بدا اطلاق سراح سهى بشارة ثمرة جهود ديبلوماسية بذلتها الدولة الفرنسية، وصلت الى حدّ مطالبة الرئيس جاك شيراك شخصياً بها كما قيل. وبدا رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري شريكاً في هذه الجهود التي سيقت بهدوء وسرية تامين كما يليق عادة بالديبلوماسية. ثم جرى الامر كأنه تسلّم وتسليم: الرئيس الحريري يتسلّم من الجهة الدولية ثم يسلِّم الامانة الى من بدا له انه صاحبها، اي الحزب الشيوعي اللبناني، وتحديداً السيد جورج حاوي العائد بيسر يقارب الخفة الى احتلال صدارة هذا الحزب عشية مؤتمره الثامن، وقد اعلن عن رغبته هذه منذ اسابيع قليلة قائلاً انه جرّب حظه في تجارة المواد الغذائية وأفلس. يكاد الفرح العارم الذي تثيره استعادة سهى بشارة حريتها وعودتها الى استئناف حياتها كما يحلو لها، يكاد هذا الفرح يطغى على كل اعتبار سواه، لولا ان رواية الصراع الطاحن الذي أدى الى اطلاق سراحها في النهاية، ترتدي اهمية تعادل هذا الانتصار: اهمية بالنسبة الى الاسرى الذين ما زالوا في السجون واهمية بالنسبة الى الآلاف من الناس الذين عملوا من اجل هذه اللحظة السعيدة. غاب هؤلاء جميعاً عن الصورة وعن رواية الحدث. وغابت المحامية مونيك بيكار - فيل وهي سيدة في السابعة والسبعين من عمرها، مناضلة شيوعية من الطراز الستاليني، وُكّلت منذ اعتقال سهى للدفاع عنها. سافرت الى اسرائيل مرات سعياً لمقابلتها وكانت في كل مرة تواجه بالرفض، فتستغل المناسبة لمقابلة سائر موكليها: انور ياسين ونبيه عواضه وكايد بندر واحمد اسماعيل وعبدالكريم العلي وعلي حمدون وجميعهم أُطلقَ سراحهم في المبادلة الاخيرة ولم يبق منهم في سجن عسقلان سوى انور ياسين… لدى السيدة بيكار - فيل ملف لسهى من مئات الصفحات يضم مراسلاتها مع الجهات الدولية الحقوقية والرسمية. لم يجد احد من الثلاثي الذي تصدّر واجهة استقبال سهى - اي الديبلوماسية الفرنسية والرئيس الحريري والحزب الشيوعي - ان لحضور هذه السيدة ضرورة، فتبلغت النبأ من صحافي في باريس! كذلك الامر مع المحامية ليّا تسيمل، المناضلة الاسرائيلية التي تتولى الدفاع عن معظم السجناء اللبنانيينوالفلسطينيين، والتي قدّمت الى المحكمة العليا الاسرائيلية طلباً لإطلاق سهى بشارة، وتمكنت من انتزاع موعد للنظر في الطلب، عُيِّنَ في 12 آب اغسطس ثم تأجل الى 15 ايلول سبتمبر ليطلق سراح سهى قبل موعد المحاكمة بأيام… تماماً كما حدث مع المناضلة كفاح عفيفي والتي توكلت ايضاً عنها ليا تسيمل واطلقت سراحها اسرائيل قبل ايام من انعقاد المحكمة العليا التي كانت ستنظر في طلب الافراج عنها. تمكنت ليا تسيمل من اجبار المحكمة العليا الاسرائيلية على قبول دعواها وهو ما كانت ترفضه على الدوام بحجة عدم اختصاص اسرائيل النظر بموضوع قائم على الاراضي اللبنانية وبين متنازعين لبنانيين. تمكنت من ذلك حين استماتت في التحري عن جوانب المسألة، فاكتشفت ان انطوان لحد يحمل جواز سفر اسرائيلياً. انه ايتها العزيزة الغالية سهى، اسرائيلي او صهيوني إن شئتِ، وليس "يهوديا" كما زلّ لسانك في مؤتمرك الصحافي الاول، فليس من شك ان مثلك ليس من يخلط بين الانتماء الديني وبين المواقف الفكرية