زيارة اول رئيس اميركي الى ارض فلسطينية تحكمها سلطة فلسطينية ليست مجرد سابقة رمزية وانما هي نقلة تاريخية في العلاقة الاميركية - الفلسطينية. وهذا انجاز له دلالات دائمة تتعدى بقاء بيل كلينتون رئيساً او نجاح محاولات عزله. فقد حطّم بيل كلينتون جداراً سياسياً ونفسياً بين الاميركيين والفلسطينيين بزيارته غزة. اعطى الاعتراف الاميركي بالمحنة وبالتطلعات الفلسطينية بعداً رسمياً ومؤسساتياً وانسانياً في آن. قفز على السيكولوجية السائدة التي تسجن التجارب الرائدة في حكومات عابرة واطلق التجربة الفلسطينية الى "لمس اعماق شعب اسرائيل". ورغم ضعفه الرئاسي والسياسي الناتج عن تصرفاته الشخصية وسيرته الملطخة، فان ما زرعه بيل كلينتون في غزة يشكل اختراقاً في المسيرة الفلسطينية ليس فقط نحو قيام الدولة وانما لجهة بنية العلاقة الاميركية - الفلسطينية. وهذه ورقة ثمينة في ايادي الفلسطينيين اذا احسنوا استخدامها سواء احبط كلينتون محاولات عزله وسواء حوكم وأقيل. بغض النظر عما ستنتج عنه مداولات الكونغرس لجهة "توبيخ" او "عزل" بيل كلينتون، ان سيرة هذا الرئيس ما زالت، وستبقى لمدة طويلة، مزيجاً من التعاطف معه والغضب منه وعليه فهذا رجل اهان اميركا وحقّر الرئاسة ورغم ذلك لاقى معارضة شعبية لجهود عزله ومحاكمته. فهو يجذب وينفر، صادق وكاذب، رؤيوي وقصير النظر، جريء وجبان، قوي وضعيف، وهو رجل دولة اسقط جبروته على نمط غريب من التحايل والخداع. واميركا تعتقد انها لم يسبق لها ان عرفت نوعه. الحكاية بكاملها غريبة عن التجربة والفكر والشعور العربي ليس فقط لان "الكذب ملح الرجال" في الثقافة والتقليد والخصائل العربية سيما اذا تعلق الامر بعلاقة جنسية او خيانة زوجية. ان فكرة ومبدأ واجراء "عزل" رئيس، بغض النظر عما ارتكبه، عرف غير وارد في اي من التقاليد السياسية العربية او في اي دستور لأية دولة عربية. ففكرة "العزل" او "المحاكمة" او "الاقالة" طبقاً للدستور غريبة ومدهشة في المجتمعات العربية وعلى صعيد الحكومات. الفكرة في حد ذاتها غير واردة وأي اجراء نحوها ممنوع منعاً باتاً في الذهن العربي. لذلك الاستهجان، بل السخرية، مما يحدث في اميركا. لذلك، ان الاكثرية في البيئة العربية تستغرب ما يحدث وتفترض - كما افترضت منذ بدء الحكاية - ان القصة مسلية وعابرة. جزء كبير من الاميركيين افترض في البدء انها حكاية عابرة، الى ان واجه الادلة وشاهد الاشرطة المسجلة التي فضحت رئيسه. الاكثرية الاميركية كانت تتمنى لو ان الحكاية تختفي ولو انها لم تطلّع على حقيقة ما حدث. وهذه الاكثرية تكره المحقق كينيث ستار لانه فرض عليها مواجهة ما ارادت تجاهله. اليوم، اختلفت المعادلة. فأميركا لا تختلف على ارتكاب بيل كلينتون خطأ بحقها وهي ترى، كما يرى هو، ان لا مجال لتفادي العقاب. فالانقسام ليس في شأن الادانة والمعاقبة وانما هو في شأن نوعية العقاب. ما حدث حتى الآن بحد ذاته ادانة كافية من وجهة نظر المجتمعات غير الاميركية، وهذا بدوره يعكس الفوارق الرئيسية الجذرية بين اميركا وغيرها. هذه الفوارق مهمة لأن