مجموعة من الباحثين العرب والاجانب المسألة القومية على مشارف الألف الثالث دار النهار، بيروت 1998 322 صفحة يقصد الكتاب الى استشراف الفسحة المعنوية الاصلح لتآلف مجموعة انسانية محددة يأتلف فيها اصحاب الآراء المتعددة والمختلفة بحيث تمتد الجسور الى الآخر وتتفتق المواهب الذاتية. اما منهجه فهو الوقوف على الثغور: حواراً بين مختلف التيارات ومن منطلقات متعددة دون إدعان الشمولية بالطبع. ولهذا أتى الكتاب اشبه بتقاسيم موسيقية تجمع بين اللحن وطباقه. الكتاب باقة فكرية ضمت احد عشر باحثاً ومفكراً، بينهم اثنان فرنسيان كتبا بالفرنسية هما اوليفيه كاريه وبول ريكور، من مشارب مختلفة. منهم من يؤكد على القومية كهوية جماعية متميزة لا تكتمل الا بالوحدة جمال الاتاسي، ومن هم من ينتقد هذه الهوية من منطلق حداثي ادونيس. ومن هم من يحاول ان يتلمس الحركة الاسلامية الراهنة وعلاقتها بالعروبة غسان سلامة او يرى الا سبيل لتفادي اخطار الاصولية الا بالعلمانية صادق جلال العظم. من خلال هذا كله ينساق الفكر في تعاريج دقيقة ليصل الى هذا السؤال الفلسفي المحض: ما وظيفة السلطة ومفارقاتها في الكيان الانساني؟ ويستمر اللحن بايقاعات مختلفة يرصد تحولات الأمة عند الآخر وعندنا، ويتحاور مع منظريها، ثم يستشرف موقعها في سياق عولمة الاقتصاد ليؤكد على استمرار صلاحية الأمة. كان من الطبيعي ان يتناول جمال الأتاسي في الموضوع الأثير لديه، ومحور اهتمامه السياسي، وهو: الدفاع عن القومية العربية. ولكنه بدا وهو يدعو الى تجديد الخطاب القومي والتأكيد عليه كمن يحمل شمعة وسط ظلام دامس في ليلة تعصف فيها الرياح والأنواء. انه ما يزال يتحدث بمفردات لغة الستينات ومفاهيمها، وما يزال يعتبر ثورة مصر الناصرية التجسيد الثوري لحركة القومية العربية. لقد سقطت الناصرية في مصر، ولم تعد التجربة الناصرية تجتذب حتى أشد المؤمنين بالوحدة. لقد كفرت شعوب المنطقة بالأنظمة الديكتاتورية. وبعد سقوط الأقنعة، وهزيمة حزيران يونيو سقطت معها "الأنظمة التقدمية"، ولم تعد الناصرية - التي حاولت ان تُصلح من شأنها بعد فوات الأوان - اكثر من نظام ديكتاتوري يضم كل عيوب الديكتاتورية وعبادة الفرد، حتى وإن كان على رأس النظام من يتمتع بكاريزما آسرة. خطاب الدكتور الأتاسي الذي نحترم نضاله السياسي بدا في عصر انحسار المد القومي وكأنه خارج التاريخ. التيار الناصري اليوم، ونحن على مشارف الألف الثالث تيار خجول متواضع، يعيش على اوهام الماضي. ويكاد يكون منقطعاً عن عالمنا المعاصر. أثار ادونيس في حديثه عن "الهوية وأسئلة الحداثة" عدة قضايا شائكة وشائقة معاً. ولعل كل فقرة من ورقته تستحق الوقوف طويلاً عندها لما تثيره من تساؤلات وجدل. ولكنني اود التوقف قليلاً عند مسألة الهوية... والآخر. يقول أدونيس: "تستدعي مساءلة الذات مساءلة الآخر. وتستدعي حركية الهوية الاعتراف بالآخر، من حيث انه مختلف حتى التناقض احياناً ومشارك في المعرفة والحقيقة. دون ذلك لا تكون الذات نفسها الا توهماً او انتفاخاً مَرَضياً". بهذه العبارات البسيطة يلخص أدونيس فهماً عميقاً وأصيلاً لمكوّن مهم