لولا اعتقال قادة الاتجاه الاسلامي ودخولهم السجن في نهاية شتاء 1985 قبل انتفاضة ابريل الشعبية التي اطاحت بحكم الرئيس السابق جعفر نميري لواجهت الجبهة القومية الاسلامية في السودان مصير حزب الشعب الديموقراطي بعد ثورة اكتوبر 1964، التي اطاحت بحكم الفريق الراحل ابراهيم عبود. فحزب الشعب كان داعماً لحكم الفريق عبود، والجبهة الاسلامية، او بعبارة اصح الاتجاه الاسلامي، كان داعماً لحكم الرئيس نميري. الأول عُزل او عزل نفسه ومن ثم اصبح على هامش الحياة السياسية. هذا الاعتقال الذي لم يتجاوز بضعة اسابيع نقل الاتجاه الاسلامي من موقع التأييد لنظام مرفوض، كان مترنحاً في ايامه الاخيرة، تخلى عنه - بحكم قوانين اللعبة السياسية - من دعموه وأيدوه وناصروه من قوى دولية كبرى او قوى اقليمية رأت فيه سنداً لسياسات مثيرة للجدل في المنطقة العربية كتداعيات منطقية وموضوعية لافرازات حرب اكتوبر وبداية مشوار السلام العربي - الاسرائيلي الذي لم يصل حتى اليوم الى ما اراده له صانعوه. بهذا الاعتقال ايضاً، خرجت الجبهة الاسلامية من واقعها كحزب صفوي - كان يمكن ان يكون معزولاً - الى ثالث حزب جماهيري في الساحة السودانية، مقتربة من عدد مقاعد البرلمان مع احد اكبر الاحزاب السودانية "الاتحادي الديموقراطي" منافسة له في ساحات تمدده الحضرية وشبه الحضرية وبصورة اكثر حداثة ومقدرة تنظيمية تعبوية. منذ ذلك التاريخ، مرت مياه كثيرة، تغيرت فيها التركيبة الديموغرافية في البلاد، وتعقدت المشاكل وتركت بصماتها واضحة على قسمات الحياة العامة في السودان. اعتلت فيها الجبهة الاسلامية سدة الحكم في البلاد غصباً، وأقصت الآخرين من الحياة العامة عبر واجهتها الجديدة "الانقاذ الاسلامي". التخلقات التكوينية للحركة الاسلامية في السودان برهنت بما لا يدع مجالاً للشك المقدرة التنظيمية والطبيعية البرغماتية لقيادة الدكتور الشيخ حسن الترابي، بل المقدرة المحيرة على غريزة البقاء السياسية لديه. خلال سنوات بعده من مباشرة السلطة في سنين هذا العهد الأولى "سواء كان ذلك بسجنه ضمن من سجنوا او اعتقلوا في مرحلة التأمين الأولى، او قيادته للمؤتمر العربي الاسلامي، خلال مرحلة التمكين اللاحقة". تشكلت مراكز قوى جديدة، املتها - بالضرورة - ادارة الحكم والدولة - كظاهرة مصاحبة لأمراض السلطة. اذ ان البون بين المثال النظري والواقع ما زال شاسعاً في اي نظام للحكم مهما قيل وعمل من جلبة مصاحبة للقيم الضابطة للسلوك السياسي فيه. مراكز القوى الجديدة داخل جسم السلطة - بعيداً عن سيطرة الترابي على التفاصيل، كان واضحاً انها انشطرت على نفسها في السنوات 93 - 1995 بفعل الجهويات المتقافزة التي ظلت سحبها الداكنة وجه الحياة السياسية في السودان في العقدين الآخرين، لا يستثنى من هذا حزب او تنظيم. والحركة الاسلامية ليست استثناء من ذلك حتى حركة الجهاد الافغاني وما آل اليه حالها بعد اندحار الغزو السوفياتي لبلادها. الكثيرون اعتقدوا، ان العودة التدريجية للدكتور الترابي للواجهة ومباشرة الشأن، كافية بكبح جماح مراكز القوى الجديدة "الحلف النخبوي/ العسكري" وإن كانت تلونه وتشكله من الناحية الافقية تكتلات جهوية كما اسلفت، خصوصاً ان مركز الدكتور الترابي كقائد ومفكر في قمة التنظيم لا يواجه في اعتقادي اي تحد يذكر، حتى تاريخ مذكرة العشرة