أقوى أثر لأزمة الرئيس بيل كلينتون، على رغم ارتفاع شعبيته في استطلاعات الرأي العام، يتمثل بالتشكيك في حكمته وانزلاق صدقيته في مسلسل النفي لمزاعم تورطه بعلاقة جنسية مع ابنة الپ21 عاماً، مونيكا لوينسكي. فهذه المزاعم لن تؤدي الى إقالته أو محاكمته، الا ان الإقالة أو الاستقالة تبقى واردة في حال ثبت ان الرئيس كذب أو حض لوينسكي على الكذب اذ ان هذا يمثل عرقلة العدالة. وحتى عند ذلك ان اميركا ستتردد كثيراً قبل دفع رئيسها الى خارج البيت الابيض لأنها، في هذا المنعطف ولربما مرحلياً، أكثر اهتماماً برخائها مما هي مهتمة بقيمها. الاستطلاعات لا تعني ان اميركا اتخذت موقفها النهائي. والى حين وضوح قصة الفضيحة، تدرك الادارة ان أقوى منافس لاستراق الأضواء من مونيكا لوينسكي هو الرئيس العراقي صدام حسين. فأميركا، ادارة وكونغرساً واعلاماً ورأياً عاماً، تتحد عند دخول ابنائها معركة، وهي متحدة في كرهها وعدائها لصدام حسين وفي عزمها على منع العراق من امتلاك اسلحة دمار شامل. التساؤلات في أذهان الاميركيين عن شخصية رئيسهم ستندثر موقتاً عند بدء العمليات العسكرية ضد العراق، لكنها قد تتعاظم اذا فشلت أهداف العملية العسكرية وتوسع أفقها، وإذا ثبت ان كلينتون كذب واستخدم القوات الاميركية ذريعة للتضليل. الأزمة التي يواجهها كلينتون صعب على كثيرين في الشرق وأوروبا استيعابها بسبب فوارق ثقافية وعادات اجتماعية وخصائل يمكن اعتبارها اميركية محضة. اميركا، الى حد ما، تقع كمجتمع بين البيئة الشرقية والبيئة الأوروبية من ناحية العلاقات الشخصية، وهي في رأي البعض متناقضة تجمع بين أقصى الفساد وأقصى الصفاء بمعنى "البيوريتانية". هذا التناقض ليس نفاقاً. والمجتمع الاميركي، على رغم ما فيه من عنف وتطرف وشواذ وجريمة، يبقى محتفظاً بقيم تبدو ساذجة للشرق ولأوروبا. واذا كان ما ينقذ اميركا تكراراً من محنة جماعية فإنه الدستور من جهة والقيم من جهة اخرى. والصدق ركيزة اساسية في القيم الاميركية الاجتماعية. لذلك يتمسك الاميركيون بمبدأي الشفافية والمحاسبة مع حكومتهم المنتخبة. هذان المبدآن يكادان يكونان مجهولين في علاقة المجتمعات الشرقية بالحكم. فالافتراض السائد هو ان الصفقات في الحكم سرية وان أي محاولة للمحاسبة تؤدي الى عقاب شديد. هذا في شؤون السياسة والاقتصاد فكيف في الشؤون الشخصية. بل ان المجتمع الشرقي يحكم على الفرد "المدني" على اساس سيرته الشخصية ويعفي تلقائياً أهل السلطة من الحكم عليهم بسبب تصرفاتهم وخياراتهم الشخصية خوفاً منهم أو احتراماً لقاعدة الاذعان و"السترة". بالمقارنة، ان المجتمع الاميركي يعتبر حياة الفرد "المدني" الشخصية من شأنه، واحدى المقولات الأكثر تكراراً هي مقولة "هذا ليس من شأنك". اما عندما يتعلق الأمر بفرد منتخب، فإن ناحية القيم الاجتماعية تبرز ليس فقط من ناحية "صفاء" الشخصية وانما ايضاً من ناحية نزاهة وصدق الفرد المعني في مزاعمه الاخلاقية. الخيانة الزوجية تدخل في هذه الخانة لأن الزواج عقد، بل عقد شرف. اقامة علاقة بين