يردّ الكاتب محمد جابر الأنصاري على مقالتين كان الزميل عبده وازن كتبهما في "الحياة" 7 و8/8/1998 وفيهما تناول ظاهرة الانتحار في الأدب العربي من خلال كتابين: "انتحار المثقفين العرب" للأنصاري و"الانتحار في الأدب العربي" لخليل الشيخ. والكتابان صدرا حديثاً عن المؤسسة العربية بيروت - عمان. وهنا الردّ. لستُ من مدرسة المؤلفين الذين يُعنوْن بالرد على المراجعات النقدية التي تتناول مؤلفاتهم، خصوصاً إذا كانت المراجعة ذات طابع خلافي أو سجالي في الرأي أو التقييم. فالمؤلف في مثل هذه الحالة سيدافع، بطبيعة الحال، عن كتابه ونهجه وآرائه، كما أن الناقد أو المراجع سيتمسك بالمقابل بموقفه الانتقادي. لذلك فإن جدلاً كهذا ليس من شأنه خدمة القضايا موضع الاختلاف والتقييم... ولكلٍ وجهته ورأيه، أياً كانت مبرراته. إِلاّ أنني وجدت ان مراجعة عبده وازن لكتابي "انتحار المثقفين العرب وقضايا راهنة في الثقافة العربية" الحياة: بتاريخ 7/8/1998، صفحة 16" قد تعدّت الرأي والتقييم الى التباسات أولية لم يكن من الجائز أن يقع فيها كاتب مثله مهمته مراجعة الكتب ونقدها، خصوصاً وأنه قد بنى موقفه الأساسي في الانتقاد على "غياب" المنهج العلمي من كتابي، فجاءت مقالته أبعد ما تكون عن روح هذا المنهج وقدرته على تمييز طبيعة المادة التي يتصدق للحكم عليها. سألخص ردي في النقاط التالية تبياناً للحقيقة ودفعاً للالتباس: أولاً: أن الكتاب - من عنوانه - لا يقدم نفسه الى القارىء باعتباره بحثاً حصرياً اختصاصياً في "الانتحار". فهو يحمل عنوان: انتحار المثقفين العرب وقضايا راهنة في الثقافة العربية. وجاء ذكر الانتحار في بداية العنوان لأنه المحور الذي حظي بمعالجات عدة، ومن زوايا متباينة، أكثر من المحاور الأخرى. ولكن الانتحار يبقى قضية واحدة فقط بين قضايا الكتاب. فلماذا ركّز المراجع على موضوع الانتحار، وأغفل كل القضايا الأخرى؟ هل "الانتحار" هو كل ما في الكتاب؟ لا أعتقد أنه كان أميناً مع القارىء، ولا مع الكتاب، في هذه الانتقائية المتعمدة، كما لم يكن منصفاً مع مؤلفه، بتعمده تجاهل بقية المحاور التي أرى أنها لا تقل أهمية عن موضوع الانتحار الذي أراد المراجع في الواقع ربطه بكتاب لمؤلف آخر، وهو كتاب الانتحار في الأدب العربي للدكتور خليل الشيخ، في سلسلة مقالية عن الانتحار أراد أن يكتبها، فتعامل مع كتابي كبحث حصري في الانتحار - وما هو كذلك - لتحقيق هدفه المقالي على حساب الحقيقة الموضوعية لمحتويات الكتاب الأخرى التي أسقطها تماماً، وكانت الموضوعية العلمية المنهجية التي طالما كررها في مقالته، تقتضيه ذكرها في أقل تقدير - مراعاةً للحقيقة. لقد تجاهل السيد عبده وازن بقية الموضوعات ل "توضيبه" سلسلته الغالية الثنائية المقتصرة على موضوع الانتحار بين كتابي وكتاب الدكتور خليل الشيخ! كما يعلم السيد وازن فلست بعيداً عن "المطبخ" الصحافي، ولا تفوتني هذه "الحيل" الصحافية! ولكن ما ذنب كتابي أيها الزميل الصحافي العزيز؟ وما ذنب القراء؟ وما ذنب الحقيقة والنقد الأدبي "الموضوعي"... "الأمين"... إلخ إلخ؟؟!! ثانياً: لم ترد في كتابي أية اشارة الى أنه متقيّد بالبحث العلمي "الاختصاصي" في موضوع الانتحار أو غيره من الموضوعات. بل على العكس من ذلك نصّت مقدّمته على أنه يمثل نظرات: "ذاتية وجوانية مغايرة" أي أنها معبرة عن رأي كاتبه، ولا تلزم أحداً - لأنها غير مطروحة أصلاً كبحث علمي متخصص - وإنما هي تأملات اجتهادية مطروحة لنظر القارىء يتأملها بدوره قبولاً أو رفضاً. وزيادةً في ايضاح هذا الطابع الذاتي للكتاب فقد أشرت - نصاً - في تقديمي له ان تناولي لموضوع الانتحار بالذات: "لا يتخذ المنحى البحثي المتقيّد بحدوده المنهجية" ككتاب الدكتور خليل الشيخ الانتحار في الأدب العربي على سبيل المثال، "وإنما