الكلام ليس عن رئيس دولة هامشية وانما عن حاضر ومستقبل رئاسة الدولة العظمى الوحيدة في العالم. وهنا تتداخل ابعاد المعاناة الاميركية. فمن جهة، ان اميركا تضع ازدهارها وعظمتها وقيادتها وتربعها العرش العالمي فوق كل اعتبار. ومن جهة اخرى انها حريصة جداً على دستورها كما على تركيبتها الدقيقة التي توازن بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية. اميركا التي تريد ان تكون المثال الارقى للعالم تقع اليوم في ورطة الجمع بين اخلاقها السياسية والاجتماعية وبين مركزية تفوقها الاقتصادي في لعب دور القيادة عالمياً. فهذا التفوق ليس مجرد غاية سياسية على الصعيد الدولي وانما هو اولوية اميركية على الصعيد الداخلي ايضاً. هنا يبدأ التداخل بين سوق المال في بورصة نيويورك وبين مفاعيل الدستور والمبادئ والقيم الاميركية التي تُشرَّح في واشنطن. ولهذا التداخل اثر عميق على صنع السياسة الاميركية الخارجية، الاقتصادية منها والسياسية. بيل كلينتون يراهن على حب اميركا لانتعاشها وازدهارها وتعلقها بتفوقها الاقتصادي. يراهن على مخاوفها من كلفة العزل والمحاكمة التي سيدفعها الجميع، من "وول ستريت" الى الاميركي العادي يراهن على قلقها من سخرية الآخرين بها وانزلاق التفوق والعظمة الاميركية الى حظيرة بقية العالم. الاكثرية الاميركية تشعر بالقرف والاشمئزاز مما اتى كلينتون على نفسه وعليها من اهانة لكنها لا تريد عقابه ان يكون معاقبة لها. تدرك انه استهزأ بالقيم والمثالية التي زعمت اميركا انها عصب ميزتها وتفوقها وانه، برفضه الاستقالة، يضع نفسه وطموحاته فوق المصلحة الاميركية. لكنها ايضاً ترى ان القذارة السياسية تُمارس لغايات حزبية من طرف الجمهوريين وليست "كلينتونية" حصراً. لهذا ان "القرف" الآن يطال كذلك الجمهوريين والارجح ان يزداد اذا انعكست الازمة على الحالة الاقتصادية او اذا ادى الارتباك الاميركي الى وضع فوضوي عالمياً يهدد بضرب الاستقرار والمصالح. فالعالم يراقب عن كثب ما يحدث في اميركا باستغراب وقلق وربما بشماتة في بعض الاوساط. والخطر يكمن في استغلال البعض مرحلة الارتباك والفوضى لتنفيذ مآرب وغايات خطيرة مبنية على اساس استضعاف الولاياتالمتحدة. فالى جانب الافرازات الطبيعية لانحسار "القيادة" الاميركية الاقتصادية في زمن الازمات المالية الآسيوية نتيجة اخضاع الرئيس للعقاب، توجد مخاوف من افرازات تدخل في خانة "الارهاب" تتمثل في تنفيذ عمليات توعدت بها بعض التنظيمات ضد افراد ومواقع اميركية. البيت الابيض واع لهذه المسائل لذلك يبرزها ان كان اقتصادياً او عن طريق تحذير الاميركيين من عمليات ضدهم كما حدث في الآونة الاخيرة. بيل كلينتون كان حريصاً ألا يتصرف "كبطة عرجاء" حتى بعدما صوتت اللجنة القضائية التابعة لمجلس النواب على البنود الاربعة التي اتهمته بعرقلة العدالة، واساءة استعمال السلطة، والكذب مرتين بعد اداء القسم. خطابه امام الاجتماع الفلسطيني في قاعة "رشاد الشوا" كان بارعاً، فحوى واخراجاً، سنح الفرصة لتذكّر كلينتون القائد الخارق الذكاء والحس السياسي. لربما