لماذا لم يأسف احد يُذكر، في الطبقات الوسطى اللبنانية، على ذهاب السيد رفيق الحريري من السلطة؟ لأن ابناء هذه الطبقات، الذين هم عماد البنيان الاجتماعي اللبناني منذ الستينات من هذا القرن، لم يلمسوا من عهده في الحكومة السابقة ما يطمئنهم على مصيرهم ومصير اولادهم. فكان الأمر ان هذه الطبقات التي استقبلت آنذاك هذا المتموّل اللبناني الذي نجح، بمجهوده الخاص، في الخارج، قد ودّعته اخيراً دون أسف يُذكر. كان الاعجاب كبيراً أول الأمر بهذه الطاقة الجديدة، الآتية من خارج البنيان السياسي التقليدي المحلي، حيث ان من قيم الطبقات الوسطى، في جميع بلدان العالم، الايمان بالنجاح الفردي. اذ ان هذا النجاح يشكل، في نظرها، جسر العبور الى الوضعية الاجتماعية الافضل والى المركز الاجتماعي الاكثر تقدماً. لذلك تماهت نوعاً ما هذه الطبقات، مسيحياً وإسلامياً، مع هذا الرمز الجديد الذي كان يعكس لها، في المرآة السياسية، صورة نجاحها المنشود. فتطابق انتظار ابناء الطبقات الوسطى واستعدادهم المعنوي مع مجيء هذا المنقذ والمثل الاعلى النظري، الآتي بكل زخم ماله وإعلامه على الارض اللبنانية الخارجة لتوّها من سلسلة حروب صغيرة وكبيرة أنهكت اللبنانيين وكادت ان تطيح بمعالم هذا الوطن الصغير بمساحته ولكن الكبير برسالته الانسانية. فأمر تجاوب انتظار الصورة المنشودة مع مجيء شكلها وتحققها في أرض الواقع هذا، يشبه الى حدّما ما حصل بالنسبة الى هنود أميركا، عندما اكتشف الكونكيستادوس الاسبان هذه القارة الجديدة وقدموا اليها بعدادهم وعديدهم وأحصنتهم. فانبهر إذذاك الهنود لا بالاسبان، بل باحصنتهم لأنها كانت تتطابق مع معتقداتهم الدينية القائلة ان الإله المخلص سوف يأتي من الشرق أي من اوروبا بالنسبة اليهم على متن حيوان مشابه جداً للحصان. فخالوا عندها انهم قد شاهدوا المخلّص بأم عينهم، فسجدوا له. ... لكننا نعلم جميعاً ما حصل بعدها. فالطبقات الوسطى اللبنانية استقبلت السيد الحريري، مطلع عهده، على انه آتٍ لتخليصها من زمن الميليشيات ومن سياسة الإفقار التي عاشتها في ظلّها. فرحبت به واستبشرت خيراً. الا ان السيد الحريري لم يستقبل الطبقات الوسطى في قلبه، بل بدأت هذه الاخيرة تعي تدريجياً ان منهجه السياسي العام تأتي في رأس أولوياته نخبة رجال المال والاعمال. واستمرت الخيبة هذه تزداد حدة مع مرور الزمن ومع اعتماد بعض رجال الحكم المرافقين له لهجة تنضح بالعنجهية ولا تبالي سوى لفظياً بمصير ابناء هذه الطبقات المضطرين اما للسفر أو للعيش في ظل البطالة، بحيث ان الحلم الربيعي الاولي سرعان ما تحطّم وطافت على وجه الحياة السياسية طبقة من المتمولين الجشعين ومن الانتهازيين السياسيين العاملين لمصالحهم الخاصة، لا للمصلحة العامة. فعندما نسمع في نهاية عهد السيد الحريري ما كنا نسمعه في نهاية عهد ميليشيات الحرب اللبنانية، وهو استغاثة بالدولة العادلة والمحبّة لجميع ابنائها، لا لطبقة المستفيدين الجشعين من فلتان الليبرالية القصوى المنقولة عن النماذج الآسيوية، الفوقية والاستبدادية. أدى ذلك كله الى تمهيد الطريق، من حيث لا ندري، أمام الحكم الجديد الذي أعلن مباشرة، منذ خطاب القسم الذي أدلى به رئيس الجمهورية الجديد العماد اميل لحود، ومنذ البيان الوزاري للحكومة الجديدة الذي قرأه شخص مقنع وموثوق به شعبياً هو الدكتور سليم الحص، انه يحمل رؤية جديدة الى الامور الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والاعلامية في البلاد، فتبدّلت اللهجة في الاعلام، حيث حلّ حذر التصريحات الرسمية مكان الاستخفاف العام بذكاء الرأي العام، وبدأت تنصت الطبقات الوسطى في لبنان الى خطاب رسمي لا يعد، بل يدرس الامور بدقة، ويهتم بمصير عامة الناس المسحوقة اقتصادياً بفعل عمليات الاستدانة الباهظة التي حصلت إبان العهد السابق والتي ترتّب عليها رفع الضرائب غير المباشرة بشكل لا يتحمله ابناء الطبقات الوسطى المحشورين في زاوية "آخر الشهر" منذ سنوات. تصغي حالياً الطبقات الوسطى اللبنانية بارتياح الى هذا الحذر في تصريحات المسؤولين، والذي ينمّ عن جدّيتهم في العمل. كما انها تعود تدريجياً الى سلّم قيمها التي لم تتخلّ عنه يوماً، والواضع مبدأ الاجتهاد والكفاءة والعمل الصبور والطويل النَفَس في رأس اهتماماته. لذلك تطابق بسرعة منطق الحكم في لبنان مع منطق الطبقات الوسطى التي شعرت، بعد الخيبة السابقة، ان ضامنها الحقيقي ومنقذها الفعلي هو الدولة، لا شخص، مهما بلغ شأنه وحجمه. فالدولة، بمفهومها العام، تعود اليوم الى طريق قلوب ابناء الطبقات الوسطى المتبقية 35 في المئة من مجموع القوى العاملة في لبنان والى قلوب الذين أجبرتهم أوضاعهم الاقتصادية على الخروج منها 33 في المئة للإلتحاق بشرائح الذين يعيشون تحت حدّ الفقر أو في الفقر المقنّع. وعودة الشأن العام الى عموميته، بعد مغادرته المدارات الخصوصية التي دار حولها في زمن الحرب كما في زمن ما بعد الحرب الذي لم يختلف كثيراً منطقه عن منطق الزمن الذي سبقه، يعيد الثقة اليوم بالجمهورية الشأن العام res publica، في الاصل اللاتيني للكلمة وبقاعدتها الاساسية المتمثلة في الدولة الديموقراطية. فبالدولة تعود الطبقات الوسطى الى موقعها المحوري في حياة البلاد وهذا ما يشعر ابناؤها به اليوم في لبنان. علماً ان عودة الطبقات الوسطى الى موقع الصدارة في لبنان لا يفيد فقط اللبنانيين، بل العرب أجمعين الذين يفتقدون الى بلد للمجتمع المدني حضور فاعل ومبدع فيه، والى عاصمة نشطة يعيش فيها أهلها تجربة ديموقراطية فعلية. * كاتب لبناني.