حزيران يونيو ليس ذكرى ولا مجرد مناسبة أليمة. انه ما زال واقعاً يومياً في الحياة العربية بمختلف آثاره. ومن هذه الآثار الجديرة بالتأمل ظاهرة الانتحار التي اتخذت في الحياة العربية منذ حزيران 1967 ملامح لا تخطئها العين. والواقع ان انتحار الاديبة والناشطة المصرية الشابة أروى صالح اخيراً بين محاولات انتحارية اخرى لبعض المثقفين لم يمثل حدثاً جديداً في الخريطة النفسية للحياة العربية المعاصرة، وان جاء تذكيراً موجعاً آخر على ما يعتمل في حياتنا العربية تحت الرماد. اذ ان هذه "الظاهرة الانتحارية" بدأت مؤشراتها الأولى بُعيد هزيمة حزيران بقليل. وسواء كان انتحار المشير عبدالحكيم عامر انتحاراً ام "نحراً" فإن تأطير رحيله بهذا الاطار الانتحاري يؤشر الى ان هاجس الانتحار - على ندرته في التقاليد العربية وكونه محرّماً اسلامياً - صار فكرة قابلة للطرح والتوقع في اعقاب تلك الهزيمة بجراحاتها الغائرة في احشاء النفسية العربية الى يومنا هذا، خصوصاً بعدما تكشفت عنه الاوضاع العربية من تراجعات واخفاقات تتعدى البعد العسكري والسياسي لتلك الهزيمة القومية الكبرى، لتصل الى اعماق ابعد غوراً في النفس العربية والتكوين الجمعي العربي. ولم يكن سامي الجندي مبالغاً عندما وصف حادث "انتحار" المشير عامر بأنه كان: "حادثاً استثنائياً ونذيراً بتحول ذهني غير معهود في طبيعة هذه المنطقة..."كتاب "عرب ويهود". وبعد عقد آخر من الزمن، تعمقت الهزيمة، وجاءت مرحلة كامب ديفيد والاحتلال الاسرائيلي لبيروت، على رغم تضحيات حرب تشرين الأول اكتوبر 1973 وبطولاتها، فكان اشهر المنتحرين في هذه المرحلة الشاعر الكبير خليل حاوي. وثمة واقعة انتحارية سبقت انتحار حاوي بسنوات، وإن كانت لا تخرج في ظروفها العامة عن تعمق حالة اليأس بعد هزيمة حزيران 1967، وهي واقعة انتحار الاديب الاردني تيسير سبول بُعيد انتكاس حرب تشرين 1973. وكانت مؤشرات انتحاره بدأت تظهر بعد هزيمة حزيران ببحثه الملحّ عن معنى الحياة ومغزاها، وعكست مجموعته "انت منذ اليوم" الصادرة 1968 اهم مظاهر التمزق بين الذات والجماعة راجع: خليل الشيخ "الانتحار في الأدب العربي". ولا يفوتني في هذا الصدد ان اشكر مؤنس الرزاز الذي لفتني الى هذه الواقعة، بما يدعم رؤيتي العامة في هذا السياق. وتأتي المرحلة الراهنة - مرحلة السلام المستحيل - في ظل التفوّق الاسرائيلي والضعف العربي الشامل، وتدهور الاوضاع الداخلية في معظم الاوطان العربية، لتفرز منتحريها من جيل الشباب الذين قد لا تكون الأديبة اروى صالح آخرهم. وفي ظل اتساع هذه الظاهرة الانتحارية - جيلاً بعد آخر - تبدأ في الظهور ادبيات "ثقافة الانتحار" التي لم تكن عنصراً اساسياً من مكونات الثقافة العربية، متمثلة في دراسات وأبحاث منهجية وأكاديمية لا تسع ذكرها - على اهميتها - هذه الالمامة الوجيزة، وأكتفي بذكر آخرها وهي الدراسة القيمة للدكتور خليل الشيخ، الموسومة "الانتحار في الأدب العربي: دراسات في جدلية العلاقة بين الأدب والسيرة". وفي تصوري فليس من المحتم ان "المنتحر" انسان كاره للحياة، يائس منها، منهزم في ساحتها، ان المنتحر بمعنى من المعاني انسان تطلع الى حياة افضل، الى حياة مثلى، اكثر عدلاً وجمالاً، وانه بانتحاره وتضحيته