السيد المحرر، تحية طيبة وبعد، الموت والدمار طبق يومي لم ينقطع حبله منذ انقلاب 11/1/1992 في الجزائر، التنديد والمطالبة بالتحقيق لم يتوقف منذ استشراء الرعب وتعفن الوضع واتساع رقعة الاقتتال. والنظام الجزائري لم يتغير وموقفه لم يتزحزح قيد انملة تجاوباً وتلك النداءات إن في الداخل او الخارج. لكن بعد هذا كله وبعد سنوات طوال حبلى بالآلام والدمار ها قداقرت السلطات في الجزائر بقضية اسمها "المفقودين" وفتحت لها ملفاً و"مكاتب استقبال" تابعة للداخلية المتهمة الأساسية في تلك البشاعة الممنهجة، مكاتب في العاصمة وباقي الولايات الاخرى وضعتها السلطات في متناول "الاشخاص الذين يطالبون بتوضيحات عن اقاربهم الذين ربما فقدوا او اختطفوا". ما المتغير على الساحة الدامية في الجزائر حتى تحدث تلك النقلة النوعية في "منطق" وتعامل النظام مع هذا الموضوع الشائك الذي طالما نفت وجوده؟ أهي استفاقة ضمير النظام الحاكم او بعض الاخيار المتبقين داخله؟ أهي نتيجة عمل المنظمات الحقوقية التابعة للحكومة المرصد الوطني لحقوق الانسان المعين من قبل السلطة؟ ام هي نتيجة الصرخات العديدة والشجاعة لمنظمات جزائرية مستقلة مدافعة حقاً عن حقوق الانسان وكلفها ذلك ثمناً باهظاً "لانحيازها" الى جانب الفئات العريضة والمعدومة من الشعب الجزائري المقموع؟ ام حصل ذلك نتيجة تلك الضغوط الخارجية سواء منها للمنظمات الانسانية المستقلة التي لم تكل في مطالبة النظام الكشف عن المسؤولين الحقيقيين وراء المجازر وعن اماكن المفقودين، او بفضل لجنة حقوق الانسان التابعة للأمم المتحدة، وخصوصاً تقريرها الاخير الذي أدان دون مواراة ولا التباس القمع المنهجي للنظام الجزائري كما حض الحكومة الجزائرية في بيان اصدره يوم 31/8/1998 بپ"اجراء تحقيق مستقل موثوق به في المذابح التي شهدتها الجزائر على مدى السنوات الاخيرة". واتهمت المنظمة قوات الأمن الجزائرية بپ"الضلوع في اعمال التعذيب وحالة الاختفاء القسري... على نحو لا يسعنا الا ان نصفه بالمنهجي". لم تعد سياسة النظام القمعية قادرة على ترهيب هذه الامهات - الاخوات - الزوجات. ببساطة لم تعد هذه البطلات تخشى شيئاً ولم تعد تقبل بأقل من معرفة مصير ذويهن فإما احتضان المفقود او الرضى بقضاء الله وقدره كما عبرن بصدق عن هذا الشعور بقولهن "إما الخبر أو القبر" فقد تزينت هذه النسوة بحلي الاستعداد للموت في سبيل الابناء، الاخوة، الازواج. فلم تعد تطيق الركون والخرف الذي طالما كبلهن وشل حركتهن، خوف وقمع تفنن النظام الغاشم في تسليطه على الشعب لقهره وإجهاض بل وكتم كل الشكاوى والصرخات والآهات. هذا وحده قادر على تفسير ارتباك الارهاب النظامي واستفاقة ضميره ورضوخه الى الاعتراف بملف المفقودين.