احتكاك كلينتون بألم الفلسطينيين وهو في حال ألم اطلق فيه صدقاً مؤثراً كان له وطأة مميزة. تحدث عن "تاريخ الطرد الذي وراءكم" والفرصة "لتقرير مصيركم على ارضكم التي تنتظركم". تحدث عن ضرورة عدم احتكار اي طرف "للألم او الفضيلة"، وعن "انتصار الرحمة على اصدار الحكم"، وعن الحاجة للاعتراف بخطأ الذات بدلاً من التحديق فقط بخطأ الآخرين. بدا كلينتون صادقاً في تقديره لما قدمه اليه الفلسطينيون برفعهم الايادي وقوفاً للتصديق على الغاء البنود التي تدعو الى تدمير اسرائيل في الميثاق الوطني. وبدا مخلصاً في قوله "اني آمل بأن تكونوا بدأتم النظر الى اميركا كصديق". وكان حقاً متأثراً بما شاهده داخل القاعة وخارجها سيما بلقائه بنات الاسرى في السجون الاسرائيلية. قد يقال ان كل هذا لا يعني شيئاً طالما ان الولاياتالمتحدة تمضي بعلاقتها العضوية مع اسرائيل وطالما حكومة بنيامين نتانياهو ماضية في الاستيطان وفرض الشروط التعجيزية وابتلاع القدس وغير ذلك من النمط الذي تبنته. وقد يقال ان بيل كلينتون اثبت جهلاً خطيراً عندما كرر ما قاله له نتانياهو بأن الحضارات الثلاث الوحيدة في العالم هي اليهودية والهندية والصينية. وقد يقال ان كلينتون دخل عملية السلام متأخراً ضعيفاً مثقلاً بعبء سيرته ولو كان حرص عليها منذ البداية لما وصلت الى هذه الهشاشة. كل هذا لا يلغي ما حدث بزيارة الرئيس الاميركي بيل كلينتون الى غزة وبيت لحم حيث استقبله الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات وحين خاطب القيادة الفلسطينية بلغة الشراكة. انها زيارة تاريخية ونقلة نوعية في العلاقة الفلسطينية - الاميركية. اما المعارضة الفلسطينية التي اجتمعت في دمشق اثناء الزيارة فان افضل اختصار لوضعها جاء في رسم كاريكاتير لزميلنا هاني يوم الاثنين الماضي حيث صوّر اثنين منها يتناقشان فيقول واحد "البيضة أولاً" ويرد الآخر "لأ.. الديك..". فرغم تقصير السلطة الفلسطينية وارتكابها اخطاء فادحة ما حققته حتى الآن هو اجراءات ملموسة اخرج القضية الفلسطينية من جدلية "ايهما الاول: البيضة او الدجاجة". ومن ضمن انجازاتها فتح صفحة تاريخية في العلاقة الفلسطينية - الاميركية. اهمية الرمز لا تنفي احتمالات تراجعها اذا توقفت الامور عند الانجازات الرمزية. وهذا خطر قائم علماً بأن الولاياتالمتحدة لها سجل في قطع نصف الشوط ثم العودة عنه. لكن الفرصة مؤاتية لتعزيز وتوجيه العلاقة الفلسطينية - الاميركية بعدما كسر بيل كلينتون حائط عزل الفلسطينيين. فاذا بقي في السلطة وانتهت الامور الى توبيخه او دفعه غرامة، قد يلعب كلينتون دوراً مميزاً ومهماً في عملية السلام للشرق الاوسط. انما حتى اذا عُزل او أُقيل، يبقى كلينتون اول رئيس اميركي يتعاطى مع الفلسطينيين في ارضهم، ولمثل هذا الحدث تتمة. كم هي محزنة حكاية هذا الرجل الذي تجمع صفاته بين العبقرية والقذارة السياسية، بين القدرة على منتهى الصدق والاخلاص والقدرة على نمط مدهش من الخداع والكذب. محزنة قصة هذا الرئيس الذي اهان اميركا والرئاسة لانه الرجل الذي لم يعرف حدوده.