بوجوده الفردي إنما يسجل "احتجاجه" على عدم بلوغ تلك الحياة: له او لغيره من اهل او وطن او جماعة. ان اليابانيين، على سبيل المثال، ينتحرون عندما تدفعهم الحياة الى مواقع او تصرفات يعتبرونها قاسية او معيبة لا تتفق مع مثلهم الأعلى في الحياة. وهم اذ ينتحرون تكفيراً عن الخطأ من هذه الناحية، فإن الانتحار في التقاليد اليابانية يبقى رمزاً لإصرار الياباني على تحقيق الحياة المثلى، وتضحيته - بالانتحار - من اجل التذكير بها وضرورة الارتقاء الى مستواها لمن أراد ان يحيا... والمستغرب في حياتنا العربية المعاصرة، ان الانتحار في الاغلب ما زال مقتصراً على المثقفين الذين تعذب الأوضاع القاسية ضمائرهم وتدمي نفوسهم، ولكن المسؤولين عن الكوارث والخراب والفساد في اوضاعنا العربية ابعد ما يكونون عن التفكير في الانتحار! وهذه ليست دعوة لانتحارهم، فالانتحار مهما سمت دوافعه لا يصنع الحياة، وانما هي دعوة ليقظة الضمير وشيء من حساسيته، التي لا تبلغ درجة الانتحار، كما حدث في حالة النفوس المعذبة المرهفة. وكل ما آمله ان يسهم هذا الطرح لإشكالية الانتحار من زواياها المختلفة، الى تجاوز الوعي العربي لظاهرة الانتحارات الفردية، مهما كانت مثيرة، ليصل الى حقيقة اساسية من حقائق عصرنا لا مفرّ منها: وهي ان الانتحار، بمعناه العميق، ليس قتلاً للجسم بالضرورة. فللانتحار اشكال وألوان اخطر، وان استمرت حياة الفرد وحياة الجماعة من الناحية البيولوجية. هناك "انتحار" التفاهة واللامبالاة والهامشية في ساحة الحياة والعصر. انتحار التسطيح العقلي والاستهلاكية السوقية المؤدي الى انقراض الأمم في ساحات الاختراع والابداع والانتاج. وهناك انتحار الفساد والجشع الذي لا حدود له، والذي لا يؤدي الا الى خراب المجتمعات وسقوط الدول، هو الانتحار الذي وصفه ابن خلدون بپ"الترف والمؤذّن بخراب العمران..". ان "خراب العمران" - اي السقوط الحضاري بلغة عصرنا - هو النوع الاخطر من الانتحارات الجماعية، وهو اخطر انواع الانتحار التي تهدد العرب في اللحظة التاريخية الراهنة. وهذا الانتحار - قبل غيره - هو ما يجب محاربته وتحريمه شرعاً، ان كان لدينا حقاً "فقه حضاري" يرقى الى مستوى التمييز بين "الحلال" و"الحرام" في معركة الحضارة ومعركة البقاء. ظاهرة الانتحار لا تتفشى في الأمة بسبب هزائمها الخارجية على يد الاعداء الخارجيين، مهما كانت فداحة الهزائم وضراوة الأعداء. ظاهرة الانتحار تعبير عن نزيف وتشقق داخلي يُباعد بين خلايا النفس الجماعية للأمة، فتصبح كل خلية بمعزل عن الاخرى، وينتابها الشعور بأنها قد تم التخلي عنها، قد تمّ هجرها، قد حوصرت وتقطعت شرايين اتصالها بالخلايا الشقيقة في النسيج الداخلي المحيط بها. عندها تبدأ رحلة الانتحار، كما تتساقط الأوراق الصفراء من الشجرة الأم. وما الانتحار في نهاية الأمر؟ هو ذروة الحرب الأهلية داخل النفس الانسانية، والتعبير النهائي عن تدمير جزء من الذات الواحدة للجزء الآخر منها. وهذه الحرب الأهلية تبدأ عندما تشعر النفس ان الأهل قد تخلوا عنها ولكل نفس اهلها الذين تعتبرهم اهلاً، فالانسان العادي اهله اسرته، والانسان ذو الشعور الوطني اهله مواطنوه، والانسان المفكر اهله حاملو فكرته، والانسان الداعية اهله جند دعوته، والانسان المقاتل اهله جند رايته. وطالما ان "أهل" كل نفس انسانية بهذا المعنى محيطون بها احاطة السوار بالمعصم، وهي ثابتة بينهم في موقعها الطبيعي الذي ارتضته لنفسها وارتضاه اهلها لها، فان اية معارك خارجية لا يمكن ان تؤثر فيها داخلياً. ولا يمكن ان تفتح لها جبهة صراع داخلي، بل على العكس من ذلك يدفعها التحدي الخارجي على يد الاعداء الخارجيين الى مزيد من التلاحم مع خلاياها الشقيقة في النسيج الداخلي للجماعة والأهل. من هنا فإن ظاهرة الانتحار لا تتفشى في أمة مندفعة الى قتال اعدائها، مصممة على التصدي لهم، مهما كانت ضراوة المعارك. مسيرة الانتحار تبدأ عندما تدخل الجماعة في حالة اطلق عليها في القاموس السياسي والصحافي العربي: "حالة اللاسلم واللاحرب". اللاسلم واللاحرب افضل بيئة لتفريخ الانتحار والمنتحرين. وإذا ما قررت جهة قضائية عربية ملاحقة قضايا الانتحار الاخيرة في العالم العربي، والبحث عن الجاني الحقيقي، فإني اتقدم برفع الدعوى على... كائن مشبوه اسمه: اللاسلم واللاحرب! قبل اللاسلم واللاحرب لم نكن نسمع بحوادث انتحار في عالمنا العربي ومنذ اقبل علينا هذا الكائن اقبل معه الانتحار من المشير عبدالحكيم عامر الى عبدالكريم الجندي الى خليل حاوي الى تيسير سبول على اختلاف المواقع والمواهب والمسببات التفصيلية والخلفيات الجزئية. في ظل اللاسلم واللاحرب، اي اللااستقرار واللامعركة، يبدأ النسيج الداخلي لخلايا الأمة بالتفسخ، فتريد بعض الخلايا ان تحارب بأي ثمن، وتجنح بعض الخلايا الى ان تسالم بأي ثمن، وتبقى معظم الخلايا في حالة اللامبالاة. وهذه الخلايا ايضاً تتفسخ وهي لا تدري متوهمة ان اللامبالاة ستنقذها من حتمية القرار. فتقرر لها الاحداث الهاجمة مصيرها وهي تتفرج على سكين الجزار. في هذا التيه المتشعب الاتجاهات بين محاربة ومسالمة ولامبالاة تدخل كل خلية صحراءها المنعزلة الخاصة بها. وتتقطع طرق التواصل والتعاطف والتعاون بينها وبين خلاياها الشقيقة الاخرى، وتبدأ تنسج من افرازاتها الذاتية المرضية شرنقتها المغلقة من جميع الاتجاهات بلا أبواب ولا نوافذ ولا سبل سالكة باتجاه الآخرين من الأهل، وما تلك الشرنقة في حقيقة الأمر سوى حبل الانتحار وكفن النهاية. في ظل هذه القطيعة للذات عن اهلها، بمفهوم "الأهل" الذي اشرنا اليه في البداية، تصبح النفس الانسانية كالجسم الذي فقد حصانته الأساسية المركزية ضد الجراثيم والعدوى. اما الحادث المباشر المؤدي عادة لتنفيذ الانتحار، والذي يتصور الناس انه هو السبب، فليس في حقيقة الامر سوى القشة التي قصمت ظهر البعير، البعير الحامل لأثقال الحياة، المتحمل لصراعاتها داخل النفس الانسانية. وتبقى حالة القطيعة التي وقعت فيها النفس هي السبب الحقيقي. اما الحادث المباشر فلم يكن سوى قاطع الطريق الذي هجم على قافلة منعزلة تائهة في الصحراء فوضع حداً لسفرتها الضالة التعسة. فالنفس في الحياة قافلة مسير يتحدد مصيرها بخارطة السير. وجوهر الشعور بهذه القطيعة لدى الفرد الذي يحمل مشروع الانتحار في حقيبته النفسية الداخلية، هو احساسه الملحّ، الفادح بأنه قد تم التخلي عنه من قارب المقربين اليه، من عزوته وعصبته وأهل نصرته، من الذين ظلّ يتصور مدى العمر انهم معه وانه معهم، بغض النظر عن