يمثل تأملات فكرية طليقة في سبر الظاهرة الانتحارية ... إلخ" - ص 12-13. فهل تعني هذه الإيضاحات أنه بحث علمي متخصص؟! لذلك فإن "اكتشاف" عبده وازن بأن الكتاب ليس بحثاً علمياً مختصاً بظاهرة الانتحار ليس إلا من باب "تحصيل الحاصل"... فقد فسّر الماء - بعد الجهد - بالماءِ..!!! إنني من الذين يحملون احتراماً كبيراً لمنهج البحث العلمي في موضوعه وفي مقامه المناسب. فالبحث العلمي خبزي اليومي وموعظتي الدائمة كأكاديمي وعميد لكلية دراسات عليا فتلك بضاعتنا ردت الينا..!. إلا أنني أكنّ إعجاباً أكبر للتأمل الذاتي الفكري المنطلق. وهو جانب لا يستطيع تذوقه إلا من امتلك حساً إبداعياً يتجاوز أفق البحث المدرسي. لم أعتذر - قط - للباحث في شخصي لميلي الى الكتابة الذاتية والسجالية والخلافية، لكني غالباً ما أستند للكاتب الذاتي في داخلي عندما يثقل عليه الباحث، في جانبي الآخر، بكلكله! لذلك فإن الذاتية والانطباعية في كتابي انتحار المثقفين العرب وقضايا راهنة في الثقافة العربية مسألة مقصودة ومتعمدة "مع سبق الإصرار والترصد". وكان الأجدى بالمراجع الكريم أن يبصر هذه الناحية البيّنة في الكتاب باعتباره تأملات ذاتية لكاتبه لا يلزم أي محفل من محافل البحوث والدراسات في العالم، بدل موعظته "العلمية المنهجية" التي لا يندرج ضمنها الكتاب أصلاً "فهي مقامة في غير موضعها"، وأخشى أنه لم يقرأ الكتاب حتى موضوعات الانتحار فيه قراءة دقيقة كما لم يدقق في فهم ما ورد نصاً في اشاراته. ودليلي على ذلك من نص مقالته انه يحاول افهامي - مع القراء - "ان العلماء ميزوا بين نوعين من الانتحار، الانتحار كفعل عقلي ينجز تبعاً لاعتبارات أخلاقية واجتماعية أو دينية أو فلسفية أو شخصية، والانتحار كفعل مرضي يحدث خلال تنامي بعض الآفات النفسية كالانهيار العصبي والهذيان لمزمن والاختلال وسواها...". ثم أحالني - أنا والقراء - الى موسوعات بهذا الصدد، "حسناً، أفادكم الله أيها الناقد الخبير"! ولكن هذا بالتحديد والضبط ما نبهت اليه في الكتاب عندما قلت نصاً: "نتحدث عن الانتحار هنا كظاهرة نفسية متأخرة عُمرياً تصيب أفراداً أسوياء الى حد معقول، لهم نشاط بارز في مجتمعاتهم، وليس عن الانتحار كمرضٍ عقلي لدى المعاقين نفسياً وذهنياً" - الهامش، ص 33. هل يحتاج القارىء - أيُّ قارىء - الى مزيد من الإيضاح ليتبيّن أن الكتاب لا يتناول الانتحار "كمرض عقلي" نتيجة لآفات نفسية - على حد تعبير عبده وازن - وإنما هو فعل إرادي متعقّل لاعتبارات أخلاقية أو فلسفية... إلخ؟ فهل قرأ السيد المراجع عبارتي التوضيحية تلك؟ ان لم يقرأها فمعنى ذلك أنه يتصدى بالنقد لكتاب لم يقرأه بدقة مما يدعو الى التساؤل عن مدى دقة مراجعته للمواضيع والمسائل الأخرى التي تصدى لها بالتعليق والانتقاد، أما أن يكون قد قرأها ولم تعنِ له شيئاً، فالمصيبة أعظم... من هنا فإن استعراض معلوماته "الموسوعية" في مقالته بشأن مسألة موضحة ومنصوص عليها صراحة في الكتاب، يبدو أمراً لا محل له من الإعراب النقدي... والمنهجي... والموضوعي! ثالثاً: إذْ تخرج مقاربتي ومعالجتي لموضوع الانتحار في هذا الكتاب عن نطاق "المرض العقلي" كما يعرّفه الأطباء النفسانيون، فإنها تخرج وتتحرر - أيضاً - من نطاق المعنى الواقعي الحسي للانتحار .... عندما يقابل شخص شخصاً آخر في الطريق العام وهو بلباس عادي متحرر، يمكن أن يقول له أن لباسك هذا في نظري جميل أو غير جميل، أما أن يمسك بتلابيبه ويقول له ان لباسك هذا ليس بدلة رسمية سوداء بالكرافتة اللازمة، فهذه ملاحظة في غير موضعها وتفتقر إما الى سلامة النظر، أو سلامة التقييم. لقد أخطأ السيد وازن الاختيار. وإذا شاء التصدي لنماذج البحث العلمي لدى كاتب هذه السطور، فقد كان عليه الرجوع الى دراساته الأكاديمية والبحثية المتخصصة