والسياسية. اعلنت تسيمل ذلك وعلى جبهة اخرى، ارسلت الى الرئيس الفرنسي جاك شيراك رسالة تحتج فيها على انباء تقول ان انطوان لحد في صدد الحصول على حق اللجوء السياسي في فرنسا بعد ان سبقته عائلته للاقامة فيها. قالت ليا تسيمل في رسالتها: "اكتب اليكم اليوم لأعبّر عن قناعتي بأن إحدى الشروط التمهيدية، الدنيا والضرورية، لاستقبال انطوان لحد في بلاد حقوق الانسان، ينبغي ان تكون تفكيك معتقل الخيام فوراً، واطلاق كافة المعتقلين فيه وعلى رأسهم سهى بشارة". كان ذلك في بداية شهر آذار مارس 1998. وعلى صعيد آخر تشكّلت "اللجنة الجامعية لاطلاق سراح سهى بشارة"، بمبادرة من البروفسور بول كسلر عضو اللجنة الأم. واللجنة الجامعية هذه مؤلفة من 17 عضواً، كلهم من كبار الاساتذة الجامعيين وبعضهم رؤساء جامعات او اعضاء في اكاديمية العلوم او في الكوليج دو فرانس، وهما اعلى هيئتين علميتين في فرنسا. تولت هذه اللجنة المراسلات الرسمية لان الهالة التي تحيط بأعضائها، وكون معظمهم من اصول يهودية، كانت تمنحها سلطة معنوية تجبر السلطات السياسية على الاجابة عن الرسائل. وهكذا أوصلت هذه اللجنة ملف معتقل الخيام وسهى بشارة الى الرئيس شيراك ولاحقت رئيس الوزراء ووزير الخارجية في كل مناسبة، مطالبة اياهم بالتدخل لدى السلطات الاسرائيلية وضاغطة عليهم ازاء تردد انطوان لحد على فرنسا. قاد هؤلاء الاساتذة الكبار حملة جمع التواقيع في جامعاتهم من اجل اطلاق سراح سهى بشارة. كما ساهمت في اطلاق الحملة المنظمات الناشطة من اجل حقوق الانسان في فرنسا: منظمة العفو الدولية ورابطة حقوق الانسان بالطبع، ولكن ايضاً منظمات اقل شهرة ك "المنظمة المسيحية لمناهضة التعذيب" و"مجموعة المنظمات العاملة من اجل فلسطين" التي تمتلك شبكة هائلة من الصلات بحيث وصلتنا تواقيع من قرى في اقاصي جبال الألب او البيرنيه، تستنكر ما يجري في معتقل الخيام وتطالب بالحرية للمعتقلين ولسهى بشارة. بعضهم ارسل يطلب صوراً كبَّرها وتحولت الى ملصقات في ساحات تلك القرى النائية! واتسعت الحملة دولياً: تولت الناشطة الايطالية الشهيرة لويزا مورغانتيني تشكيل شبكة لجان من اجل اطلاق سهى واغلاق معتقل الخيام، وقابلت لهذا الغرض رئيس الجمهورية الايطالية قبيل سفره الى لبنان والمنطقة وطالبته بحمل موقفها، تشكلت لجان في انحاء مختلفة من اوروبا وحتى في بعض جامعات الولاياتالمتحدة. وتولى سيون أسيدون وهو مناضل مغربي امضى 12 عاماً في معتقل القنيطرة واصبح مشهوراً في المغرب باسمه النضالي "المعطي"، تولى الحملة المغربية التي جاءت بتواقيع من سيصبح رئيساً للوزراء، عبدالرحمن اليوسفي، وقادة الاحزاب والنقابات، وتولى مناضلون وناصريون ويساريون الحملة المصرية، وعمم المناضلون الفلسطينيون البيانات في نشراتهم، مما أوصلها الى المعتقل انور ياسين ورفاقه، فبادروا للاشتراك، من معتقلهم في الحملة! وحين نشرت جريدة "لوموند" يوم 19 ايلول سبتمبر اللائحة الاولى للموقعين على العريضة المطالبة بإطلاق سراح سهى بشارة، كان عدد الذين وقّعوا العريضة ناهز الأربعة آلاف شخص. وكان بين الموقّعين الاوائل مقاومون كبار خبروا معسكرات الاعتقال النازية وهم ايضاً يمتلكون سلطة