رجل في سن الخمسين وامرأة في سن العشرين تطرح أسئلة ذات علاقة بالقيم والاخلاق لأن لها دلالة اساسية لجهة حكمة قرارات الرجل والعواطف التي تسيره. وبما ان الفرد "الحكومي" يفترض ان يحترم العقد ويتميز بالحكمة ويرفض الانسياق بتهور وراء عواطفه، يعتبر الفرد الأميركي انه معني بالحياة الشخصية للفرد المنتخب تماماً بسبب ما تكشفه عن شخصيته في المنصب وكيفية تناوله شؤون الأمة. استياء الاميركيين من بيل كلينتون واهتمامهم البالغ بتفاصيل الفضيحة والتهم المزعومة نابع أيضاً من شعورهم نحو أنفسهم. فالأكثرية الاميركية انتخبت كلينتون على رغم "الأدلة الظرفية" لتورطه بعلاقة مزعومة مع المغنية جنسيفر فلاوزر. كلينتون نفى التهمة، وهيلاري الزوجة وقفت الى جانب رجلها، واميركا قررت غض النظر علماً بأنها سبق وصادقت على إحباط طموحات المرشح غاري هارت للرئاسة بسبب مزاعم تورطه بعلاقات جنسية خارج الزواج وتحديه الإعلام ان "يلقطه" اذا تمكن. الاعلام "لقطه" واميركا خذلته. في شهادة مكتوبة للرئيس الاميركي اثناء الرد على تهمة بولا جونز بأنه حاول فرض نفسه جنسياً عليها عندما كان حاكماً لولاية اركنسو، اعترف كلينتون بعلاقة جنسية مع جنيفر فلاورز كان نفاها قطعاً لسنوات عديدة. عندئذ تبادر الى أذهان كثيرين من الاميركيين ان رئيسهم يعتمد نمط النفي القاطع، ثم بعد التدقيق وعند "الحشرة" يتقدم ببعض الاعتراف على طريقته. ويتبادر الى الأذهان أيضاً ان بولا جونز قد لا تكون تلك "الساقطة" - كما وصفها البعض - التي، إما أنها تعمل لحساب التطرف اليميني الجمهوري أو تسعى وراء أموال باهظة. لكن مشكلة الأكثرية الاميركية في هذا المنعطف، مع اندلاع الأزمة النسائية العلنية الثالثة، ان اميركا مرتاحة مع نفسها في هذه الفترة وتعتبر ان بيل كلينتون أتى اليها بسياسات زادت من ارتياحها ورخائها. وهنا برز التناقض والانقسام في الداخل الاميركي. ما تتفق عليه الأكثرية الاميركية في هذه المرحلة هو ان تكون الأولوية لحال الاتحاد وحال الرئاسة مع تهميش أحوال كلينتون الشخصية، على أمل ان يكون تعلم الدرس ليكف عن التهور والمغامرة. هذا إذا ثبت ان بيل كلينتون انزلق في هفوة علاقة عابرة لا تستحق المحاكمة، فأميركا غير متحمسة لإهانة جماعية تتمثل في إقالة أو استقالة رئيسها خصوصاً أنها راضية عن سياساته وراضية عن حالها. في الوقت ذاته تتفق الأكثرية ذاتها على ان ثبات تورط كلينتون في هذه العلاقة وثبات كذبه تحت القسم وحضه لوينسكي على عرقلة العدالة يترك اميركا مضطرة لخذلان رئيسها. لذلك، فإن الرأي العام الاميركي المنقسم عاطفياً في اطار "هل فعل ذلك" يتصرف بتأن وحكمة مثل إصدار قراره النهائي. كثيرون يتمنون ان يكون كينيث ستار، المحقق الخاص في فضيحة "وايتووتر" العقارية التي تشمل الرئيس وزوجته، قد تعدى صلاحياته وارتكب اخطاء فادحة. عندئذ تأتي براءة كلينتون لتمجده وتجعله يمارس الرئاسة عالمياً بنفوذ وثقة ويسترجع لأميركا هيبة دولية. فليس سهلاً على الاميركيين ان يصبح رئيسهم موقع سخرية في أنحاء