المنّ مادة سكّرية تتجمع على أوراق وأبر أو أشواك بعض الاشجار، هي في حقيقتها أشنات Lichens من فصيلة ليكانورا Lecanora حسب تسميتها العلمية اللاتينية، يعتقد بأن موطنها الاصلي آسيا الصغرى بصورة أساسية. وينسب المنّ ايضاً الى أصماغ يفرزها صنفان من نبات يدعى العاقول أو حسك الجمل، كل منهما يتألف من ساق رئيسية طولها أقل من متر، وتتشعب منها أغصان، موطنها الأصلي آسيا الصغرى ايضاً. وهناك حشرة تدعى القرمزية أو قملة النبات، تثقب ساق النبتة التي تحل عليها ضيفة، أو تفرز مستحلباً أو عصارة، تصبح منّاً ايضاً. ومثل هذه الحشرة تعيش على شجيرات الطرفاء في سيناء، ولا يزال البدو يجتنون المن الذي تفرزه هذه الحشرة. وفي أريزونا وجنوب كاليفورنيا في الولاياتالمتحدة توجد حشرة تشبه حشرة القرمزية تدعى شمع البلوط القرمزية، تنتج شمعاً أصفر براقاً تجتنيه القبائل الاميركية الأصلية، وكان يدعى "العسل الهندي الأحمر" أو "طل العسل"، ويستعمله الهنود الأميركان كعلك. ومن مصادر المنّ أيضاً شجر الدردار المزهر، ونتاجه كان يستعمل لأغراض طبية. ويظهر المنّ في الليل وفي الصباح. وتزداد كمياته عندما تكون هناك تقلبات في درجات الحرارة أو الرطوبة. ويوجد صنف من المن في استراليا يتجمع على أوراق اشجار الكالبتوس، تفرزه يرقة من الحشرات البرغوثية النباتية، وهو على شكل كتل مخروطية يجتنيها المواطنون الاستراليون الأصليون ويتلذذون بطعمها ذي المذاق الحلو. والمن مادة حبيبية حلوة، كان ولا يزال مصدراً للسكر الطبيعي، الى جانب العسل. وبوسع مجتنيه ان يجني في الصباح ما يعادل أربعة أرطال الرطل أقل من نصف كيلوغرام بقليل. وقد يتطاير المن بفعل الريح الى مسافات بعيدة. ومعظم المعاجم - الاجنبية - تذهب الى ان كلمة "من" أصلها عبري: عندما عثر بنو اسرائيل على المن في تيههم في صحراء سيناء، تساءلوا "من هو؟" بمعنى "ما هو"؟ لكنني قرأت في كتاب "الموسوعة العالمية للطعام" تأليف L. Patrick Coyle 1982 ان كلمة "المن"، وتقابلها باللغات الأوروبية لفظة manna، مشتقة من الكلمة العربية "من"، التي تطلق على جنس حشرة، أو على طل العسل. ووجدت في "المنجد" ان "المننة": العنكبوت. ويذهب غزينيوس في معجمه عن أصل المفردات التوراتية الى ان كلمة "منّ" مشتقة من الجذ "منّ" بمعنى "أنعم". فالمن حسب تفسيره أعطية السماء. والمنّ باللغة الأكدية يقال له Supalu. ولعل هذه الكلمة تذكرنا بكلمة "شفلح" العربية أو العراقية الدارجة، التي يطلق عليها باللغة السريانية الدارجة "شفلحة". والشفلح نبت ينمو في البرية، ورقه بيضوي، وثمره بيضوي أخضر يتفلع عندما ينضج، وتسيل منه مادة حلوة الطعم حمراء قانية كالدم في وسطها حبيبات سود. وقرأت في "معجم الألفاظ الفارسية المعرّبة" للباحث أدي شير ان الشفلح معرّب شفلج الفارسية. لكنني أميل الى الاعتقاد بأن الكلمات العراقية والسريانية والفارسية كلها مستعارة من كلمة Supalu الاكدية، التي تقال للمن. ثم ان كلمة Supalu هذه هي المعادل لكلمة Zabalam السومرية، كما يقول كامبل تومبسون في "معجم النبات الآشوري". ويرى تومبسون ان شجرة "اللزاب" العربية تنتمي اشتقاقياً الى كلمة Zabalam السومرية. واللزاب شجر يوجد في بادية الشام وفي لبنان وفلسطين، كما يؤكد تومبسون. لكنه شجر كبير من أنواع العرعر، ورقه أشبه بورق الشربين، وخشبه من أجود الأخشاب، كما جاء في "المنجد". وهناك ألفاظ أخرى تطلق على "المن" باللغة الاكدية، مثل كلمة قدراتو التي استعارها الفرس والأكراد؟ في قولهم "قدرات حلفاسي"، أي "من السما". ويذكر كامبل تومبسون اصنافاً عدة من المن، في كتابه "معجم النبات الآشيوري": 1- هناك نوع يجتنى في صقلية بصورة رئيسىة، وهو مسهل خفيف. وينتج هذا المن من الثقوب التي تحدثها حشرة تشبه الجرادة، لكنها تختلف عنها بوجود ذنابي كالأبرة تحت بطنها. 