وأساسي من مقومات حرية الرأي وحرية التعبير، من مقومات الديموقراطية الحقة، من مقومات احترام الذات من خلال احترام الآخر. ان اضطرابنا في معرفة الآخر، يعكس اضطرابنا في معرفة الذات. فلا يمكن ان نعرف الآخر اذا لم نعرف ذاتنا معرفة حقة. ويربط أدونيس بذكاء ما بين مسألة "الآخر" وغياب المعرفة العربية. فنراه يقول ابتداء بشكل حاد: لا وجود لمعرفة عربية لها مشاركتها الخاصة المتميزة في استكناه العالم الحديث... ثمة غياب معرفي عربي عن خارطة المعرفة الانسانية اليوم، لئن كان صحيحاً هذا الغياب المعرفي أفلا يكون الانسان العربي هو نفسه غائباً بمعنى ما؟ الا تكون هويته ذاتها غائبة في نوع من النفي او التهميش الذي يمارسه حضور الآخر المعرفي؟ وخلافاً للغة الأتاسي الطوباوية عن الوحدة، يحدثنا جورج ناصيف في ورقته "التجزئة والوحدة" بلغة الأرقام. فالتجزئة كانت قائمة ضمن كيانات تاريخية حتى في فترة ما قبل الاستعمار. والوحدة بمعناها الرومانسي لم تكن سائدة الا في بلاد الشام، وفي اذهان المفكرين القوميين في سورية بشكل خاص، في حين ان الرابطة الوطنية كانت هي السائدة في بلاد المغرب. ويستشهد ناصيف بعدد من الاحصاءات والدراسات الاجتماعية الميدانية كي يخلص الى نتائج واقعية في هذا الخصوص. فقد اظهرت الدراسة الميدانية التي قام بها د. سعد الدين ابراهيم حول اتجاهات الرأي العام العربي شملت حوالى 6 آلاف شخص من 10 اقطار عربية ان الغالبية الغالبة 78 في المئة تؤمن بأن العرب امة واحدة، وبضرورة قيام كيان عربي اكبر. ولكن عندما سئل هؤلاء متى يريدون مثل هذه الوحدة كانت الغالبية تفضل ارجاءها الى ما بعد 5 او عشر سنوات! وفي دراسات ميدانية اخرى اجريت على طلاب جامعيين حول تراتب الانتماء كان الدين والمواطنة والعائلة تحتل المراتب الثلاث الأولى ليأتي بعدها الانتماء القومي. ويخلص ناصيف الى نتيجة عقلانية: "ان ما ينسبه بعض المفكرين القوميين الطوباويين الى الكتلة الشعبية العربية من اتقاد في الحس القومي، ومن انها تعيش التجزئة كنير ثقيل، ليس في أقل تقدير دقيقاً او اميناً، اذ هو من قبيل النيابة عن الناس دونما تكليف". وتبين لنا ورقة ناصيف ان الدعوة الوحدوية التقليدية باتت بحاجة الى "اعادة تأهيل" عميقة بعد الانقلابات الجذرية التي شهدها العالم والمنطقة، وان هذه الدعوة بات عليها ان تنطلق من اسس جديدة تأخذ في اعتبارها تجذر القطرية التي بات لها دساتيرها ومؤسساتها، وتراجع الدعوة القومية امام المد الاسلامي. كما تأخذ في اعتبارها الجغرافيا والاقتصاد وتباين المصالح. يؤكد هذا المعنى ذاته الباحث والاستاذ الجامعي غسان سلامة في ورقته تحت عنوان "الوحدة العربية: موت او تحول" فنراه يقول: "ان ديمومة الدولة القطرية، والاعتراف باسرائيل، وغلبة الخطاب الاسلامي في صفوف المعارضة دليل على الفشل السياسي الواضح الذي منيت به ايديولوجيا سادت هذا القرن الى حد كبير في المنطقة بأسرها، الا وهي القومية العربية...". قد لا نذهب في المغالاة مذهب من ذهبوا الى حد اعلان "وفاة القومية العربية". فالقومية العربية قد تراجعت كثيراً كأيديولوجيا - ارتبطت مع الأنظمة القمعية مع الأسف - ولكنها تظل رابطة تجمع بيننا نحن العرب. ويتساءل سلامة ازاء انحسار التيار القومي وتصاعد التيار الاسلامي: هل هذا التصاعد هو نفي للقومية العربية التي كانت قائمة بالأمس ام انبعاث لها بشكل آخر واسم جديد؟ الا يجوز اعتبار الحركة الاسلامية على الأرض العربية، قومية محتدمة تخلت عن علمانيتها واستعادت تراثيتها؟ ويقوم غسان سلامة بعرض مطول لتجربة القومية العربية في كل من العراق، وسورية، ومصر. ويخلص بعد هذا العرض الى ان ما نشهده الآن هو تراجع الاشكالية القومية في العالم العربي اكثر منه انقراضاً للقومية العربية. والجماهير الشعبية التي تخلت بالتأكيد عن الاحلام الوحدوية السائدة في العقود السابقة لم تحول ولاءها بالضرورة الى الدولة القطرية. فهي لا تجد في هذه الدولة الا كياناً مركباً من اجهزة مهترئة، كياناً غارقاً في الديون ومصاباً بالعجز والفساد. وبالنتيجة فانه اذا كانت عروبة الخمسينات قد ماتت فان الدولة القطرية ليست هي البديل او الخليفة... ما يحدث ان العروبة تشهد تحولاً، كما يرى سلامة، يستعيد ولكن بلغة دينية، العداء المتأصل تجاه الحدود، وهي ترفض دولة اسرائيل، وتتعطش الى هوية ثقافية متميزة عن الغرب. ان الاسلاميين لا ينعون العروبة الا ليكونوا ورثتها. وتحت عنوان "العلمانية والاسلام" يأتي بحث صادق جلال العظم المهم. ويقول المؤلف في مستهل ورقته "انه خلال رحلة علمية طويلة امضاها في الغرب، في الاوساط الاكاديمية على وجه الخصوص، تراكمت لديه مجموعة من الاسئلة حول امكان انسجام الموروث اليقيني مع كلٍ من الحداثة، والعلمانية، والديموقراطية، والعلم والتكنولوجيا. ومع ان هذه التساؤلات قد طرحت على الباحة بالحاح في الغرب الا انه يستدرك ويقول انها مسائل كانت وما تزال مطروحة على جدول اعمال التاريخ العربي والفكر العربي الحديث منذ عصر النهضة وحتى الآن. ونحن نعرف اننا كنا وما زلنا نصارع هذه الاسئلة ونتصارع معها ومع مشكلاتها الملحّة وضغوطها الحياتية. يركز الباحث هنا على قضيتي العلمانية والديموقراطية. وهو يرى ان الموروث اليقيني اذا كان ينسجم مع احداهما فهو ينسجم مع باقي القضايا التي ذكرناها اعلاه ومع قضايا اخرى من مثل التسامح الديني او حقوق الانسان او حرية الرأي والتعبير. فيما يجيب الباحث بپ"نعم" مدوية حول انسجام الاسلام مع هذه القضايا، نجد ان الحركات الاسلامية الاصولية الراهنة تجيب بالنقيض تماماً، اي بلا مدوية. وهو يستشهد هنا بنماذج من كتابات بعض الاصوليين والتي تشعرنا ان اصحابها يعيشون خارج العصر والتاريخ. ومن المؤسف ان الغرب - عموماً - لا يرى الا وجهة النظر هذه، لأنه لا يريد ان يرى الا الأسوأ في الاسلام. انهم لا يرون في الانسان الاسلامي: HOMO ISLAMICUS الا ذلك النموذج البشري الذي لا يتحرك ولا ينفعل الا بقوة النصوص العتيقة والمعتقدات البالية او الميتافيزيقية، فكيف يمكن لمثل هذا النموذج ان ينسجم مع مستجدات تاريخية مثل الديموقراطية، والعلم الحديث والتقنية؟! انها لمفارقة حقاً ان يتطابق الفهم الاختزالي الغربي لحياة الاسلام مع المقولات التي