناً بهذا الترابط وبحقيقة ان استمرار المأزق في مفاوضات السلام العربية - الاسرائيلية سيعقّد على الارجح تحقيق اهداف السياسة الاميركية في اماكن اخرى في المنطقة، خصوصاً في الخليج. لم يكن هذا الترابط في حد ذاته سبباً محفّزاً رئيسياً لاستئناف فاعلية اميركا في عملية السلام في تشرين الاول اكتوبر الماضي او المشاركة الشخصية للرئىس كلينتون في مفاوضات "واي بلانتيشن". لكن إنجاز هذا الاتفاق بنجاح، وما اعقبه من نجاح نسبي للرئىس كلينتون ومرشحي الحزب الديموقراطي في انتخابات تشرين الثاني نوفمبر الماضي، اظهر ان الشعب الاميركي يريد رئىساً وحكومة تتعاملان بفاعلية مع مصالح البلاد ولا تغرقان في وحل فضيحة داخلية. هذه الاحداث وتشتت الحزب الجمهوري بعد انتخابات الكونغرس مباشرة منحت الادارة ثقة جديدة. وأُضيف الى هذه الثقة اقتناع صانعي السياسة في واشنطن بأن حكومة بغداد لم تتخل عن أي من طموحاتها في ان تصبح القوة المهيمنة في الخليج او عن عزمها على الاحتفاظ بقدرتها على اعادة بناء ترسانة اسلحة الدمار الشامل. فواشنطن تعتقد انه اذا حدثت معجزة ما ورُفعت العقوبات، او اذا خفضت القوات الاميركية في الخليج مستوى يقظتها، سيعود العراق فوراً الى سباق اعادة التسلح، ليعيد بناء قواته التقليدية ويبعث الحياة مجدداً في برامجه للحصول على اسلحة نووية وكيمائية وبيولوجية. بعدها سيكون سوى مسألة وقت فقط ان يُحشد الجيش العراقي مرة اخرى على الحدود الشمالية للكويت او ان يقوم العراق، وهو الاحتمال الاسوأ، بتهديد جيرانه الخليجيين بسلاح بيولوجي، لا يزيد حجمه على برتقالة او قبضة اليد، يمكن اذا اُطلق ان يدمّر اي مدينة خليجية. المفارقة هي ان دول الخليج ذاتها لا تشاطر واشنطن هذا القلق إلاّ بشكل جزئي، فبعضها يعتبر حسب ما يبدو ان الخطر الذي يمثله العراق في الوقت الحاضر تراجع كثيراً عما كان عليه في 1990، ويميل الى تحبيذ إعادة ضم العراق بشكل كامل في النهاية الى الامة العربية. وكانت الانباء عن مشاركة شركات من السعودية والامارات في معرض بغداد الدولي مطلع تشرين الثاني نوفمبر الماضي بمثابة صدمة للمسؤولين الاميركيين. يتألف "الاحتواء الاضافي" من الاجراءات التالية التي يعزز بعضها بعضاً: - الاصرار على ان يذعن العراق للتعريف الموسّع لشروط قراري مجلس الامن 687 و 688 للعام 1991. - فرض العقوبات بموجب الفصل السابع عليه وفقاً للقرار 661 حتى يقرر مجلس الامن ان الاذعان قد تحقق. - الابقاء على وجود عسكري كبير في المنطقة، وتعزيزه بمناورات متكررة مع دول مجلس التعاون الخليجي وحلفاء اقليميين وغير اقليميين، بمستوى يتعدى ما يقتضيه ضمان الامن الاقليمي وحرية الملاحة. وتتمثل المهمة المباشرة ذات الصلة بالعراق لهذه القوة في تطبيق مناطق الحظر الجوي ومنع حركة القوات المسلحة في اجزاء من اراضي العراق. اما مهمتها غير المباشرة فهي تعزيز فاعلية الاجراءات السياسية عبر دعمها بتهديد ذي صدقية باستخدام القوة العسكرية وللقيام بدور رادع في مواجهة احتمال تجدد العدوان العسكري العراقي. ولمح الرئيس كلينتون اخيراً الى انه سيطلب من الكونغرس زيادة موازنة وزارة الدفاع ب 110 بلايين دولار على مدى ست سنوات، وهو يهدف جزئياً الى ضمان ان تتمكن اميركا من تحقيق هذا الهدف. - تقديم