أدى انكشاف عملية استخباراتية تُركية «فاشلة» الى فضح مدى التداخل بين تُركيا والعراق، وبالذات في المناطق الكُردية والسُنية شمالاً. ففي أواسط شهر آب (أغسطس) الفائت، أرسلت الاستخبارات التُركية مجموعة لتعقب أحد قادة حزب العُمال الكُردستاني ومحاولة اختطافه من مدينة السُليمانية في كُردستان العراق، إلا أن المجموعة اُعتقلت من قِبل عناصر من العُمال الكُردستاني، ولم يستطع حزب الاتحاد الوطني الكُردستاني الإفراج عنهم، ما دفع تُركيا الى تحميل الاتحاد الوطني مسؤولية اعتقال عناصرها الأمنية، وأبعدت ممثل الاتحاد الوطني الكُردستاني في تُركيا بهروز كلالي. لم تكشف هذه العملية تواضع القدرات التُركية في الملفات العالقة بينها وبين العراق فحسب، بل أيضاً أهمية الكثير من الملفات المُتشابكة بين الطرفين، وتأثيرها في الأمن القومي التُركي الداخلي. خلال الشهر الفائت أيضاً، برز ملفان داخليان عراقيان يُظهران تواضع القُدرات التُركية في الملفات العراقية، على رُغم مسها لما تعتبره تُركيا خطوطها الحمراء وأمنها القومي. فقد جرت معركة تلعفر من دون أي دورٍ للقوى العسكرية العراقية التي تدعمها تُركيا، كالحشود العشائرية السُنية، كما أن جميع الطلبات والتحذيرات التُركية بعدم تدخل تنظيمات الحشد الشعبي الشيعية في المعركة لم تلق بالاً. فقد شاركت أطراف متنوعة من الحشد في المعركة، واتهمت التنظيمات الحشدية المكونة بالأساس من التُركمان الشيعة بالتنكيل بالسُكان المحليين من التُركمان السُنة، وجرى نهب وتدمير للممتلكات الخاصة العائدة للتُركمان المحسوبين في شكلٍ تقليدي على تُركيا. الملف الآخر يتعلق بالزيارة الأخيرة لوزير الخارجية التُركي للعراق. فقد كانت تُركيا تتوقع أن تكون بداية تعاون وتنسيق حقيقي بين الحكومتين، على قاعدة رفضهما المُشترك للاستفتاء والاستقلال الكُردي. على أن الذي جرى هو العكس تماماً، فقد ركزت الحكومة العراقية على ملف الجنود الأتراك في محيط بلدة بعشيقة، وطالب وزير الخارجية العراقي أثناء المؤتمر الصحافي مع نظيره التُركي بانسحاب هذه القوات من ذلك المُعسكر. تواجه تُركيا، أولاً، شهوراً صعبة من الخيارات تجاه العراق وتحولاته. إذ ثمة أربع ملفات عراقية تفصيلية، ستتوضح خلال الشهور القليلة المقبلة. يمس كُل واحد منها الأمن والدور والاستراتيجية التُركية. فتركيا تنظر إلى مسألة استفتاء واستقلال كُردستان العراق كتحول يؤثر في كُل التوازنات والعلاقات الإقليمية، وفي الأمن القومي التُركي الداخلي. ويأتي مستقبل وشكل بقاء حزب العمال الكُردستاني في المعسكرات والمقرات الحدودية بين تُركيا وكردستان على رأس الأولويات. فتركيا التي اعتادت على التفاعل مع هذا الملف من خلال علاقتها وتوافقها مع الحزب الديموقراطي الكُردستاني والحكومة العراقية والتزامات الطرفين، سترى نفسها مُجبرة على أن تتعامل مع دولة جديدة، وما لا يقل أهمية عن ذلك، هو شكل تفاعل الأكراد ضمن تُركيا. فتصاعد مسألة استقلال الإقليم الكُردي، سيمنح الأكراد ضمن تُركيا شُحنة قومية جديدة، وسيزيد من التفافهم وعلاقتهم مع حركتهم القومية. هذا الأمر سيشكل مأزقاً جديداً لتُركيا، شبيهاً بما واجهته عقب الانتفاضة الكُردية عام 1991. الأمر نفسه ينطبق على تبدل دور العراق في التوازنات والعلاقات الإقليمية، وهو ما يتطلب أن