تطرحها بعض الحركات الاصولية الراهنة عن الاسلام! يرى العظم من خلال استحضار امثلة التاريخ الاسلامي وواقعه ان الاسلام لم يكن ينسجم "صراطياً" - والتعبير للمؤلف - وعقائدياً بالتأكيد مع نماذج من الحكم قامت في التاريخ الاسلامي، لكن الاسلام كان منسجماً تاريخياً وواقعياً مع تلك الأنظمة، مع وجود فئات معترضة على ذلك بالطبع. فقد استوعبت الخلافة الاسلامية عقلانية الواقع القائم وتمثلت ضروراته وموازين قواه في تلك المرحلة التاريخية. ورأى العظم انه حيثما اصطدمت الپ"لا" الصراطية مع الپ"نعم" التاريخية كانت الغلبة لصالح الاخيرة، حتى في الحالات التي كانت فيها الأولى صحيحة ونقية، وكانت الاخيرة منحرفة او خارجة عن الصراط الاسلامي المستقيم. بمعنى آخر، لقد استطاع "التاريخانيون" ان يفرضوا رأيهم ووجودهم واقعياً وتاريخياً على "الصراطيين"، حتى وإن كان الاخيرون على حق او اكثر انسجاماً مع فطرة النظام الاسلامي. هذا الصراع التاريخي بين الپ"لا" الصراطية والپ"نعم" الواقعية ما يزال مستمراً في عصرنا الحاضر. وقد احتدم ديالكتيك المجابهة منذ مطلع عصر النهضة عندما وجه انصار كل جانب قضايا معاصرة مثل العلمانية والديموقراطية والليبرالية والحداثة... الخ. ويخلص المؤلف بعد استعراض امثلة عديدة من التاريخ المعاصر الى نتيجة مفادها ان الاسلام كدين عالمي - تاريخي ضم مجموعة هائلة من الثقافات والمجتمعات المتنوعة والحضارات المتضاربة. ولو لم يكن الاسلام كدين عالمي يحمل طاقة هائلة من التحول والتكيف والمرونة والتأويل واعادة النظر لما تمكن من الاستمرار والاتساع على النحو الذي نعرفه، ولا شيء يمنع بالتالي الاسلام التاريخي الحالي من التوافق والانسجام مع العلمانية والديموقراطية والعلم الحديث، مع استمرار وجود الپ"لا" الصراطية". "في سبيل تحول ديموقراطي وروحي للقومية العربية" هو عنوان ورقة محمد طالب التي يتناول فيها الباحث، من منطلق قومي، العلاقة بين الدولة والأمة، والعلاقة بين الاسلام والمسيحية ضمن اطار "العروبة". ويرى طالب ان ثمة طريقتين لفهم مرجعية الاسلامي: احداهما مبتسرة وخطيرة تقوم على اختزال الاسلام الى دين تتحكم فيه النظرة الشرعية والاخلاقية، والثانية تتخذ من الاسلام مرجعية وتعتبره هوية تاريخية - ثقافية يشترك فيها كل عربي، مسلماً كان ام مسيحياً. هذه المرجعية الاسلامية في الفكر القومي العربي تبدو ضرورية في مواجهة الصراع الثقافي مع الغرب. فتفعيل ذاكرة شعوبناً بواسطة القومية العربية يتوسل بشكل صريح تعبئة العنصر الاسلامي في هذه الذاكرة سيما وانه عنصر محوري وأساسي. البحث الاخير في هذا الكتاب المهم، والذي يصح ان نصفه بأنه عدة ابحاث كتبت في مراحل متباعدة ولكن يجمعها عنوان عريض واحد هو: الأمة - الاشكالية. انه في حقيقة الأمر كتاب او ما يشبه الكتاب لأنه يضم قرابة مائة صفحة من صفحات كتابنا هذا. اما المؤلف فهو من اهدي له هذا الكتاب، هذه الدراسات في المسألة القومية: انطون مقدسي. هذه الدراسات القيمة أرادها الناشر لفتة تكريم لمن لا كتاب له، وملتقى للحوار الفكري في قضية، او قضايا، ساهم فيها المكرّم