هضمت اميركا خجلها واشمئزازها من تصرفات رئيسها الجنسية التي دونها المحقق المستقل كنيث ستار بتفاصيل مدهشة وقررت الأكثرية، بدءاً بسوق المال في بورصة نيويورك وانتهاء بالفرد العادي، ان التقرير لم ينطو على الأرضية الكافية لإقالة بيل كلينتون أو عزله. فإذا لم يقدم ستار مفاجآت في وثائق لاحقة، وإذا لم تبرز قصة مثيرة لامرأة اخرى من نساء كلينتون، فإن اميركا ستكتفي بتوبيخ رئيسها وقد تؤنب ستار على الإهانة الجماعية التي اسفر عنها تقريره. فأميركا ليست في مزاج محاكمة الرئاسة ونفسها على اسس القيم، ولا هي في صدد اسقاط الرخاء والازدهار برصاص علاقات جنسية. اميركا البراغماتية ترى مصلحتها في الحفاظ على الوضع الراهن بتجنب كل ما من شأنه ان يعترض دورها القيادي عالمياً. فكما جاء كلينتون الى البيت الأبيض بشعار "انه الاقتصاد، يا غبي"، هذا الشعار نفسه هو الذي يحول دون تنحيته. فأميركا تفصل اليوم بين حسن الحكم وادارة البلاد وبين سوء تقدير رئيسها وتهوره وتحايله وخداعه وكذبه. انها غاضبة ومنقسمة، لكن خوفها من انحسار الانتعاش الاقتصادي يجعلها حذرة غير مندفعة الى اسقاط الرئاسة. بيل كلينتون يراهن على البراغماتية الاميركية، والقدرة على النسيان السريع، والخوف من افرازات الأزمة المالية الآسيوية على الاقتصاد الاميركي. لذلك، خاطب "مجلس العلاقات الخارجية"، في نيويورك الاثنين الماضي، فور انتهاء فترة العطلة الاسبوعية التي انهمك الاميركيون خلالها بقراءة تقرير ستار، بتركيز على هيبة الرئاسة ونفوذها لطمأنة البورصة وتخويفها في آن. وكان الأمر مدروساً بدقة. فعندما أوشك ستار على تقديم تقريره الى الكونغرس يوم الخميس قبل الماضي فاجأ كلينتون "مجلس العلاقات الخارجية" باستعداده لمخاطبته يوم الاثنين التالي. وسارع المجلس الى ترتيب اللقاء الذي لم يكن في الحساب، ووافق على جلسة خاصة للاستماع الى الخطاب حصراً بلا اسئلة، كما جرى التقليد، فألقى كلينتون خطابه "الرئاسي" مترفعاً عن الأزمة الشخصية بضمان عدم طرحها من خلال اسئلة، فانتقل من سلسلة الاعتذار اثناء العطلة الاسبوعية الى استعادة هيبة الرئاسة يوم الاثنين. وكل ذلك نتيجة تخطيط مدروس، علماً بأن اللقاء مع "مجلس العلاقات الخارجية" تم ترتيبه قبل "حفلة" الاعتذار. ما قاله كلينتون لأميركا يوم الاثنين الذي تلا فضيحة التقرير المفصل كان عبارة عن مزيج من التهديد المبطن واللعب على أوتار الأولويات الاميركية. ذكر بالسياسات التي يتبناها والتي جعلت الاقتصاد الاميركي متعافياً ومزدهراً، واطلق حملة لإعادة تركيز اهتمام الاميركيين على القضايا التي تؤثر في مصيرهم. فعل ذلك وهيلاري الى جانبه شريكاً واضحاً في الميزة "الكلينتونية" على التصنيف بتركيز هائل، فتمكن من اختراق الصف الأول في مراتب الرأي العام بموهبة "الفتى القادر دائماً على التغلب" على أي صعوبات. الركن الاساسي في خطاب كلينتون كان أخذ زمام المبادرة تأكيداً لدوره الشخصي في الحفاظ على "القيادة" الاميركية الاقتصادية في زمن الأزمات المالية العالمية. القراءة الفجة لما قاله كلينتون لرجال المال والاعلام والسياسة وللرأي العام عبرهم تنطوي على الآتي: أمامكم إما خيار تعزيز الدور القيادي الاميركي لاحتواء افرازات الأزمة المالية العالمية على الاقتصاد الاميركي. وهذا يتطلب الاستمرارية عبر الحفاط على الوضع الراهن، بما في ذلك الاحتفاظ بالرئيس الذي تجدون فيه سياسة جيدة وادارة حسنة لشؤون البلاد. أو هناك خيار