نظير: الفكر العربي وصراع الأضداد، تكوين العرب السياسي، التأزم السياسي عند العرب، تحولات الفكر والسياسة في الشرق العربي... إلخ. أما أن يختار كتاباً كان القصد من موضوعاته أصلاً - وكما هو معلن فوق غلافه الخلفي - أن يكون مقاربات: "ذاتية وجوانية تتحرر من رداء المفكر المنهجي" - هكذا بالنص!! - ثم ينتقده لكونه لا يمثل بحثاً اختصاصياً منهجياً، فذلك افتعال لمسألة غير قائمة وغير واردة وأترك الحكم عليه لقراء الكتاب. كان الجاحظ عندما يصادف اختياراً في غير محله كهذا يقول: "ذلك توفيق من الله في... الخذلان!". وأنا لن أقول ذلك للزميل الكريم... وإنما سأقول له: "هذا ليس توفيقاً من الله في حسن الاختيار!". رابعاً: ان المنهج العلمي الذي يحتج به كاتب المقالة، يقوم أساساً على النسبية وتجنب الأحكام العامة والقاطعة. وفي مسببات انتحار المنتحرين العرب، من مثقفين وغيرهم، يمكن أن تتداخل الأسباب والعوامل ذات الطابع العام القومي، الوطني، أما الطابع الفردي الخاص، وكل حالة بطبيعة الحال يجب أن تؤخذ حسب خصوصياتها، وثمة حالات يتداخل فيها العام والخاص ولا يمكن القطع بالأثر الحاسم لأي منهما، خصوصاً في ما يتعلق بالحالات النفسية والشعورية التي لا تخضع كلياً للاختيار العلمي. انتحار الشاعر خليل حاوي له مسبباته الخاصة دون ريب، وذلك ما أوضحته في "النظرة الثانية" لانتحاره بما يتعدى "النظرة الأولى" التي ربطت انتحاره بالغزو الإسرائيلي للبنان. ولكن كيف تفسر "توقيت" ذلك الانتحار، بكل خلفياته الخاصة؟ هل كان اختيار خليل حاوي لذلك اليوم في التاريخ اللبناني والعربي - وهو من نعرف - اختياراً اعتباطياً بلا معنى؟ وانتحار الشاعر الأردني تيسير سبول؟ هل تعلم متى انتحر على وجه التحديد؟ عندما انتكست حرب تشرين الأول أوكتوبر وتوفت واستعاد الإسرائيليون زمام المبادرة... لماذا لم ينتحر قبلها أو بعدها؟ وليس صحيحاً أنه انتحر في فترة قتال ومواجهة كما تصورت. لا داعي للدخول في مجادلة البيضة و"الدجاجة" فالعبرة بالمحصلة النهائية لامتزاج العوامل العامة بالخاصة في الدفع النهائي بالمنتحر الى الانتحار... وجميع المنتحرين اللبنانيين، بمن فيهم عالم النفس رالف رزق الله، هل يمكن أن نفصل فصلاً قاطعاً بين تأثير ما هو "عام" وما هو "خاص" في الدفع بهم الى الانتحار؟ الاسترخاء الحياتي الاستهلاكي المفرط في السويد أليس سبباً "عاماً" لحالات الانتحار "الخاصة" هناك "والمعاناة العامة - بالمقابل - في بلادنا لا يمكن أن تكون سبباً مماثلاً؟ أخيراً: لا أدري لماذا ستحكم فينا عادة القول - إذا أردنا انتقاد كتاب ما - تكرار القول بأنه "مقالات صحافية"، كما كرر السيد عبده وازن عن الكتاب، في مقالته التي لا تعدو كونها مقالة "صحافية"!! نعم... كتابي مختارات من مقالاتي الفكرية والأدبية في عدد من المجلات الثقافية العربية... وذلك ما تمّت الإشارة اليه في الكتاب - توثيقاً - بالتواريخ والمصادر الأولى. ونحن نقرأ كل يوم "مقالات صحافية" لقسطنطين زريق، ومحمد عابد الجابري، وادوارد سعيد، وجورج طرابيشي، وغازي القصيبي، وتركي الحمد ومحمد الرميحي ومطاع صفدي وغيرهم من المفكرين العرب، ونجد في مقالاتهم "الصحافية" تلك ما لا نجده غالباً لدى منتهجي البحث العلمي، من تكثيف للأفكار وإيجاز لها بما يستطيع الوصول الى أوسع قطاعات القراء. فهل في ذلك ما يعيب تلك الكتابة؟ ان النقد يجب ان يلزم نفسه بتحليل المحتوى في كل الحالات، وأن يتجنب التعميمات التي تسطّح المصطلح النقدي. أستطيع أن أفهم استخدام هذا المصطلح من جانب الأكاديميين للتقليل من شأن الصحافيين، أما أن يستخدم المصطلح صحافي بما يشي بوعيه الباطن في "اللاشعور" بأن ما هو صحافي أدنى مما هو علمي.. فتلك مسألة تستدعي العناية القصوى... * مفكر وأكاديمي - البحرين