منذ حرب الخليج الثانية والكتابات عن انقراض الفكرة القومية تتكاثر. بعضها يعتبر ان لغة هذه الفكرة أصبحت "عتيقة"، وأحزابها هزيلة، وخطابها هامشياً، وبعضها الآخر يعتبر ان الشعور القومي المتعطش الى تأكيد هويته، والنابض بحلم مثالي بوحدة تجرف الحدود، وتدكّ السدود، ما زال حاضراً حضور عبدالناصر في ذاكرة جيل الخمسينات والستينات. وما زال قادراً على طريقة البعثيين والقوميين العرب ان يوحّد المواقف في وجه الرجعية، والاقطاع المالي والسياسي والاستعمار الجديد. في الكتاب الذي نشرته "دار النهار" تكريماً لانطون المقدسي المفكّر السوري المعروف وعنوانه "المسألة القومية على مشارف الالف الثالث" وشارك فيه مجموعة من الباحثين باشراف بطرس الحلاق، مناقشة عامة للفكرة القومية والشعور العروبي المتعطش لتأكيد هويته واستعادة دوره على الساحة الدولية. يعتبر غسان سلامة ان المشروع القومي ذو حركة مزدوجة فهو ناجم، في آن من صوغ هوية ومن صوغ غيرية. فالقوميون يبادرون الى اعتبار ان أمّتهم هي الأمة الحقيقية، وانها كائنة منذ الأزل وانه ينبغي لها بالتالي ان تثبت وجودها وذلك من خلال تجسدها في دولة، هي دولة الوحدة. وبعد ان يؤرخ سلامة لنشوء الفكرة القومية منذ ايام سلاطين بني عثمان، ويشير الى ان المسيحيين المتنوّرين كانوا من دعاتها الأوائل يتوقف عند الاجيال التي حملت مشعلها في كل من سورية والعراق ومصر. أجيال أفرغت القومية من مضمونها العقائدي بعد وصول آخر جيل منها الى السلطة، وحوّلتها الى أنظمة تدّعي العروبة، الا انها في الواقع تعمل على حماية نفسها من العروبيين ومن الذين يعملون في الاتجاه العربي الواحد الداعي الى وحدة الكلمة، ووحدة الصف، ووحدة المصير، يكتب سلامة في هذا السياق: "ان القومية العربية بعد ان استأثرت بها أنظمة اصبحت الآن في موقع الدفاع عن النفس، وبعد ان اصبحت تجابه معاً ديمومة الدول القطرية والمعارضة الاسلامية المتعاظمة، صارت اليوم مرهقة وفاقدة لقسط كبير من مصداقيتها. ان الانطباع السائد عن القومية العربية على ما يردد سلامة هو ان هذه الحركة اصبحت حركة سياسية إيديولوجية، دمّرها على السواء أنصارها أنظمة فئوية و/ أو ديكتاتورية وخصومها قوميون قطريون استولوا على التراث الذي خلفه الاستعمار وإسلاميون وحلفاؤها الخارجيون الاتحاد السوفياتي الزائل، وحركة عدم الانحياز التي آلت بسرعة الى الزوال واعداؤها الحركة الاسلامية بمختلف اتجاهاتها والغرب اخيراً". وبسبب من ذلك كله فان ما نشهده اليوم في البلدان العربية على ما يقول غسان سلامة هو تراجع الاشكالية القومية، اكثر منه انقراضها، اما الاسلاميون الذين ينعون القومية العربية، لألف سبب وسبب. فما نعيهم الا محاولة لوراثة هذه الحركة التي اجتاحت العالم العربي من محيطه الى خليجه. والدليل انهم يستعملون اللغة نفسها التي استعملتها القومية العربية لكن بألفاظ دينية. فهم يكنون العداء نفسه المتأصّل تجاه الحدود التي عملت بها الانظمة القائمة. ونفس النبذ المتجذّر تجاه دولة اسرائيل، ونفس التعطش الى هوية ثقافية متمايزة عن الغرب. ونفس المطالبة بموقع أفضل على الساحة العالمية. في اتجاه آخر يكتب صادق جلال العظم عن بعض التوجهات القومية كالعلمانية والديموقراطية في علاقتها بالاسلام والحركات الاسلامية الاصولية محاولاً ان يتبين ان الاسلام لا يمكن ان يتقوقع في تفسير واحد ذلك انه دين عالمي زرع نفسه على امتداد 15 قرناً في مجموعة عائلة من الثقافات المختلفة والمجتمعات المتنوعة والحضارات المتضارية والدول المتصارعة: فيها القبلي الرعوي، وفيها الزراعي، وفيها الدولة الهرمية - البيروقراطية، وفيها الدولة المدنية، وفيها الدولة القومية الحديثة. ويوضح العظم مضيفاً ان الاسلام لو لم يكن يحمل كدين عالمي تاريخي، طاقة هائلة من التحوّل والتكيّف والمرونة والتأويل والتفسير وإعادة