تُعيد تركيا حساباتها وعلاقتها. ثانياً، تعتبر تُركيا العرب السُنة ضمن العراق حلفاءها الموضوعيين. وهي ترى أن حجم دورها وفاعليتها في العراق، متناسبٌ طرداً مع ما للعرب السُنة من دور ضمن العراق. على أن المراقبين السياسيين الأتراك يلاحظون انهيار الدور السُني في العراق بشكلٍ مُتعاظم، مُنذ انهيار نِظام صدام حُسين وحتى الآن. وقد وصل الأمر مع بداية الحرب على «داعش» إلى مستوى تحطيم مُدنهم ومناطقهم، الشيء الذي يعني فعلياً إنهاء دورهم السياسي في العراق. يشاهد الأتراك كيف أن شيئاً لن يتغير بعد انتهاء «الحرب على الإرهاب»، فالحكام العراقيون لا يملكون أي مشروع للمصالحة الوطنية الداخلية، والأمور تجري وكأنه ليس في العراق مسألة تتعلق بتهميش العرب السُنة سياسياً وعسكرياً واقتصادياً. القضايا التفصيلية المتعلقة بدور تُركيا في إعادة الإعمار في المناطق السُنية، ومنافسة تُركيا للنفوذ الإيراني في العراق، ونسبة المناطق التي يُمكن الكُرد أن يحتفظوا بها من المناطق المُتنازع عليها، كُل هذه القضايا، يتوقف الدور التركي فيها على موقع العرب السُنة في مُستقبل العراق، والذي من المفترض أن يتوضح خلال الفترة القريبة المقبلة. فوق ذلك، تُراقب تُركيا بكثير من الحذر ما يجري بحق التُركمان العراقيين، من دون أن تستطيع أن تتخذ أي أجراء مُضاد واضح. فخلال الشهر الماضي دخلت تشكيلات من الحشد الشعبي التُركماني الشيعي إلى منطقة تلعفر التي يقطنها التُركمان السُنة، وباشروا عمليات «ثأر» من «إخوانهم» التُركمان، واستأنفت شرخاً مذهبياً، كان بدأ منذ العام 2003. وهو ما جرى في مدينة كركوك، فقد اجتمع مجلس المُحافظة وقرر أن تشمل مُحافظة كركوك بالاستفتاء الكُردي. جرى الأمر من دون مُشاركة الكُتلة التُركمانية في مجلس المُحافظة، وهو أمر كانت تُركيا قد حذرت منه لفترة طويلة، من دون أن يُجري أخذ ذلك بالاعتبار. على المستوى المركزي العراقي، فأن التُركمان يتعرضون لتهميشٍ مُتقادم، فالوزير الوحيد الذي كان من حصة التُركمان تم استبعاده أثناء ترشيق الوزارة عام 2015، ولم يتم تعيين أي وزير تُركماني آخر. كما أن الحكومة المركزية لم تتعامل مع المخاوف التُركمانية في المناطق المُحتلة من «داعش». تلاحظ تُركيا إلغاء سياسياً وديموغرافياً يطاول التُركمان بالتقادم، وهو إلغاء يطاول نفوذها ودورها الإقليمي. المُشكلة الأمنية التُركية الأكبر في العراق تتعلق بالدرجة الأولى بالمعسكرات التابعة لحزب العمال الكُردستاني في المناطق الحدودية. لكن تمدد الحزب في المناطق الإيزيدية في منطقة سنجار يضاعف من ذلك. ف «العمال الكُردستاني» بات قوة عسكرية وسياسية هناك، وله علاقة مع القوى الشيعية العراقية المناوئة لتُركيا، ومع مناطق سيطرتها في شمال شرقي سورية. ويشكل هذا الأمر تحدياً لتُركيا، الرد عليه سيكون له تأثير متعدد الأبعاد، فيما لو حدث. * * * أمام هذه التطورات، فإن تُركيا لا تملك أدوات كثيرة وقوية. لكن يُمكن مُلاحظة أربعاً منها: يُعتبر الاقتصاد سلاحاً تستطيع تُركيا أن تستخدمه ضد إقليم كُردستان، وبدرجة أقل ضد بغداد. وترى تُركيا أنها لو اغلقت انبوب النفط المُمتد من حقول إقليم كُردستان إلى ميناء جيهان التُركي، ستحرم الكُرد من أهم مواردهم المالية، وبالتالي سيخضعون للمطالب التُركية. لا ينطبق الأمر على