في ندوة عن المسرح في مهرجان ادنبره الدولي، قالت ناقدة ان دور المسرح هو ان يجعلنا نشعر ونفكر. وهناك من يرى ان الفن كله مسخر لهذا الهدف، لحث الشعور وانفتاح الرأي وتعميق تجربة الحياة. المناقضون وجدوا في الاتجاه تبسيطاً وأحلام يقظة. وان المسرح مثل غيره من الفنون للتسلية الجدية ومشاركة التجربة او رواية عبرة من الماضي. وهناك من يشير الى ان كل هذا يؤدي الى تجربة واحدة هي المشاركة في الشعور وما يثير الخيال في مستوى يرتفع عن المواقف العادية. النوعية تختلف عندما نمارس "المشاهدة" في المسرح. ان هذا الفعل/ القرار هو الذي يهيؤنا لتلقي التأثير على نطاق اوسع وأعمق مما نشاهده في الحياة اليومية. المسرح يخاطب الذات مباشرة، ولهذا دور في تشكيل النمط الفكري كما يفعل النحات مع الطين. مهرجان المسرح في ادنبره هذه السنة كأنه يحقق نوعاً من هذه الصيغة... فالأعمال جدية ومسلية، ومن أنحاء العالم. اغلبها يغذي الذوق والنظر في اخراج مبدع. "كاليغولا" مسرحية البير كامو تتحول الى عصر حديث، القوة فيها للصورة التعبيرية... والمذنبون الذين اغتالوا الاسلوب الشخصي الفردي في الوصول الى الحقيقة هم اجهزة الهاتف العالمي... الا نعرف هذا، الا ننطق به في الحديث الساخر؟ ما الجدوى من تكراره عن طريق مسرحية مؤثرة مشحونة بالتاريخ وبالعبث وبالمقدرة على الطغيان. لكن المخرج ايفو فان هوف أطلعنا على رؤية خاصة، وفتح المجال امام التفسير الذي لا ينضب في هذا العمل الفلسفي... انها مغامرة، لكنها أيضاً محاطة بخطر سوء الفهم. ما يحيطها فعلياً بالدراما: هل يقبلها وعي الناس ام يرفضها؟ يمكن التفكير، في هذا الجانب من المهرجان، ان المسرح جهاز للسراب واغراق في حياة الخيال، هل من منقذ من الاحلام؟ هل من يعود بنا الى الواقع؟ هل من يزيح احلام اليقظة، ونحن ننطلق من قاعة الى اخرى، ومن مقطوعة التاريخ الى مسرحية عن الأوهام... مسرحية "الحياة حلم"، تحقق جزءاً من الاجابة هنا. وعلى رغم ان الكاتب الاسباني كاريدرون دولاباركا ألفها في العام 1635 فإن الطريقة التي قدمت بها تجعلها حقيقة معاشة معاصرة، بل انها تتحول امثولة للمهرجان كله: الحياة خلال شهر كامل من الفرجة تتحول الى خيال وحلم وحتى سراب! من هم اولئك الذين يؤثرون فينا من الكتاب حالياً: بيكيت، بريخت، شكسبير، يونيسكو، تشيخوف... هؤلاء يوجدون ملخصين في مسرحية دولاباركا، انها تصور في لغة حادة الصراع بين الآباء والأبناء، بين الحكام والشعب، بين الازواج، وفي كل مكان يوجد الصراع على السلطة والتسلط. نحن امام الحياة كخيال وظل... نحن امام الحياة قصة، والعيش يمضي في سراب. فأين موقعنا من الحبكة! لا جواب خارج قاعة المسرح، انه يكمن اثناء "ممارسة المشاهدة" وليس مجرد التفرج، يوحي هذا بأن المسرحية مخلصة لعنوانها، تبرز الواقع بواسطة الخيال ثم تعكس العملية لتثير المقارنة في امكانات الحياة المعاشة. الألماني بوتو ستراوس يقدم التجربة نفسها في "المتشابهون". وإذا كانت "كاليغولا" تجرد النفس من اي شعور وانفعال لتدين الانسان بالخيانة والموت، فاننا امام كاتب يعترف بأن الرغبة هي من اسباب افلاس الناس. هنا مسرح يبدأ من فكرة ليغذيها بالحركة... يضع لها موقفاً، ثم يتركها تكبر في الحدث. ما يهم ليس الوصول الى اثبات الفكرة بل ما يمكن ان تتطور اليه... حتى الوصول الى نقيضها مقبول. الرغبة هنا تلك المخلوطة بالشك الذي هو حاجز شفاف لتحقيق الهدف. يقدم الكاتب في اسلوب واقعي سوريالي مشاهد عدة هي عبارة عن مسرحيات قصيرة تجمع بينها رؤية واحدة: ان التفكير الفردي ضاع وان الناس يتحدثون مثل بعضهم، ويكتبون مثل بعضهم، ويعيشون حياة متشابهة مثل مسلسلات التلفزيون. نصل هنا الى ان المسرح يتعامل مع الحياة كأنها مسرحية لها اكثر من مخرج واحد وجهاز واحد وديكور مستمر لا تنتهي مشاهده. اقوى من هذا، يمكن للمسرح ان يكون جسراً بين الماضي والمستقبل، نمر فوقه بين الجهتين في حرية متى شئنا ان نحجز تذكرة. هذا الافتراض يعيدنا الى مسرحية "الحياة حلم"، قصتها تتعلق بأمير يسجن ابنه منذ الطفولة بسبب نبوءة انه سيقتل والده ويعيث في البلاد فساداً. يطلق الأب سراحه عندما يبلغ سن الرشد، فيحقق جانباً من النبوءة اذ يقتل احد الاعوان ثم يغتصب امرأة في القصر. يعاد الى الزنزانة، الا ان ثواراً يساعدونه على الهروب من السجن، فيتصرف هذه المرة بحكمة وشجاعة وارادة في الانتصار على الضعف. وعندما يهزم والده في معركة طاحنة يتصالح معه غافراً كل ما ارتكب في حقه. استخدم المخرج كاليستو بييتو 34 عاماً الديكور في طريقة منعشة. غطى الخشبة بالحصي. وعلق مرآة شاسعة بحبال فوقها. وهناك عازفان يقرعان طبلاً، ويغني احدهما بصوت منخفض بين الحين والحين. تتدلى المرآة في منتصف المسرحية لتجسم مشاعر الابطال وحالاتهم النفسية، ثم تنزل عند النهاية ليرى المتفرجون انفسهم فيها، في حين يقف مهرج في القاعة ليصيح: "ايها الناس انكم تشاهدون مجرد مسرحية وأنتم جزء فيها". وعلى رغم ان سيغموند يقول ان الحياة مجرد سراب وظلال وخرافة... فان مواقفه تؤكد في النهاية حرية الارادة، وانه من الممكن هزيمة الطغيان.