الدعم للمهمة المزدوجة لنظام التفتيش الذي تنفذه لجنة "أونسكوم": كشف برامج العراق السابقة لتطوير اسلحة الدمار الشامل وتدميرها بشكل كامل، بما في ذلك كل المخزون، والاحتفاظ بنظام للرقابة قادر على رصد أي مسعى لإعادة تنشيط هذه البرامج. - الاستعداد لمواجهة حوادث اخرى نتيجة التحدي العراقي بضربات تستهدف القدرات العسكرية والامنية لنظام بغداد، بالاضافة الى قدراته على اعادة تفعيل برامجه لتطوير اسلحة الدمار الشامل، من دون اللجوء مجدداً الى الجدل وصنع القرار على الصعيد الدولي في مجلس الامن. - تقديم الدعم للقرار 986 الخاص ببرنامج "النفط مقابل الغذاء" الذي يسمح حالياً ببيع ما قيمته 2،5 بليون دولار من النفط كل ستة اشهر ما يتجاوز كثيراً قدرة التصدير الحالية للعراق واستخدام العائدات، بعد استقطاع النفقات ذات الصلة بالاممالمتحدة، لاستيراد الغذاء والدواء ومعدات اعادة التأهيل المدنية والمعدات ذات الصلة بالانتاج النفطي، وفق ضوابط اجرائية تخضع لسيطرة ورقابة صارمة. والهدف هنا هو تعزيز التضامن بين اطراف التحالف عبر الاستجابة للمطالبة بعدم حرمان الشعب العراقي من الاحتياجات الانسانية الاساسية بسبب تعنت حكومته وانتزاع ورقة "معاناة النساء والاطفال" من يد العراق. - تأييد وقف للنار ومصالحة سياسية بين التنظيمات الكردية في شمال العراق كوسيلة لمنع بغداد من استعادة سيطرتها على المنطقة، وفي الوقت نفسه تأييد وحدة اراضي العراق ومعارضة نشوء كردستان عراقية مستقلة. - تقديم الدعم ل "اذاعة العراق الحر"، وهو مسعى لبث اخبار غير منحازة الى العراق. - دعم الجهود التي تبذلها العناصر المنقسمة للمعارضة العراقية التي تعيش في الخارج لتحقيق قدر من الوحدة والفاعلية ولتعزيز مساهمتها في خلق شروط مؤاتية للتغيير داخل العراق. - الاستعداد لتقديم معدات عسكرية تصل قيمتها الى 97 مليون دولار من خزين المعدات الاميركية لعناصر في المعارضة العراقية بموجب "قانون تحرير العراق" اذا اصبحوا في وضع يمكّنهم الاستفادة من مثل هذا الدعم، وهو احتمال مشكوك فيه حسب اعتقادي. - تقصي سبل محاكمة الرئىس صدام حسين ومسؤولين عراقيين كبار عن جرائم الحرب امام محكمة جنائية دولية. نزاع مستديم دفعت الرسائل الثلاث التي وجهها العراق في 14 تشرين الثاني نوفمبر الماضي الى كوفي أنان الامين العام للامم المتحدة بعض المراقبين الى الاستنتاج بان المواجهة انتهت. فقد سمح العراق لمفتشي "اونسكوم" بالعودة، لكن سرعان ما اتضح ان بغداد لا تنوي الايفاء بتعهدها التعاون بشكل كامل مع المفتشين لانجاز مهمتهم، او اجراء اي تغيير في سياسة التحدي والتضليل التي كانت تتبعها بثبات منذ 1991. وجاء رفض العراق الاستجابة بجدية لطلب "اونكسوم" تسليمها وثائق، ورفضه السماح لمفتشين بالتقاط صور فوتوغرافية لمواقع معينة اثناء تفتيشها او حتى تفتيش مواقع اخرى مثل مقر حزب البعث، ليبيّن بوضوح لكبار المسؤولين في واشنطن ان نظام التفتيش الوحيد الذي سيقبله العراق هو نظام عاجز. وعندما قدم هؤلاء للرئيس كلينتون توصيتهم بالاجماع بتوجيه ضربة عسكرية كبيرة، كانوا يدركون ان ثمن هذا العمل قد يكون رفض بغداد قبول أي مفتشين دوليين في المستقبل. وكانت الحجة التي استندوا اليها هي انه سيكون من الافضل ان يُسجّل على العراق