الأخيرة في مجلس الشورى. المتتبعون لكواليس الشأن السوداني السياسي لا ينكرون ابداً - مهما اختلفنا في تقييم الرجل سياسياً - انه كان القوة الدافعة نحو الانفتاح، والعودة ولو تدريجياً نحو النظام التعددي. وتعديلات الدستور التي قيل ان القصر الرئاسي صاغها، او تسمية قانون الاحزاب "بالتوالي السياسي" التي لا يمكن اخذها على مجملها من دون النظر لخريطة الألغام السياسية التي كان يتوجب عليه الالتفاف والمشي فوقها داخل تنظيمه الحاكم ومؤسساته المعقدة المتشابكة والمنفلت بعضها احياناً. منذ المؤتمر العام الاخير للمؤتمر الوطني "الوعاء الشامل" او هكذا سمي وقتها في شباط فبراير 1998 وضح ان الترابي بدأ يعد العدة لتحويل المؤتمر الوطني الى حزب سياسي، كوجه جديد لتخلفات الحركة الاسلامية في السودان، استعداداً لبدء مرحلة جديدة من التعددية، قسماتها ليست واضحة بعد، وان كان الوجود الفعلي للآخرين على ارض الواقع هو الذي سيحدد شكل هذه القسمات. امانة المؤتمر جاءت كلها من غير التنفيذيين ومن وجوه اما انها لم تعرف بالتشدد، او لم تكن جزءاً من الحركة الاسلامية التاريخية، هذه الاشارات الواضحة، فهمتها مراكز القوى داخل تنظيمه وعجز عن فهمها خصومه السياسيين من قادة المعارضة، لأن نظرية المؤامرة، سيطرت بكل اسف على عقلانية التفكير او الرؤيا المتأنية، والاستقراء الصائب، او فلنقل شوش عليها التردد. اعلان استقالة الدكتور الترابي من رئاسة المجلس الوطني في اول كانون الأول ديسمبر الماضي كانت الاشارة الثانية التي فهمتها مراكز القوى الجديدة داخل التنظيم. وأشعلت شرارة "مذكرة العشرة"، وقعدت ايضاً عن فهمها التنظيمات الأخرى المعارضة. كان الدكتور الترابي يسعى لأمرين: اولهما: ان يخلق قطيعة بين الدولة والحزب الوليد وأن تكون في واجهته وجوه معتدلة مقبولة ممن لم تحفظ الذاكرة الجمعية للسودانيين عنهم شيئاً "كالقهر او الفساد". ثانيهما: ان يتفرغ هو لقيادة معركة، يعلم تماماً مهما أحدث من قطيعة بينه وبين الدولة بين الانقاذ والمؤتمر، ومهما كانت براعة البناء الفكري النظري والتنظيمي، فان ظلال أداء الدولة الانقاذ سيظلل بلونه قسمات حزبه الوليد المؤتمر الوطني. كان الترابي سيدخلنا كلنا في مرحلة من المغالطة السياسية الجديدة بعد انفاذ قانون الاحزاب على ارض الواقع قولاً بأن المؤتمر الوطني ليس وريثاً او جنيناً للانقاذ. او ان الانقاذ مرحلة سياسية اوصلتنا للتوالي، وانتهت بخيرها وشرها. رأى من هم في مراكز السلطة والقوة، ومن مراكز القوى داخلهم في هذه الخطوة، ربما بداية لمعركة مؤجلة. اذ ان الدولة تبقى من عمر مؤسساتها: أ - المجالس المحلية والولايات 6 اشهر. ب - المجلس الوطني البرلمان، سنة ونصف. ج - رئاسة الجمهورية سنتان ونصف. اذن من سيكون سند الدولة الانقاذ ان ذهب الدكتور بالمؤتمر الوطني كحزب وليد، بوجوهه الجديدة؟ ان سؤالاً كهذا لا بد انه دار بمخيلة من كانوا وما زالوا في السلطة، وعلينا ان نفترض ايضاً ان امر سلامتهم وسلامة تنظيمهم، ومراكز القوى داخله لن يساوموا عليها. وطالما اننا لا نفترض فيهم السذاجة - وهو ما تنفيه مقدرتهم على البقاء في السلطة لعقد كامل على رغم الظروف والعزلة الخارجية - علينا ان لا نفاجأ بما حدث، كما علينا ان لا نفهمه كما فهمه البعض خارج سياقه وظروفه، والعوامل الموضوعية التي ادت الى ما يبدو شرخاً كبيراً في بنية تنظيم عرف عنه التماسك. نظر البعض الى ما حدث مفسراً لنتائجه، على انها تداع آخر يضاف الى عوامل الضعف الناتجة عن استنزاف الحرب الأهلية. وآثار الحصار والعزلة. وبدلاً من التقاط قفار الحوار للحصول على موقف تفاوضي افضل، فكر البعض "باعادة" تقديم مذكرة، قدمت شبيهتها قبل سنتين في عام 1996، املاً ان يرفضها الحكم، وتقوم بعض الدوائر المتشددة في داخله بالتعامل الأمني مع مقدميها قبل يومين فقط من بدء نفاذ قانون الاحزاب لاحراج الحكم، وخلط اوراقه، ووقف سياسة الانفتاح، او ان يؤدي الصدام مع قوى الأمن او اعتقال مقدمي المذكرة الى سلسلة من المظاهرات وأعمال العنف تنتج عنها انتفاضة شعبية. هذا لم يحدث على رغم ان اصواتاً متشنجة داخل معسكر الحكم، طالبت باتخاذ اجراء ما مع بعض الدول التي حضر بعض سفرائها المؤتمر الصحافي لقادة المذكرة. وعلى رغم ان مذكرة العشرة، وما نتج عنها شيء داخلي يخص معسكر الحكم فقط، الا ان آثار ذلك ستنسحب تداعياتها على ما اعتقد انه حقبة سياسية جديدة بدأت مع مطلع العام الجديد، واطلاق حرية التنظيم السياسي مهما كانت شكوك البعض حول جدية او عدم جدية التوجه. اولهاً: ان من كانوا ضد نتائج المذكرة، وضح بجلاء انهم كانوا يتوقعون منافسة شديدة وقوية من برامج بديلة، اولى العوامل المضافة الى قوتها، حال الركود، والفكر والتوجه الاحادي الذي جثم على صدور الناس لعقد كامل من الزمان. وظاهرة التململ والضجر والرغبة - فقط مجرد الرغبة - في التغيير ظاهرة انسانية لأكثر المجتمعات ترفاً ورفاهية، ناهيك عن تلك التي تبحث عما يسد الرمق من الشروق الى المغيب. وثانيها: ان من ارادوا هذه النتائج غلفوها بغلاف اخلاقي - هو تعميق الشورى والديموقراطية داخل التنظيم - واعادة الحياة الى الاجهزة وحكم المؤسسة. وإذا كان التواطؤ سهلاً ضمن المجموعة الصغيرة، لا اخاله كذلك ضمن المئات والاجهزة المتراكبة المعقدة، فهم في نهاية الأمر بشر، ولا بد ان بعض الخير، وبعض الروية والتعقل في بعضهم. اعني بهذا ان كل معسكر - ان كان في الحقيقة معسكران - سيزايد على الآخر بالأسس الديموقراطية، وهي نقطة سيفيد منها الآخرون من دعاة الديموقراطية والسلم خارج معسكر الحكم، ان احسنوا استغلالها وأحسنوا قراءة الواقع من دون ان تحجب عنهم الرؤيا الطموحات الشخصية المخبولة والتمترس خلف الذات والأنا. على ان لا يعمينا هذا عن رؤية حقائق اخرى تبدو جانبية، الا انها مهمة. 1 - دعاة الحوار والانفتاح تزداد اعدادهم كل يوم داخل نواة الحكم الصلبة او مناصروه، وهم معنا في الحوار المتحضر، الذي يقود الى ديموقراطية كاملة تؤدي الى استقرار تام وتنمية عادلة، على المستوى الكلي، اما التباين في المقاصد والمصالح، فشيء طبيعي حتى داخل الديموقراطية الغربية العريقة على المستوى التفصيلي للبرامج والخطاب السياسي. 2 - التشدد والمغالاة التعجيزية في المطالب، ستجعل من دعاة الحوار والانفتاح مؤازرين من دون تردد لمن نظنهم دعاة تشدد وانغلاق. 3 - ان من يحاورنا لا ينظر الى وجوهنا، ولا الى بلاغتنا وفصاحة بياننا، ولكنه ينظر خلفنا، الى حقائق القوة والقبول التي تقف مؤيدة على أرض الواقع لخطابنا وبرامجنا، وعلينا ان نثبت ذلك لنحصل على ما نريد. * الأمين العام المساعد للحزب الاتحادي الديموقراطي.