معنوية كبيرة في اوروبا، وكان بينهم كتّاب ومفكرون يحتلون منذ سنوات الواجهة الفكرية في العالم كمكسيم رودنسون وادغار موران وبيار فيدال ناكيه، وكان بينهم فنانون مشهورون كبارناردو برتولوتشي المخرج الايطالي، ولا اذكر هنا العرب من الموقعين، اي ادوارد سعيد وادونيس ويوسف شاهين ومحمود درويش… وكان بينهم خمس شخصيات من هونغ كونغ امكن الاتصال بهم عبر صديقة نحَّاتة تقيم في باريس. وهؤلاء كانوا نواباً في برلمان هونغ كونغ ورؤساء النقابات الكبرى فيها، وقد أعيد انتخابهم في البرلمان بعد عودة المقاطعة الى الوطن الام. وهم يحتلون صدارة الواجهة السياسية في هونغ كونغ حالياً، واعتبروا توقيعهم التزاماً منهم بالقضية، فأرسلوا قبل زيارة الرئيس الاميركي بيل كلينتون الى بلادهم في تموز يوليو الماضي يسألون عما يمكنهم القيام بهم خدمة لالتزامهم ذاك. ثم ادرجوا مطالبتهم باغلاق معتقل الخيام وباطلاق سراح سهى بشارة كإحدى نقاط لقائهم ومباحثاتهم مع وزيرة الخارجية مادلين اولبرايت. هل نسينا احداً؟ نعم: السيدة ميتران التي استقبلت ام سهى مرتين خلال زيارتيها الى فرنسا وكتبت تطلب من شمعون بيريز التدخل ثم وجّهت رسائلها المتكررة الى نتانياهو. وكذلك السيدة كريستين دور - سرفاتي التي اشتهرت بنضالها من اجل اغلاق المعتقلات الصحراوية في المغرب حيث كان يقبع زوجها المناضل ابراهيم السرفاتي الذي ساهم الحزب السوري القومي الاجتماعي الذي يتزعمه الوزير اسعد حردان في منعه من الحضور الى لبنان للاشتراك في احتفالات الذكرى الخمسين لنكبة فلسطين. وهو نفسه - اي الوزير حردان - الذي أقلَّ بسيارته والدي سهى بشارة الى السراي لاستقبالها، بوصفه نائباً عن مرجعيون! السيدة دور - سرفاتي كتبت مقالاً عن سهى ومعتقل الخيام نشرته جريدة "لوموند" بتاريخ 28/11/1997. ويدرك اهمية ذلك من يعرف صعوبة النشر في الجرائد العالمية، خصوصاً لمواقف تدين اسرائيل. نسينا ايضاً ان نذكر شباب احياء باريس الطرفية الفقيرة، اعضاء منظمة "الهجرة والضواحي" الذين يملكون اذاعة استقبلتنا مرات عدة وشاركت بفعالية في الحملة. ونسينا ان نذكر المحامي سيمون فورمان الذي ينتمي الى اكبر مكتب محاماة في باريس ووافق على التبرع للدفاع عن سهى وراح يكتشف وقائع الاحتلال ووقائع معتقل الخيام فيزداد غضباً من ذلك، والذي تولى تحضير الملف الذي تقدمت به "لجنة سهى بشارة" الى لجنة حقوق الانسان التابعة للامم المتحدة التي تنعقد مرتين في العام للنظر في انتهاكات الدول لحقوق الانسان، حيث كانت تنظر في انتهاكات اسرائيل في يومي 17 و18 تموز يوليو 1998، وقد أبدى، خبراؤها التسعة عشر اهتماماً بالملف القانوني ووجهوا الى ممثل اسرائيل الماثل امام اللجنة الاسئلة التي أعدّها المحامي. ونسينا كيف ان صورة سهى تصدّرت الصفحة التي خصصتها لاسرائيل مجلة "كورييه انترناسيونال" المعروفة وذلك في عددها الخاص بالاحتفال بالذكرى المئوية لبيان اميل زولا الشهير "إني أتهم". وقد انتشر هذا العدد الخاص في ارجاء المعمورة لأهميته واهمية المناسبة. ونسينا حتماً الكثيرين ممن ساهموا بأشكال مختلفة في اطلاق سراح سهى: الصحافي في جريدة "هآرتس" الاسرائيلية الذي كتب مقالات