عندما يتكلم المخرج الاميركي مارتن سكورسيزي عن سينمائيي هوليوود الرواد في كتابه "رحلة مارتن سكورسيزي عبر السينما الاميركية" الصادر حديثاً عن منشورات "دفاتر السينما" يبدو كأنه يتحدث عن نفسه، اذ يستعيد هاوي السينما العتيق افلام حياته، كما يصفها. فسكورسيزي الذي امضى ردحاً كبيراً من سنواته الست والخمسين في عتمة الصالات، يلقي في كتابه الضوء على ذكريات سينمائية شكلت محطات في تكوين شخصيته وثقافته. وكتابه الصادر اخيراً والمزين بصور نادرة بالابيض والاسود هو في الاساس شريط وثائقي انجزه قبل اربعة اعوام بطلب من معهد السينما البريطاني في مرور مئة عام على ولادة الفن السابع. وسكورسيزي الذي كان منشغلاً يومها بتصوير فيلمه الضخم "كازينو" شاء هذا الشريط الاستعادي تحية الى السينما والاخراج، وأراده ان يوازي بأهميته وكثافته اعماله الروائية الطويلة. وفي "رحلته" التي كان رفيقه فيها، بالكاميرا والقلم، المخرج وكاتب السيناريو مايكل هنري ويلسون، يغوص سكورسيزي في اعماق تجربة "مخرجين احياء" على قوله عرفت افلامهم شهرة كبيرة، ويستعرض كذلك مشاهد طبعت مخيلته وحوارات من افلام منسية لم تعرف ذاك الانتشار ولا تقل جمالاً وعمقاً عن تلك الشهيرة. ويكشف سكورسيزي انه نهل من هذه الاعمال كلها، على اختلاف مستوياتها وأنواعها، واستعار بعضاً من رموزها والتقنية. ويقرأ المؤلف استراتيجية كل مخرج في هوليوود بدقة المحلل ولذة هاوي السينما ويطعّم تعليقاته بشهادات لجون فورد وفريتز لانغ ونيكولاس داي وسواهم، وآراء سينمائيين وممثلين على قيد الحياة على غرار كلينت إيستوود وفرنسيس نورد كوبولا وجورج لوكاش وآخرين... والكتاب في فصوله الخمسة شريط سينمائي ينساب صوراً معبرة محفورة في تجربة مخرج ذاكرته متحف يختزن ارثاً سينمائياً يشكل مرجعاً للجيل الجديد. وسكورسيزي الذي اخرج اكثر من 16 فيلماً خلال الاعوام العشرين الماضية ينصح للمخرجين المبتدئين ان يكونوا مثل الرسامين وان يطلعوا على اعمال اسلافهم بغية توسيع آفاقهم واغناء وحيهم التشكيلي. ويقول المخرج الاميركي انه ادرك فيلماً بعد فيلم ان ثقافته السينمائية محدودة: "لا ازال طالباً ابحث دائماً عن العمل او الانسان الذي يعلمني اكثر". وفي مقدمة الكتاب ينقل مخرج "تاكسي درايفر" الذي استطاع ان يتبوأ مكانة مهمة بين سينمائيي جيله عن فرانك كابرا قوله ان "السينما مرض يجري في الدم كالهيرويين يتحكم بجسم الانسان ونفسيته ودواء السينما يكمن في السينما نفسها". ولم يكن غريباً ان تلتقط عينا سكورسيزي، صغيراً، فيضاً من الصور، وان تصير الافلام هوسه. فمشهد جنيفر جونز مثلاً تطلق النار على غريغوري بيك في "مواجهة تحت الشمس" صدم براءته الطفولية، اذ شاهده مع امه، وهو بعد في الرابعة وكان اول الغيث السينمائي في حياته. ويروي انه في الخمسينات قرأ للمرة الاولى كتاباً عن السينما هو "تاريخ السينما المصور" لديلمس تايلور وانه كان يستعيره مراراً وتكراراً من مكتبة نيويورك العامة لشدة ما كان هذا الكتاب ينقله الى عالم يريد ان يتعرف عليه اكثر. ويقول انه كان يشاهد صور افلام لم يحضرها فيتخيل احداثها وكانت نفسه تراوده احياناً باقتطاع الصور والاحتفاظ بها. ويتنقل سكورسيزي في كتابه من فيلم الى آخر، ويقود القارئ بداية الى الخمسينات، وعنده انها مرحلة جديدة في تاريخ الشاشة الفضية، اذ حفلت بأفلام مهمة منها "البحاثة" لجون فورد و"شرق عدن" لإيليا كازان وأفلام صغيرة اخرى يجهلها الجمهور العريض لكن اثرها كان بيّناً في اعمال سكورسيزي ومنها "القبلة العارية" لسامويل فولر و"البيت الاحمر" لديملر ديفس و"جريمة قتل بموجب عقد" لارفينغ ليرنر. ويوجه سكورسيزي في الفصل الاول تحية الى السينمائيين الذين ساروا ضمن الخط الهوليوودي لكنهم عرفوا ان يتحايلوا عليه من دون انتهاك خطوطه الحمر. ويتوقف المؤلف عند تجربة كينغ فبدور الذي كان ينجز فيلماً يلبي متطلبات استديوات عاصمة السينما وفيلماً آخر غير تجاري ليرضي طموحاته الفنية. ولعل "الشرير والجميلة" لفينشتي منيللي افضل فيلم يعكس صراع المنتجين والمخرجين داخل هوليوود، كما يقول. لكن سكورسيزي الذي يدخل كواليس الاستوديوات وتركيبة القرار فيها، لم ينس اولئك المتمردين على نظام هوليوود والخارجين على قانونها وقد دفعوا ثمن