2- يقول و. سميث ان المادة التي تدعى منا في الصحراء العربية التي تاه فيها بنو اسرائيل، تجمع في شهر حزيران من شجر الطرفاء. واستناداً الى بركهارت ان هذا المن يتساقط من الحسك على الاعواد والأوراق الساقطة على الأرض، ويجب جمعه في ساعة مبكرة من الصباح، قبل ان تذيبه الشمس. ويقول تومبسون ان العرب ينظفونه ويغلونه، ثم يصفونه بقماش، ويحفظونه في قنان جلدية، ويستعملونه بمثابة عسل أو زبدة مع الخبز الفطير وضع تومبسون معجمه عن النبات الآشوري في أوائل قرننا. 3- النوع الثالث من المن يدعى ترنجبين، وقد تطرق أدي شير الى ذكره ايضاً في كتابه "معجم الألفاظ الفارسية المعربة"، مشيراً الى ان الكلمة من أصل فارسي، وعنده: انه طلّ اكثر ما يسقط في خراسان وما وراء النهر، ويجمع كالمن، وأجوده الأبيض. اما كاميل تومبسون فيقول ان الترنجبين مصدره العاقول أو شوك الحجل، ويطلق عليه باللاتينية Alhagi maurorum، وهو صنفان، وذكر انه كان يستعمل في بخارى وفي البصرة ايضاً، بديلاً عن السكر. 4- الصنف الرابع من المن مصدره البلوط القزم، "في المنطقة التلية من لورستان... نجده على عدة أصناف من أشجار البلوط... حيث يجمع المن منها على قطع قماش تفرش تحتها ليلاً، فيتجمع عليها على شكل بلورات كبيرة من قطرات الندى". ولاحظ نيبور Niebuhr ان المن في ماردين، في أعالي وادي الرافدين، يتجمع مثل دقيق الذرة على أوراق شجر يدعى في الشرق بلوطاً أو عفصاً، ويعتبره صنفاً من البلوط. ويكثر تساقط هذا المن في الأوقات الرطبة. ويجنى أحياناً قبل شروق الشمس بهز الأوراق بعد ان يوضع قماش تحت الشجرة، وهو مادة بيضاء ناصعة. والمادة التي لا تهز تذوب على الأوراق وتتجمع الى ان تصبح ثخينة جداً. ثم تجمع الأوراق وتغلى بالماء، فيطفوا المن كالزيت على سطح الماء. وهذا هو ما يطلق عليه "من السما". وروى جون هورن في فترة الاحتلال البريطاني للعراق بُعيد الحرب العالمية الأولى، ان المن يتساقط في جبال العراق على حدود ايران، في منطقة بنجوين فقط عندما يكون هناك برق في عواصف أواخر الخريف.. ومع ان تساقط المن شائع في المنطقة، إلا انه يمكن جمعه من على أوراق شجر العفص، وهو دائم الخضرة، ومن على الصخور. اما على التربة فيصعب جنيه. وهو أشبه بعجينة ثخينة، ويمكن كشطه من الأوراق والصخور، وغليه بالماء، للحصول على مادة شفافة تقريباً، واستعماله في الحلويات. 5- أما الأنواع الأخرى فهي: أ - "شير خست"، وينتج في بلاد الأوزبيك. ويقال ان مصدره شجرة تدعى Gundeleh في قندهار. ب - غُزنجبين، وهو نتاج شجرة من فصيلة الطرفاء تدعى Guz، ويفترض انها صنف آخر يشبه الطرفاء الذي في جبل سيناء، وتوجد في لورستان والعراق العجمي عربستان؟. ج - "شكر - العاشور" وهو مادة حلوة مفرزة من صنف شجر ذكره ابن سينا. د - بدخست Bedkhist، يقال انه يظهر على صنف من الصفصاف في خراسان. ه - وعثر بركهارت في وادي الأردن على من مثل الصمغ على أوراق واغصان شجر الغرب من فصيلة الصفصافيات بحجم شجر الزيتون، ورقه مثل ورق الحور، ويظهر كالطل على الأوراق بلون قهوائي أو رمادي، ويتساقط على الأرض. وعند جنيه يكون طعمه في البداية حلواً، أما اذا تأخر يوماً أو يومين فيصبح حامضاً. ويستعمله العرب كعسل أو زبدة، ويأكلونه مع العصيدة. ويستعملونه ايضاً لتنظيف قنانيهم الجلدية ولإحكام سدها. وأشار كامبل تومبسون الى ان الآشوريين كانوا يطلقون على الحشرة التي تنتج المن على بعض الاشجار "ققدانو" qaqqadanu، مؤكداً على ان هذه الكلمة هي أصل كلمة Cicada اللاتينية الرومانية التي تطلق على حشرة الزير. * باحث عراقي.