العراق المركزي، الذي يملك مناطق تصريف مُتعددة، وشُركاء تجاريين متنوعين. على أن هذه الأداة الاقتصادية ثنائية التأثير، فتُركيا تعرف أنها الرابح الأكبر في العلاقات الاقتصادية مع العراق، سواء من خلال الضرائب التي تفرضها على تصدير النفط، او من خلال صادراتها، أو كثافة السياح العراقيين. تملك تُركيا أيضاً نفوذاً اقليمياً سياسياً يتجاوز الآخرين. فعلى رغم تراجع مستوى علاقة تُركيا مع الولايات المُتحدة والدول الأوروبية، إلا أن جميع القوى الدولية تعتبر نفوذ تُركيا أحد عوامل الاستقرار والأمن في المنطقة، ودائماً يؤخذ رأيها وتراعى مصالحها في كل مسائل الشرق الأوسط. وعبر الضغط الديبلوماسي تستطيع تُركيا أن تؤثر في الولايات المُتحدة والدول الأوروبية. ولتُركيا كذلك شبكة من العلاقات مع بعض القوى المُجتمعية والسياسية في العراق. يأتي التُركمان السُنة في طليعة هذه المجموعات المُرتبطة ثقافياً وسياسياً بتُركيا. لكن تراجع النسبة الديموغرافية للتُركمان السُنة، وصراعهم المرير طوال السنوات الأخيرة مع التُركمان الشيعة، قلل من دورهم ضمن العراق، حتى في المناطق الشمالية. كما أن علاقة تُركيا مع العرب السُنة قوية بدورها. لكن تُركيا تعاني من انخفاض تأثيرهم. وراهناً تواجه تُركيا محاولة إيرانية لصناعة زعامات عراقية سُنية موالية للقوى الشيعية المُرتبطة بإيران، خصوصاً أن غالبية الزُعماء السياسيين السُنة مُهجرون ومُلاحقون من قِبل الحكومة والقضاء العراقي. لتُركيا أيضاً علاقة من الحزب الديموقراطي الكُردستاني. وهي علاقة تراجعت مُنذ قيادة هذا الحزب لعملية الاستفتاء، إلا أن الطرفين يُدركان تأثيرات القطيعة الكُلية. أخيراً، صحيح أن تُركيا لا ترغب ولا تُريد أن تدخل في حربٍ مُباشرة في العراق، لكن لتُركيا قواعد عسكرية ضمن العراق، في منطقة الموصل وفي إقليم كُردستان العراق، كذلك تملك تُركيا علاقات وثيقة مع بعض التنظيمات العسكرية العراقية، مثل بعض الحشود العشائرية. فوق كُل ذلك فإن لتُركيا قُدرات متفوقة على القصف الجوي، وهي تمارسه منذ سنوات طويلة ضد مُعسكرات حزب العُمال الكُردستاني في شمال العراق. وهي رُبما تستطيع أن تفعل ذلك مع معسكرات الحزب في عمق العراق وفي منطقة سنجار بحجة أن الحزب يمس أمنها القومي. * * * تشبه الحالة التُركية الراهنة ما كانت عليه في أوائل عام 2003. حين كان الساسة الأتراك يُدركون مدى التحولات والتأثيرات التي يُمكن أن تفرزها الحرب على العراق. فهي لم تستطع الانخراط في الحرب لإدراكها أن نتائجها ستكون على النقيض من مصالحها، وكذلك لم تملك الطاقة والأدوات لمنعها. لذلك بقي موقف تُركيا سلبياً، ومُنعت القوات الأميركية من الدخول عبر أراضيها، ثم عادت وفتحت مجالها الجوي أمام الطائرات الأميركية. وفي المُحصلة بقيت تُركيا مُرتبكة، إلى أن استقر العراق على شكله الجديد. من المتوقع أن تعيش تُركيا التردد نفسه في الشهور المقبلة، فتعتبر المُجريات العراقية غير شرعية، ولا تعترف بها سياسياً، وتتخذ بعض الخطوات التي تظنها قد تعيق الأحداث، كمواصلة القصف الجوي الكثيف لمقرات حزب العُمال الكُردستاني، حتى تصنع وضعاً أمنياً حرجاً للعراق وإقليم كُردستان على السواء، ويمكن أن تسعى الى إغلاق الأنبوب النفطي الكُردي لفترة وتزود قواعدها العسكرية بالمزيد من الأسلحة.