النظر، لما تمكّن من الاستمرار والاتساع على النحو الذي نعرفه. وبناء عليه كما يستنتج العظم فان لا شيء يمنع الاسلام التاريخي الحالي من التوافق والانسجام، مع العلمانية والديموقراطية والعلم الحديث. يقترب أدونيس في معالجته للفكرة القومية من طرح سؤال الهوية في عالم الثقافة الاسلامية فيشير الى ان هذا المفهوم قائم على ان الهوية معطاة سلفاً، وانها أشبه بنواة، والافراد هم ثمارها أو تجلياتها. والحال كما يوضح أدونيس ان الهوية هي، على النقيض حركة وحركية. والانسان يبدع هويته في ما يبدع فكره وعمله. الهوية، بعبارة ثانية، ليست كينونة مكتملة سلفاً وإنما هي حركة دائمة من التكوّن. والحديث عن اعادة النظر بمسألة الآخر داخل المجتمع العربي الاسلامي، والآخر الاجنبي. وإعادة النظر هذه عند أدونيس تحمله على الدعوة للاعتراف بالآخر انه مختلف حتى التناقض أحياناً، ومشارك في المعرفة والآخر. ومن هنا لا بد كما يقول من إعادة النظر في مفهومي "الاكثرية" و"الاقلية"، فالاكثرية ليست امتيازاً معرفياً، ولا تمثّل اية مشروعية لكي تمتلك هي، وحدها الحقيقة. ويثير أدونيس اضافة الى مسألة الهوية مسألة النص، أو النصية المعيارية، ومسألة الواحدية والتعددية. يرى أدونيس انه لا بد من نقد النصية المعيارية نقداً معرفياً، والخروج الى الواقع - البحث. من دون ذلك - كما يردد - ستظلّ المعرفة العربية - الاسلامية اعادة إنتاج لنص ينطوي، وفقاً لإيمان اصحابها، على المعرفة المسبقة الكاملة والنهائية، لما كان، وما هو كائن وما سيكون. "ستكون المعرفة، بعبارة ثانية، نوعاً من الاكتشاف لما ينطوي عليه النص، ونوعاً من تفسيره، وسيكون دور العقل هنا مقصوراً على تدبّر الطرق التي تكفل فهم النص دون تحريف، ودون اقحام الرأي، أو قول شيء من خارج النص، وفي هذا ما يؤسس بنية معرفية تلغي العقل من حيث هو استقصاء لعالم المادة". وفي معالجته لمسألة الواحدية والتعددية يرى أدونيس ان مفهوم الواحدية الطاغي في عالم الثقافة العربية الاسلامية يجب ان يستبدل بمفهوم التعددية. فالأمة ليست هي التي تبدع، بل هذا الشخص أو ذاك. لهذا إن كان لا بد من الكلام على هويتها فهي ليست الوحدة بل التعدد. ومن دون هذا الخروج كما يوضح أدونيس سيظلّ سائداً القول بوحدة الامة، القائمة على وحدة النص، القائم على وحدة الحقيقة، القائمة على وحدة السلطة. ومثل هذه الوحدة إلغاء للمعرفة وللإنسان في آن. اذا كان سلامة يتحدث عن تراجع الإشكالية القومية والعظم يناقش التوجهات القومية كالعلمانية والديموقراطية في علاقتها بالإسلام، وأدونيس يعيد النظر بمسألة الهوية التي شكّلت أحد المداميك الاساسية في الفكر القومي، فان الاب يواكيم مبارك يعتبر ان استبطان الرسالة النبوية كاستراتيجية تأسيسية للعروبة لا تزال، في مسارها البكر، صالحة اليوم لتكوين أمة حديثة انسانية تعددية، يمكنها في آن التصدي للتحديات الملقاة على عاتقها، لا سيما في فلسطين، وتجاوز تناقضات القومية الاوروبية التي تسببت بحربين عالميتين مرعبتين. فيما يعتبر محمد طالب ان أي تأسيس لرؤية فلسفية سياسية عربية جديدة، على غرار الرؤية القومية لا بد له من مساءلة العلاقات القائمة بين الدولة والأمة والمجتمع. ويعتبر في السياق نفسه الاب جورج خضر ان ربط العروبة بالإسلام هو ربط المسيحية السابقة للإسلام التي تأسست في القدس بمكة التي غدت قُبلة الاسلام ومعراجه الى الأبدية. وتجلّى هذا النموذج على ما يرى الأب يواكيم مبارك من بين عناصر كثيرة، باستضافة كل غريب، كائناً من كان، وباحترام حق اللجوء، وبتعايش تعددي لكافة الجماعات والطوائف داخل الأمة. أما محمد طالب فيرى ان عالم العروبة والاسلام له من الموارد ما يكفيه لاعادة تنشيط مساره التحرري. وفي هذا العالم يجب ان تُعطى الحرية والديموقراطية، وكذلك احترام الشخص الانساني المكان الملائم. يكتب محمد طالب "إن اي قومية عربية مجددة وملتزمة بالتحوّل الديموقراطي، يترتب عليها ان تحافظ على المبدأ القائل بضرورة الابقاء على الدولة فاعلاً، لا عوض عنه على الساحتين العربية والدولية". من جهته، المطران جورج خضر بعد ان يؤكد على الانتماء العربي للمسيحيين قبل الاسلام وبعده. يذكر ان اليعاقبة المسيحيين هللوا لدخول العرب وآمنوا بانهم "نصرالله والفتح"، وقد رأوا ان المسلمين بمباركة إلهية حرروهم من الروم. وفي مرحلة اخرى اعتبروا ان الاسلام بعض منهم وانه ليس آخر الا جزئياً. وعاشوا قروناً يحسّون بان المسلمين وافدون اليهم، وساعدهم على هذا الشعور انهم ظلّوا خلال ستة قرون يفوقون المسلمين عدداً بصورة ملحوظة. وبذلك تراهم وقد فُطروا على العروبة بلا فلسفة في حين ان كل دعاة العروبة في عصر النهضة جاؤوا الى العروبة من الفلسفة القومية المعاصرة. جمال الأتاسي وفي الكتاب نفسه لا يعتبر على عكس بعض المشاركين في الكتاب المهدي الى انطون مقدسي ان الفكرة القومية، هي فكرة لحقبة تاريخية مضت، أو شعارات ومبادىء لحركات وقوى سياسية تخلّت أو فشلت واضمحلت، بل تظلّ الردّ التاريخي والحضاري، والردّ الانساني كمشروع نهوض لا بديل عنه في مواجهة ما يدبّر ضد الوجود العربي، وضد الامة العربية، ويظل حافز حركة وتقدّم وحافز ثورة لا بل يذهب الأتاسي الى الاعتبار انه لا يرى اي مستقبل سياسي حضاري للأمة العربية، الا من خلال تجديد المسار القومي الذي انقطع قبل ان يبلغ أهدافه في التحرير والوحدة والتقدّم. ان تجديد المسار القومي الذي ينطلق منه الاتاسي ينبع من ثورتين في ثورة واحدة: مهمة قومية وديموقراطية. المهمة القومية تنطلق من مبدأ وحدة الامة اختراقاً لفواصل التجزئة وتعزيزاً لروابط التكامل والتواصل بين المجتمعات والشعوب العربية. والثورة الديموقراطية التي تنهض من داخل كل مجتمع وشعب، لتصبح المبدأ والمنطلق لكل عمل قومي وعلى كل المستويات القطرية وما بين الاقطار، وما فوقها من بنى ومؤسسات قومية، تأكيداً على هدف اصبح مقدماً على كل هدف، وهو "ان ندفع بالديموقراطية وباعادة تأسيس استقلالية المجتمعات وحرية القوى الاجتماعية، لتقوى على رفع كابوس قطرية الانظمة النافية لكل وحدة قومية، ولكي لا تتكرّس التجزئة من خلالها كواقع أبدي، أو كي لا تجرّنا الى التمزّق من داخلنا ارتداداً الى شتاتنا ما قبل القومي، أو تجرّنا الى الذوبان والضياع في تلك الأطر الاقليمية أو التكتلات الأكبر والمهيمن عليها كذلك النظام الشرق أوسطي". اذا كان الأتاسي يتحدث بكثير من التفاؤل عن تجديد المسار القومي، فان جورج ناصيف يتحدث بكثير من الواقعية عن اعادة تأهيل عميقة لهذا المسار. إعادة تأهيل تكمن في الاعتراف بأن "الدولة القطرية" باتت امراً واقعاً، سائراً الى الرسوخ دستورياً وشعبياً. وان عنصر الجغرافيا والجوار يجب ان يحلّ محل الايديولوجية القومية التي تشطب المسافات. وان يتمّ استبدال ايديولوجيا الوحدة على الطريقة البروسية، الوحدة الاندماجية الكاملة، التي تتمحور حول دولة / اقليم قائد، يشكل مركزاً وحدوياً جاذباً، بالوحدة على الطريقة الكونفدرالية. وان يُمنع الصلح العربي - الاسرائيلي من ان ينتهي الى هيمنة اقتصادية على العالم العربي. مع نهايات القرن العشرين يتكشف ان لنا ديمومة الدول القطرية، والاعتراف باسرائيل، وغلبة الخطاب الاسلامي ما هي الا أدلة على خسارة الايديولوجية القومية في مجال رهانها، على توحيد العالم العربي، واستعادة الحقوق الفلسطينية، واستبعاد الحركات الاسلامية عن الساحات السياسية العامة. لكن هذه الأدلة أيجوز اعتبارها براهين قاطعة على انحسار الايديولوجية القومية، وفي اسوأ الحالات اندثارها هباءً؟ أم اعتبارها فشل لسياسة القائلين بها، والداعين لتحقيقها؟ في الجواب نقول: ان الإدانة من الانحياز، والتحوّل العميق من سُنن التاريخ التي ليست آلية ولا حتمية