ربما يمكن القول – مع بعض المبالغة - لا توجد تجربة أخفقت في العالم العربي بقدر التجارب القومية العربية، كما لا توجد تجربة تم التنظير لها في المجال العربي بحجم التنظير للفكر القومي، ولا توجد مراجعات تمت بحجم مراجعات الأطروحة القومية من القوميين أنفسهم، وتم نقدها ممن سواهم. ولهذا بالذات، هذا الإخفاق، وهذه القدرة على التأسيس، والقدرة على التجديد، ولأننا عرب، لا يزال الفكر القومي حاضراً في العالم العربي، ولا يزال يحمل ما يجعله ملهماً، خصوصاً لمن لا يحمل أمراض الهوية: البراءة من الهوية العربية/ الإسلامية والشعور بأنها عار يجب التخلص منه، كما في بعض التيارات العلمانية الراديكالية التي تعبد «الحضارة الغربية»، أو الانغلاق على هوية إسلامية تحولت إلى أيديولوجيا متزمتة لا تقبل التطور، كما لدى بعض التيارات الإسلامية التي تعبد «التراث». وأقول بعض لأن هناك تيارات إسلامية حديثة بدأت تراجع هذا التطرف، وتقاربت مع التيارات القومية في العالم العربي خلال العقد الأخير. الحديث عن إخفاق التجربة القومية جاء من واقع سيطرة القوميين على ثلاث دول عربية ذات ثقل مهم في العالم العربي، من دون تحقيق مطامح العرب وتطلعاتهم، فالتجربة البعثية في سورية والعراق حولت العروبة إلى أيديولوجيا شمولية، قادت إلى حكم دموي، وشكل «كاريكاتوري» للقومية، على حد وصف عزمي بشارة، أما التجربة الناصرية فتم الانقلاب عليها وطمس ملامحها تماماً بفعل الإرث الساداتي. هذه الأيام، وفي ذكرى ثورة تموز (يوليو) 1952، ماذا تبقى من التجربة الناصرية؟ في مقالة بعنوان «ماذا بعد عبدالناصر؟»، يقول عبدالله الطريقي «نعم لم ينجح عبدالناصر في تحقيق الوحدة السياسية الفعلية للأقطار العربية، ولكن ما فاجأ العالم هو نجاحه المنقطع النظير في تعميق فكرة الوحدة بين الطبقات العربية في كل مكان». كتب الطريقي هذه المقالة بعد شهر من وفاة عبدالناصر، التي كانت مقالة متفائلة... على رغم كل شيء. إذا كانت «روح الناصرية» هي مقاومة النفوذ الغربي في العالم العربي، والسعي إلى الوحدة العربية، إضافة إلى التنمية وترسيخ العدل الاجتماعي بين المواطنين، ومقاومة الاحتلال الصهيوني. فيبدو أن هذه الروح قابلة للبعث، وما زال العالم العربي بحاجة لهذه الروح لبناء مستقبله. وتزداد الحاجة إلى هذه الروح كلما توغل العالم العربي عكس هذا الاتجاه. بماذا نجح عبدالناصر وبماذا أخفق؟ يمكن قراءة هذا في كتابات القوميين العرب، خصوصاً مع عدم وجود أي وريث شرعي للمشروع. يرى محمد جابر الأنصاري التجربة في كتابه «الناصرية بمنظور نقدي» بمنظارين، ويخرج بحكمين. كتب الأنصاري «إذا كانت الناصرية ظاهرة الحكم الفرد، وأخطاءه، وسطوة أجهزته ومراكز قواها الفاسدة، فذلك تاريخ لابد من تجاوزه في كل الأنظمة العربية»، ومن جهة مغايرة، يقول الأنصاري: «أما إذا كانت الناصرية استنهاضاً للعرب لإقامة كيانهم المتقدم، بالكرامة والحرية، في هذا العصر، فذلك ما لا يمكن إغفاله في أي نهوض مقبل للعروبة والإسلام». هناك مقولتان شائعتان في نقد التجربة الناصرية، يتم تداولهما من خصومها أو الجاهلين بها، الأولى: اعتبار عبدالناصر ظاهرة صوتية تم تضخيمها من العرب لتعويض الهزيمة الحضارية التي يعانون منها. والثانية: لوم عبدالناصر لأنه انقلب على حكم دستوري ديموقراطي في مصر ورسخ للاستبداد السياسي في العالم العربي. أما المقولة الأولى فباطلة كلية، أما الثانية فتحمل قدراً من التضليل. لا يمكن اعتبار استكمال جلاء الإنكليز عن مصر، وتأميم قناة السويس، وقوانين الإصلاح الزراعي، ومجانية التعليم، وبناء السد العالي، من جهة، ودعم تحرير الجزائر من الاستعمار الفرنسي، ومواجهة إسرائيل، وكسر احتكار السلاح، والوحدة المصرية السورية، من جهة أخرى، كل هذه العناوين ليست خطباً ودعاية، بل أفعال وإنجازات على أرض الواقع. أما الحديث عن الديموقراطية؛ فابتداءً لا يمكن اعتبار الديموقراطية قيمة بحد ذاتها. ومن المهم النظر في السياقات التاريخية للتجربة. ويمكن تفهم أن الجو العام كان موجة تحررية من الاستعمار والنفوذ الغربي، لا بناء دولة مدنية وتأسيس نظام ديموقراطي ليتم المحاسبة على جزئية عدم الاهتمام بها، خصوصاً مع وجود ديموقراطية مشوه بتدخلات أجنبية تحت ظل الملكية المصرية، لكن من ناحية أخرى، لدينا إشكالية متعلقة بقمع المعارضين، وهذا ما لا يمكن تبريره في التجربة الناصرية، وأعتقد بأن محاولات تبرير القمع تسيء للقوميين العرب أكثر ما هي تخدم سمعة التجربة. إن طمس التعددية السياسية في مصر، وزج المعارضين في السجون، وملاحقة الناشطين والمثقفين، سلوك لا يمكن تبريره والتذرع بأي شيء في سبيل تجميله. الحكم على عبدالناصر بمعايير الحاضر، إذ المزاج العام يدعو إلى تبني الديموقراطية، بعد الربيع العربي، لا يستقيم ورؤية التجربة في تاريخها وإمكاناتها. فهذا الإسقاط على الماضي ينتج حكماً تعسفياً إن استخدم كمعيار وحيد. وفي هذا الإطار تبدو محاولة وصف الحقبة الناصرية بأنها حكم شعبي، على غرار حديث عزمي بشارة «لم يكن قوميو تلك المرحلة ديموقراطيين بالمعنى الذي نعرفه اليوم، بل كانت ديموقراطيتهم أقرب إلى اليعاقبة الفرنسيين، الذين رأوا أنهم يعبرون عن إرادة الناس ومصالح الغالبية...»، ليست تبريراً للاستبداد، بقدر ما هي محاولة تفسير لمنطلقات تلك المرحلة، وكيف كان يرى عبدالناصر نفسه، وحقبته. لا ينبغي تصنيم التجربة الناصرية وإضفاء قداسة على شخص عبدالناصر، بل الأولى قراءة تلك التجربة وفهم نجاحاتها وإخفاقاتها، للخروج بحل ل«المسألة العربية» المعلقة. * كاتب سعودي. [email protected] BALRashed@