رفضهم ان يروضوا تهميشاً لأعمالهم المهمة واحالة لهم على عالم النسيان والصمت السينمائي، ومنهم باستر كيتون وأريك فون ستروهايم وسواهما. وفي الفصل الثاني وعنوانه "المخرج راوياً" يسترجع سكورسيزي بعض افلام ديفيد غريفيث ويبدو شديد الاعجاب بمن يسميه المعلم وبلغته السينمائية التي تجعل افلامه الصامتة ناطقة بقدرتها على التعبير، ويعتبر انه في طليعة السينمائيين الرواة. ويمر المؤلف على افلام الوسترن التي حملت حكاياتها هموماً أميركية اجتماعية وسياسية، والافلام الموسيقية التي جمعت التسلية والسخرية الناعمة الاجتماعية الطابع في اطار كوريغرافي متقن، من "لاقني الى سانت لويس" لمينيللي الى "لقد ولدت نجمة" لجورج كوكور وصولاً الى "هذا الجاز كله" لبوب فوسيه. ثم يعرج سكورسيزي على مشاهد من افلام العصابات والمافيا من "فرسان ممر الخنازير" لغريفيث وصولاً الى "العراب" لكوبولا، ولا يخفي انه استلهم مشاهد من افلام راوول والش وهاورد هوكس في فيلمه "اصدقاء جيدون". وتقنية السينما ولغتها هما محور اجواء الفصل الثالث وعنوانه "المخرج ساحراً". وهل افضل من سكورسيزي يتكلم عن السحرة وهو منهم؟ ويرى المؤلف ان كادرات غريفيث وتحركات كاميرته وحواراته الصامتة ابلغ من الكلمات ويذكر بأن هذا المخرج هو اول من استخدم المؤثرات الخاصة في "ماراتون الموت" عام 1913. اما الضخامة المشهدية فأطلقها فيلم "كابيريا" عام 1915 لجيوفاني باستروني ثم تبلورت مع سيسيل بي دوميل في فيلم "الوصايا العشر" في نسخته الاولى عام 1923. ويصف سكورسيزي هذا الفيلم بأنه "مدهش" لما فيه من "لوحات مرسومة بعناية". ويميل سكورسيزي الى اعمال رائد الافلام النخبوية الفكرية الالماني فريدريش مورنو الذي كان اول من اطلق ما يسمى "فيلم المؤلف"، وكان "شروق الشمس" عام 1927. ويلاحظ ان هذا الفيلم يقوم على "مناظر فكرية" وان كاميرته "تتوغل في انفعالات الشخصيات". كذلك برز في هذا النوع من فرانك بورزاج الذي استوحى افلامه من المشاعر الانسانية لكنه بحسب سكورسيزي كان اقل ثقافة من مورنو. وكان ستانلي كوبريك اول من استخدم الكومبيوتر في "2001: رحلة فضائية" وتجلت ثورته في كل لقطة، وكان السبّاق الى ايلاء المونتاج اهمية. وفي الفصلين الرابع والخامس يعود سكورسيزي الى النظام الهوليوودي في بداياته، ويستخلص انه ادى الى ابعاد عدد من المخرجين ودفعهم الى البحث عن عواصم سينمائية اخرى. وكانت الافلام من الفئة ب ذات الموازنة المحدودة مسرحاً للتجريب اذ تمتع مخرجوها بحرية في انجازها وكانوا "يهرّبون" بواسطتها افكارهم الى فسحة تعبيرية بعيدة من السوق التجارية، وفي مقدم هؤلاء جاك تورنور. وهاجم قسم كبير من هؤلاء "الحرفيين المتواضعين"، كما يصفهم، للعمل في أوروبا. ويستمر سكورسيزي في الفكرة نفسها في الفصل الخامس وعنوانه "المخرج رافضاً للتقاليد"، فيثني على جرأة المخرجين المتمردين كإريك فون شروهايمر مخرج "موسيقى الزفاف" الذي استبعد من هوليوود ورولان براون الذي صفع مدير احد الاستوديوات. ويعتبر سكورسيزي ان أورسون ويلز "مدرسة" في السينما بعد غرينبث وينقل عنه قوله: "كنت احب هوليوود لكن المشكلة انها لم تبادلني هذا الشعور". فرقابة المنتج شوّهت لويلز مشاهد من "آل امبرسون الرائعين" وكذلك فعلت في "قطار الرغبة" لإيليا كازان اذ استعاضت عن موسيقى الجاز في احد المشاهد بموسيقى تقليدية اكثر شعبية. لكن رياح التغيير هبت على هوليوود في الستينات فكسرت شوكة نظامها وخصوصاً بعد نقل التلفزيون الى الجمهور العريض صوراً بشعة من حرب فيتنام. وتجرأ أرثير بين وسام بكينباه وكوبريك وآخرين على معالجة الجنس واللواط والعنصرية والعنف وادمان السلطة، وهي كانت موضوعات محرمة. كذلك خرجت الكوميديا عن التقاليد مع بيلي وايلدر الذي صور الحرب الباردة بطريقة هزلية وساخرة من خلال "واحد، اثنان، ثلاثة". وسكورسيزي نفسه اصلاً متمرد على هوليوود ومغضوب عليه فيها. انه في آن واحد "المهرب" و"الساحر" و"الراوي" و"الخارج عن التقاليد". انه الشاب الذي فضّل يوماً ان يترهبن للسينما على ان يلبس ثوب الكاهن، والمخرج الذي اغضب الكنيسة عندما جعل المسيح معرضاً للتجربة. وهو، في كتابه هذا يقود القارئ في رحلة مثرية ويؤكد المعادلة الآتية: "وراء كل مخرج عظيم ثقافة سينمائية عظيمة".