قاسية استعملناها في مراسلاتنا وكانت ذات وقع كبير لأنها كما يقال "شهادة شاهد من أهله"، كذلك المقال الممتاز لأفيف لافي الذي اعادت نشره "ميدل ايست ريبورت" وعنوانه "لا تحطّ رحالك ابداً في الخيام". ونسينا ام سهى التي تكره السياسة وترتاب من السياسيين، الا ان ذلك لم يمنعها من طرق ابواب البرلمان الاوروبي والخارجية الفرنسية والحزب الاشتراكي ونواب وصحافيين… بل وصلت في مسعاها الى كندا، حاملة حزنها المؤثر اينما حلّت. ولن نتكلم في هذه المناسبة عن تجربة "لجنة اطلاق سراح سهى بشارة"، التي تشكلت في باريس في حزيران يونيو 1997 بمبادرات فردية تحركها نوازع متنوعة، وكانت في اساس اطلاق التحرك، وعملت على تنسيق وتثمير الجهود التي بذلت في اطاره. لن نتناول هنا تجاهل الحزب الشيوعي للجنة بل حنقه من مبادراتها ومن اندفاعها الى تحريك ماء اراده راكداً. ولن نتكلم عمن بادر الى دعم اللجنة، عن رجل الاعمال اللبناني، اليساري السابق، والذي لم تجعله ملايينه تمساحاً، فبادر لدفع كلفة نشر العريضة المطالبة باطلاق سراح سهى في جريدة "لوموند" ولولاه لأمضت اللجنة اشهراً طويلة في جمع القرش فوق الآخر، في شكل تبرعات ولتأخر العمل برمته. ومن المفيد لكل المبادرات ان تدرك ان نموذج هذا الرجل ما زال موجوداً… لن نتكلم هنا عن كيفية تلمس "اللجنة"، طريقها واختياراتها وعما يمكن تسميته الفعالية التي تمتلكها المبادرات غير المتكلسة، فكرياً وسياسياً وتنظيمياً. فهذا موضوع آخر له اهميته في المخاض العسير الذي تعيشه اليوم أطر وأشكال العمل العام، المطلبي والسياسي، في منطقتنا… هؤلاء جميعاً، وهم آلاف من الناس اطلقوا سراح سهى بشارة. تحركوا، كلّ كما يعرف ويُجيد فأصبحت سهى عبئاً ثقيلاً على انطوان لحد وعلى اسرائيل. اما السلطات الفرنسية فتصرفت بما يليق ببلد حقوق الانسان. حملت الملف الذي قدمته لها شخصيات ومنظمات وهيئات متنوعة وبذلت الجهد الديبلوماسي اللازم للوصول به الى نتيجة ايجابية. بل ان الناطقة باسم الخارجية الفرنسية اشارت الى تلك الشخصيات والهيئات يوم اطلاق سراح سهى بشارة مضيفة ان جهد فرنسا حيال سائر المعتقلين سوف يستمر. واما السلطات اللبنانية فتميزت بغيابها العنيد عن الموضوع برمته. فلا يوجد في اي هيئة دولية مختصة اي ملف رسمي لبناني عن الممارسات السائدة في معتقل الخيام او عن اوضاع الاسرى اللبنانيين فيه او في السجون الاسرائيلية. وكنا، اينما توجها يُطرح علينا بريبة سؤال عن موقف حكومتنا مما نروي، فنؤكد ان غيابها اهمال ليس الا. ويوم أطلق سراح سهى، سألت الصديقة النحّاتة الصينية وهي تنظر الى الصور المنشورة في الجرائد عما اذا كان رئيس وزراء لبنان يسارياً، فقلت لها بل هو نيوليبرالي بامتياز. فاستغربت حماسته التي دفعته لتجاوز دوره الرسمي كرئيس وزراء وحملته على التلويح بقبضته متقاسماً المشهد مع جورج حاوي الامين العام السابق للحزب الشيوعي. فقلت لها انه من المعتاد ان تختلط الامور في لبنان فيسود بين حرب اهلية واخرى فولكلور تصالحي كاذب. واما عن السيد جورج حاوي فهو عائد من تجارته الى...! * استاذة جامعية لبنانية مقيمة في باريس والعضو المؤسس ل "لجنة اطلاق سراح سهى بشارة"