الانزلاق في متاهات اجراءات الإقالة والعزل التي لا بد ستسلب الولاياتالمتحدة من النفوذ، والتأثير في مجرى الأزمة المالية وتدفعها الى الانسياق فيما هي اليوم في موقع المبادرة والقيادة. أماكم اما البناء على ما انجزته اميركا، أو المغامرة بخسارة الانجازات في معركة تدوم للسنتين المقبلتين. ما قاله كلينتون باختصار، هو انه ليس على استعداد للتفكير بالاستقالة، واذا كانت الإقالة في ذهن الآخرين، لأسباب أخلاقية أو لحسابات سياسية، فإنها ستكون عملية مكلفة للجميع، من رجال الاعمال في "وول ستريت" الى الاميركي العادي العامل في مصنع أو شركة. بيل كلينتون ليس مستعداً لأن يضحي بنفسه أو بطموحاته من أجل اميركا وقيمها. انه من نوع "عليّ وعلى أعدائي". فهو السياسي من النوع "البراغماتي" الذي يعترف ضمناً بقذارة السياسة الضرورية لجعلها سياسة. وهو السياسي "الواقعي" الذي يستهزئ بالمثالية وبالقيم التي تزعم اميركا انها عصب عظمتها وميزتها. بيل كلينتون فضح انتماء اميركا عملياً الى حظيرة الآخرين في العالم. فلا مجال الآن للترفع الاميركي باسم الترفع عن الفساد أو رفض الكذب والتحايل والخداع. فأميركا في عهد كلينتون كشفت انتماءها الى الحظيرة. وعلى الأقل، حتى الآن، لن يحق لأميركا ان تهز أصبعاً في وجه الآخرين، تلقيناً لدرس في القيم والمثالية. فأميركا اختزلت نفسها من معادلة التفوق على أساس القيم والمحاسبة والشفافية، ولم يعد يحق لها ان تزعم انها فوق تعبير "الكذب ملح الرجال". ما قد يقوض مساعي بيل كلينتون لاستعادة المبادرة هو وقوعه في زوبعة "الدجاجة والبيضة". فهو في حاجة الى الكونغرس للموافقة على تخصيص الاموال لمعالجة الأزمة المالية العالمية كي تتمكن الولاياتالمتحدة من التأثير عالمياً. وهو في حاجة لإبراز نفوذه وسلطته عالمياً كي يتمكن من التعافي امام الكونغرس لإعادة بسط سلطته في العاصمة الاميركية. جاذبية كلينتون لن تكون كافية في أوساط الكونغرس سيما وانه موضع سخط الديموقراطيين وألاعيب الجمهوريين. فتعافي الاقتصاد الأميركي هو الحليف الأهم لكلينتون. إلا ان مفاتيح استمرار التعافي ليست حصراً في حوزته، وأي انحسار في الحال الاقتصادية سيكون مسماراً في نعشه. فالكونغرس ليس نافذاً فقط في معادلة اجراءات الاقالة أو التوبيخ وانما ايضاً، وأولاً، في معادلات انجاح سياسات كلينتون الاقتصادية. الجمهوريون لا يمانعون في بقاء بيل كلينتون في الرئاسة حتى نهاية عهده رئيساً ضعيفاً محجماً في حاجة ماسة لموافقة الكونغرس على سياساته مع بقاء سوط التحقيقات مشهوراً فوق رأسه. الديموقراطيون هم الأخطر على كلينتون، إذ أنهم يرون فيه تقويضاً للحزب، وفي بقائه في الرئاسة انحساراً لفرص الاحتفاظ بالبيت الأبيض. نائب الرئيس آل غور في وضع صعب للغاية ليس فقط بسبب التحقيقات في أفعاله وانما أيضاً بسبب انتمائه الى الكلينتونية. وإذا كان غور يفكر بصورة انانية فإنه لا بد يتمنى لو يستقيل كلينتون أو حتى لو يتخذ الكونغرس قرار إقالته. لكن خياراته محدودة في هذا المنعطف، وأفضل رهان له هو لعب ورقة الولاء للرئيس والحزب تحت أي ظرف كان. كيف ستتصرف الادارة الاميركية في مرحلة الارتباك الراهنة على صعيد السياسة الخارجية؟ بمزيج من الاتكاء على انطباع "البطة العرجاء" ومن الانتفاض بحقنة تنشيطية انفعالية على استفزاز من الخارج. ان الاحتواء سيبقى الأساس الرئيسي للعناوين المعهودة في القضايا الاقليمية. عملية السلام للشرق الأوسط لن تشهد مبادرات جديدة ولا ضغوطات غير مرتقبة. فأي محاولات لإنقاذ العملية من مخالب السياسة التي يعتمدها رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتانياهو هي بمثابة "البطاطا الساخنة" التي ستصر ادارة بيل كلينتون على عدم وقوعها في اياديها. فالوقت ليس ملائماً للتحدي، انتخابياً أو رئاسياً، وبيل كلينتون يود لو تعفى إدارته من رعاية عملية السلام. وبالتالي، أفضل السيناريوات انه قد يعطي فرصة للآخرين، الاتحاد الأوروبي أو فرنسا، لمحاولة انقاذ العملية شرط إعفائه من الضغط على اسرائىل. وفي اسوأ السيناريوات، قد يضطر للتدخل اذا طرأت تطورات غير منتظرة، وعندئذ، فإن أساس السياسة الاميركية هو ادارة الأزمات. ملف ليبيا ليس في بال الادارة الاميركية، فالكرة في ملعب طرابلس في كل حال، من وجهة نظرها. محاكمة المشتبه فيهما بتفجير طائرة بان اميركان فوق لوكربي في انتظار تفاصيل التنفيذ، إذا أثبتت القيادة الليبية صدق النوايا في تقديمهما الى المحاكمة. وإذا ارتأت عدم التنفيذ، فإن العقوبات لن تستمر فحسب وانما ستتضاعف بموجب قرار لمجلس الأمن. فالملف الليبي ليس ساخناً في بال الادارة الاميركية. الملفان الساخنان هما العراق والارهاب. بيل كلينتون لن يتعمد اختلاق أزمة عسكرية مع العراق، لكنه يتمنى استفزازاً واضحاً من بغداد يبرر له توجيه ضربة عسكرية، فهو في هذا الملف "بطة عرجاء" في انتظار مسلة تطلق جوانحها وتنسيها انها معاقة. لذلك فإن الخيار الأول هو اعطاء الديبلوماسية الفرصة الكافية وتحميل روسياوفرنسا والصين والأمين العام للامم المتحدة مسؤولية فرض عودة العراق الى نمط التعاون مع فرق التفتيش الدولية، لكن الاستعدادات العسكرية قائمة، وإدارة كلينتون تتمنى ضمناً ان تفرط بغداد في التصعيد. المسائل الاقليمية الأخرى على نسق احتمال اندلاع نزاع مسلح بين ايران وافغانستان ليس ضمن اولويات المخاوف الاميركية، لا على صعيد الادارة ولا على صعيد الكونغرس، بل قد تكون هناك رغبة وأمنية باطنية بأن تتقاتل "الأصوليتان" بما يضعفهما معاً ويؤدي الى قضائهما على بعضهما البعض. ايران ما زالت في قائمة فك الاحتواء، الا ان ادارة كلينتون تود تجنب اتخاذ القرارات في شأنها في هذا المنعطف. الإرهاب مسألة اساسية. واذا كان احتواء الارهاب تمنياً جذرياً صادقاً، إلا ان النجاح في الاحتواء ليس خبراً رئيسياً، فيما نجاح الارهاب يسلط الاضواء على سبل واجراءات معاقبته. وبالتالي فإن ادارة كلينتون التي لا تتمنى عمليات ارهابية ناجحة، تستعد لاجراءات فورية للانتقام من أية عملية ستبرز عزمها الجدي على الانتصار في "الحرب" التي أعلنتها. ولو تمكنت من إلقاء القبض على مشاهير الارهابيين لأحرزت انقلاباً على المعايير القائمة. وهي تسعى. لكن الأولوية العملية هي للاقتصاد العالمي وحلف شمال الاطلسي ناتو. وفي هذين الأمرين هيبة الرئاسة التي يريد بيل كلينتون استعادتها. ففي المجال المالي، إن للدور القيادي الاميركي انعكاساً على الاقتصاد الاميركي، وهذا يدق في عصب الأولويات الاميركية. وفي مجال الناتو، فإن تقوية الزعامة الاميركية في الحلف تحرر الولاياتالمتحدة من قيود اجماع دولي داخل الاممالمتحدة وتمتن العزم على اتخاذ الاجراءات الانفرادية. واميركا تحب عظمتها. حتى الآن، الأرجح ان كلينتون باق في الرئاسة. لكن المعادلات السياسية، سيما بين الحزبين الجمهوري والديموقراطي قد تأتي بمفاجآت، لكن المفاجأة الأسوأ قد تتخذ شكل امرأة اخرى في كواليس البيت الأبيض