منع "اونسكوم" من انجاز مهمتها، بدلاً من وجود نظام تفتيش عاجز يمكن ان يوهم المجتمع الدولي بأنه يمنع العراق من اعادة بناء ترسانة الاسلحة الكيماوية والبيولوجية في الوقت الذي لا صحة لذلك اطلاقاً. وبرفضه قبول فرق التفتيش الدولية سيبرهن العراق بوضوح على عدم اذعانه لقرارات مجلس الامن ويعزز الرأي الداعي الى استمرار العقوبات الدولية. ويبدو مرة اخرى ان العراق يفسّر الموقف الاميركي باعتباره نهائياً، ويعتبر ان الولاياتالمتحدة لن توافق ابداً على تخفيف العقوبات والاجراءات الاخرى طالما بقيت حكومة صدام حسين الحالية في السلطة، لكن الامر ليس كذلك. فالولاياتالمتحدة، على رغم قوتها ونفوذها، لن تتمكن من الاحتفاظ بموقفها المتشدد في الاممالمتحدة الاّ اذا استمر العراق، عبر امتناعه عن التعاون ورفضه الواضح تلبية حتى اكثر التفسيرات تساهلاً لالتزاماته، في حرمان فرنسا وروسيا واعضاء آخرين في مجلس الامن متعاطفين معه من أي اساس لتحدي سياسة الولاياتالمتحدة او للدفاع عن مواقف العراق. يمكن لسياسة تقوم على التعاون المخلص مع الاممالمتحدة ان تنهي عزلة العراق وتزيل، مع الوقت، القيود الدولية المفروضة على نشاطه الاقتصادي. وقد رفضت بغداد بثبات هذا النهج. تجدر الاشارة الى نقطة اخرى هي ان السياسة المتشددة التي تتبعها الولاياتالمتحدة تجاه العراق لا تُطبّق على دول اخرى لديها مشاكل معها. على سبيل المثال، اُتخذت خلال عام 1998 خطوات لفتح الباب لتحسن تدريجي في العلاقات مع ايران ومع ليبيا. واذا افترضنا ان هذه الدول تريد ان تتحرك في الاتجاه ذاته وانها قادرة على ذلك، يُحتمل حدوث مزيد من التحسن في 1999. ويرغب كثيرون في واشنطن في ان يتحقق ذلك. لكن نظام صدام حسين في العراق خلق لنفسه صورة اكثر سلبية. فهو، بمعنى ما، يجسّد بشكل مصغّر المشاكل الكبيرة التي ستواجهها الولاياتالمتحدة في القرن الجديد: انتشار اسلحة الدمار الشامل، وارهاب الدولة، والانتهاك الفظ لحقوق الانسان، وحكم استبدادي من دون رقابة داخلية يمكن ان تمارس تأثيراً في عملية صنع القرار. لا يرغب احد في ان يتنبأ باللجوء الى القوة مرة اخرى. ولا ارغب ومعظم الاميركيين في ان نرى القدرة العسكرية لبلادنا تُستخدم في اوضاع ينبغي ان تكون قابلة للحل بوسائل اخرى - إن في العراق او في اوضاع اخرى مثل البوسنة او كوسوفو او في وضع محتمل مثل كوريا. فعندما يحدث ذلك، يعني ان الديبلوماسية فشلت، وهو ينطوي دائماً على خطر وقوع اصابات في صفوف المدنيين. لكن يتوقع تفجر ازمات اخرى في السنة 1999 وبعدها، اذ يحاول نظام صدام حسين ان يخفّف الضغوط التي يشعر بها بالتأكيد والناجمة عن تطبيق كل الاجراءات التي يواصل المجتمع الدولي والولاياتالمتحدة فرضها. ولنا ان نتوقع ان تواجه الولاياتالمتحدة هذه الازمات المصغرة عند حدوثها بحزم وأناة ورباطة جأش، انطلاقاً من القناعة بأن انتقالها الى استراتيجية "الاحتواء الاضافي" البعيدة المدى ستردع العراق عن معاودة تهديد جيرانه بالعدوان العسكري، وتساعد في الوقت نفسه على خلق الظروف لتغيير في النظام يضع حداً في النهاية لهذا الفصل المظلم في تاريخ شعب نبيل قاسى طويلاً. * مساعد سابق لوزير الخارجية لشؤون الشرق الادنى وشريك في مكتب محاماة - AFRIDI & ANGELLI للقانون الدولي.