العالم، اذا رحمته النكت الجنسية تدينه نكت الغش والكذب وخيانة القيم الاميركية. فضعف الرئيس وهشاشته مؤثر، شاءت الادارة ذلك أو أبت، في نفوذه على الصعيدين المحلي والعالمي. وأميركا لا تحب الضعف. هيلاري كلينتون تدرك أهمية الاستقواء، لذلك لم تكتف بالوقوف قوية مع زوجها للدفاع عنه وتيسير سبل تغلبه على الأزمة، بل إنها شنت حملة استقواء على كينيث ستار واتهمته بالعمالة ضمن "مؤامرة اليمين المتطرف" لاسقاط رئاسة كلينتون. وعلى رغم الثقل الذي تمثله كزوجة وشريكة سياسية للرئيس، لم تنسق اميركا وراء عواطف هيلاري، وبقيت متأهبة للحقيقة. أما الاعلام ، فلعله أفرط في انسياقه وراء خيوط الفضيحة، اذ انه بدوره بدأ يؤكد صلاحيته في كشف تفاصيل المواجهة بين بيل كلينتون وكينيث ستار. وفي الوقت ذاته، بدأ يراجع نفسه اذا كان بالغ في إيلاء الحياة الشخصية أهمية فاقت ما يتطلبه الرأي العام الاميركي في موازين التعرف الى الشخصية. هذا الاعلام جندي جاهز للمعركة "الخارجية" حالما يتخذ بيل كلينتون قرار توجيه ضربة عسكرية ضد العراق. عندئذ سينحسر، ولو انه لن يختفي، اهتمامه بفضيحة كلينتون - لوينسكي. وقد ترد هنا وهناك أقاويل بأن كلينتون استخدم صدام ذريعة، الا ان الاعلام ذكر بالخلفية التي سبقت قرار استخدام القوة قبل الفضيحة بكثير. فالادارة الاميركية اعطت الديبلوماسية فعلاً أكثر من فرصة لحل الأزمة مع العراق، وهي استعدت عسكرياً في منطقة الخليج لأشهر عديدة سبقت أزمة مونيكا لوينسكي. لذلك فإن تسويق فكرة اختلاق حرب بذرائع وهمية تسويق فاشل. ومرة اخرى، ليس هناك ما يوحد صفوف الاميركيين في كل القطاعات كما يفعل صدام حسين واحتمال امتلاكه قدرات تصنيع أسلحة الدمار الشامل. وللتأكيد، فإن بيل كلينتون لن يتمكن من اتخاذ أي قرار في شأن السياسة الخارجية يجمع عليه الاميركيون، كما يمكنه ذلك بالنسبة الى ضرب العراق. فهو لن يتجرأ على التقدم بآراء في شأن عملية السلام للشرق الأوسط خوفاً من ان يعتبرها الكونغرس، وجزء من الاعلام والرأي العام محاولة ضغط على اسرائيل. فمواجهة تحدي صدام حسين لها شعبية أما مواجهة تحدي بنيامين نتانياهو فهي مغامرة سياسية خطيرة. لذلك، تخطئ القيادة في بغداد اذا افترضت ان أحوال كلينتون الشخصية ستساعدها في تجنب ضربة عسكرية. اذ أن استحقاقات التحدي لها شعبية اميركية قد تساعد بيل كلينتون في أزمته وتثير "الوطنية" الاميركية في مرحلة يبدو المجتمع الاميركي في أشد الحاجة اليها. والخطط العسكرية مصممة على ان يكون للضربة العسكرية أثر بالغ ليس فقط لجهة تدمير البنية التحتية للنظام في العراق وانما ايضاً لجهة تعزيز البنية التحتية للادارة في واشنطن. بالطبع، توجد مجازفة. إلا ان مجازفة الادارة الاميركية غير مجازفة السلطات العراقية. فالأولى تجازف لانقاذ نفسها والثانية تجازف على حساب شعبها، وربما على حساب بقائها. فأميركا التي يجهلها الشرق ليست غبية، كما يعتقد. انها تحاكم نفسها علناً. والشرق يستغرب لأن تقاليده لا تنطوي على قيم الشفافية والمحاسبة.