الاساس الموضوعي لهذا الشعور. المهم انه شعور قائم في النفس بقوة ومسيطر عليها تأمل مثلاً في علاقة المشير عامر بالرئيس عبدالناصر كيف بدأت واستمرت، وكيف انتهت بعودة عبدالناصر الى القيادة، اي الى الأهل، بالمعنى الذي حددناه وبقاء المشير بعيداً عن "أهله" "في الظل" اي في القطيعة، على طريق الانتحار، مع تضخم احساسه بأن اقرب المقربين قد تخلّى عنه. وعلى كثرة عوامل الانتحار وتشابكها، فإني ارى بأن الاحساس بالتخلي هذا من جانب احب الناس الينا، هو العامل المشترك والقاسم الاعظم بين مختلف حالات الانتحار. من المحب الذي ينتحر لأن حبيبته قد تخلت عنه، الى القائد الذي ينتحر لأن رئيسه وجنده قد تخلوا عنه الى الشاعر الذي ينتحر لأنه يتصور بأن امته قد تخلت عن مبادئها التي هي مبادئه وجوهر كيانه. "مهيار وجهٌ خانه عاشقوه" هذا الشطر الشعري للشاعر ادونيس في ديوانه "اغاني مهيار الدمشقي" يمكن ان نستعيره من موضعه، لنلخص به العامل المشترك في كل انتحار او مشروع انتحار". "مهيار وجه خانه عاشقوه..." تلك هي خلاصة القضية. ولنلاحظ ان الذين خانوا مهيار هم "عاشقوه" وليس "أعداؤه" فخيانة الأعداء تحصيل حاصل، اما خيانة العاشقين فذلك ما تقتل النفس نفسها من اجله! والعاشقون كما قلنا ليسوا هم أهل الصبابة الغرامية بالضرورة فهم ما شئت بالنسبة لمن شئت، من الجند للقائد، الى الخلان للصديق. والمنتحرون العرب تكاثروا، لا لأن العدو متطاول، ولكن لأن الحبيب متخاذل!! كان لذهنية ونفسية "التوحيد" التي اشاعها الاسلام ابلغ الاثر في لجم الانتحار. وقد كتب سامي الجندي في كتابه "عرب ويهود" عن أول حادث انتحار في مرحلة ما بعد حزيران، وهو حادث انتحار المشير عامر، بقوله: "كان حادثا استثنائياً ونذيراً يتحول ذهني غير معهود في طبيعة هذه المنطقة" وقد صدق الكاتب حقاً في حدسه هذا. فطبيعة منطقتنا العربية الاسلامية هي طبيعة توحيد على كافة مستويات الوجود والحياة، من توحيد الخالق الاعظم سبحانه الى التوحد مع الأهل والعشيرة.. خاصية عشيرة الوطن الكبير. وبفضل التوحيد، في وجه الثنائية وصراع الاضداد، تشيع في صميم الفرد والجماعة حالة من الاتساق والطمأنينة الداخلية، والانسجام مع النفس، تخفت بفضلها حدة التوتر النفسي والعقلي، وتغدو الحضارة حضارة انسجام وتوفيق، لا حضارة صراعات، وتضمحل لذلك ظاهرة الانتحار. وهذا طبعاً في الأحوال الطبيعية لحضارتنا، لا في الوضع الراهن. والمستشرقون الذين فسروا اختفاء المسرح التراجيدي من الحضارة العربية بأنه قصور في الخيال الفني، لم يدركوا جيداً ان التوحيد ينقض التراجيديا، اي صراع الاضداد في الوجود، وهي الفكرة الأساسية لمسرح التراجيديا. وهكذا يمكننا القول ان اختفاء فن التراجيديا في تاريخ الاسلام، هو مظهر آخر لغياب ظاهرة الانتحار في المجتمعات الاسلامية. فالاسلام، في العقيدة وفي السلوك الفردي والجماعي، يرفض الثنائية او التعددية من مانوية فارسية او تراجيديا اغريقية، ويطرح التوحيد، بديلاً لصراع العناصر المتضادة في الوجود، فيتآلف الفرد مع الكون، ويتآلف مع "الأهل" ومع المجموع البشري ككل، فتتلاشى بذور الانتحار لديه منذ البداية ولا يتعرض لامتحان تراجيدي. أضف الى ذلك ان الاسلام يعني في جوهره الكوني الوجودي العميق الاستسلام الحكيم لارادة الله في كل شيء: "قل لن يصيبنا الا ما كتب الله لنا" والاستسلام للارادة الالهية في ما لا نقدر عليه. ولا نستطيع تغييره هو لب الحكمة الكونية، فهل بامكان فرد واحد، في لحظة زمنية، تغيير طبيعة الكون وسنن التاريخ وقوانينه الفاعلة منذ آلاف السنوات؟ وماذا سيجدي انتحاره في تغيير ذلك كله؟ وعندما يتحدث المفكرون المعاصرون عن "حتمية التاريخ" و"حتمية القوانين الطبيعية، فإنهم يقولون للفرد الانساني، بلغة مختلفة لفظاً، ما قاله الاسلام للانسان من قبل: "هناك ارادة عليا في الكون فوق رغباتك وآمالك. وعليك ان تدرك بوضوح الخط الفاصل بين ما تستطيع تغييره وما لا تستطيع". والاستسلام للارادة الالهية في الاسلام هو غير الاستسلام للظلم والخطأ والجور. فهذه مظاهر ضد الارادة الالهية والمسلم المعتمد كلياً على تلك الارادة ولا يخشى الا الله يتحول حرباً على مظاهر الظلم والجور. وإذا كان الانسان متيقناً ان الله معه، وانه مع ارادة الله، فمن يستطيع ان يقف في وجهه؟ وهكذا تتحول التضحية بالذات لدى المسلم الى مقارعة الظلم والخطأ لنيل الشهادة، ويتحول الاستسلام العميق للارادة الالهية الى قوة هائلة تدفع المسلم الى ساحة النضال بارادة لا تلين وعزم لا يعرف التراجع: "وإن جندنا لهم الغالبون". ومن هم هؤلاء الجند المقتدرون على الانتصار والغلب؟ هم الذين استسلموا بداية لارادة الله استسلاماً كاملاً فحرّرهم هذا الاستسلام الكوني العميق من كل عبودية وقيد في هذه الدنيا المتقلبة المتغيرة، المحدودة، وهذا معنى: ان قبول القدر هو الحرية الحقيقية! وهكذا تتحدد العلاقة، وتتوازن المعادلة بين الاستسلام لإرادة الله، من ناحية، والقدرة على التغيير والعمل والنضال من ناحية أخرى. وتأتي الآية القائلة: وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون والحديث القائل: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده.. الخ" ليكملا الوجه الآخر للآية السابقة: قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا، ويصبح القدر هو الحرية. وفي ظل هذا التوازن بين الاعتماد على الله، والاقتدار في الحياة لا تجد بذور الانتحار مجالاً للنفاذ الى نفس المسلم. وإذا كان علماء النفس يذهبون الى القول ان التضحية بالنفس أي النزعة الانتحارية، كامنة في أعماق الإنسان وتبرز في أوقات التأزم والأخطار والمهانات، فإن الاستشهاد في الاسلام هو الذي يلبي نداء التضحية بالنفس ويحول النزعة الانتحارية الى قوة نضالية فاعلة. وإذا كان الانسان مستعداً للتضحية بنفسه... فلماذا لا يدمر بهذه التضحية عدوه أو قيوده... بدل تدمير ذاته؟ لماذا لا يستشهد... بدل أن ينتحر؟ هذا سؤال جوهري وأساسي وحتمي أمام كل نفس عربية تشعر اليوم بعمق الكارثة وتطمح الى التضحية بذاتها للرد على المهانة. وقد لاحظت من رسائل القراء وتعليقاتهم في عدد كبير من الجرائد والمجلات العربية، على حوادث الانتحار العربية الأخيرة، ان الفكرة الجامعة بينهم هي رفض الانتحار وتقديم الاستشهاد بديلاً مشرقاً عنه. لماذا ندمر أنفسنا ولا ندمر عدونا طالما قررنا أن نموت؟ ذلك سؤال في منتهى البساطة والعفوية، وفي منتهي الصواب والعمق... بما يتجاوز "حزيران" الى الغد الأفضل.