"ثقافة الانتحار".. مصطلح جديد لم يكن متداولا في العالمين العربي والإسلامي،ولم يعرف طريقه إليهما إلا بعد أحداث سبتمبر عام 2001 وما تلاها من تطورات، نقلتهما ليكونا في بؤرة الصراعات الدولية والإقليمية الدامية، والتي بدأت مع تدمير دولة طالبان في أفغانستان عام 2001، وسقوط بغداد بعدها عام 2003 ، وباتت قوى دولية أطرافا مباشرة في المواجهات العسكرية في هذين البلدين، لتعيد إليهما وللمنطقة العربية والعالم الإسلامي أجواء مرحلة ما قبل الاستقلال، وما صاحبها من جدل ثقافي يحاول الإجابة على كثير من الأسئلة التي طرحتها أكثر مراحل "المواجهات الحضارية" سخونة بين الشرق والغرب منذ أفول عصر الحروب الصليبية التقليدية ، التي امتدت ما بين أواخر القرن الحادي عشر إلى الثلث الأخير من القرن الثالث عشر (1096 - 1291). بدأ التعاطي مع "المصطلح" في العالم الإسلامي من منطلق "افتعالي" لا طبيعي، وبطريقة متعجلة وسطحية، بسبب أن طرحه جاء في إطار "سياسي آني" يستعجل التخديم الإعلامي على الآلة العسكرية على جبهات القتال، وذلك خلافا لطريقة التعاطي الغربي مع الظاهرة منذ دخولها الفضاء السيسولوجي على يد "إميل دوركايم " (1858-1917) في كتابه الأم "الانتحار" الصادر عام 1895 والتي فرضتها شروط عفوية وموضوعية تتعلق بحراك اجتماعي عنيف ومتسارع ، ترك تداعياته على انفعالات الإنسان الغربي ومزاجه بوجه عام.. فضلا عن أن استهداف "الإسلاميين" فقط باعتبارهم "موضوع" الظاهرة يخل بالمقدمات ، وبالتالي فإن ثمة تشوهات حقيقية ستمس النتائج لا محالة، ذلك لو افترضنا سلامة الطوية في صك مثل هذا المصطلح ابتداء. في المؤتمر الدولي للتدخل ضد الانتحار الذي عقد في "مونتريال" عام 2005، استخدمت الخبيرة "دانيال سانت لوران" مصطلح "ثقافة الانتحار" لوصف انتشاره المفزع في مقاطعة "كيبيك" الكندية، وخاصة بين من تتراوح أعمارهم ما بين 15 و19 عاما، وفي معرض مقارنتها بين كندا والدول الآخرى، والتي بلغت في بلد مثل السويد حد قيام شركات سياحية بالترويج عبر الإعلام ل "سياحة الانتحار" عبر العديد من الطرق التي توفرها للمنتحرين ، تتضمن توفير تأشيرة الدخول والإشراف علي الانتحار وتسهيله ، مع خدمة التخلص من الجثة وفق رغبة المنتحر .. مما دفع برلمانيين للمطالبة بمنع هذه الظاهرة الجديدة ورفض إعطاء تأشيرات دخول للمنتحرين !.. لاحظت لوران على حد قولها"أن المنتمين إلى مجموعات ثقافية أخرى متعددة الإثنيات مثل الشباب العرب والمسلمين من الجنسين خارج ثقافة الانتحار" ، وأكدت أن "الإحصاءات لا تشير إلا إلى عدد ضئيل من حالات الانتحار بينهم لا تكاد تذكر. وأرجعت ذلك إلى أن شباب العرب والمسلمين ربما يكونون محصنين بنظام مناعة عائلي مستقر وبروادع دينية وأخلاقية واجتماعية تجعلهم بمنأى عن التفكير في الانتحار" (الشرق الأوسط اللندنية 27 يناير 2005) . والحال أن "ثقافة الانتحار" لم يعرفها العالم العربي على سبيل المثال إلا في أوساط الجماعات "المترفة ثقافيا" ، وفي هذا السياق نشرت صحيفة النهار اللبنانية في 1 ديسمبر عام 2007 تحقيقا بعنوان " ثقافة الانتحار.. لماذا ينتحر المثقفون؟!" أحصت فيه انتحار ثمانية من كبار المثقفين والشعراء والأدباء العرب مثل الأديب والشاعر الأردني" تيسير سبول" عام 1973 وهو في الثلاثين من عمره، والقاص المصري "محمد رجائي عليش" عام 1979 والفنان التشكيلي السوري "لؤي كيالي" عام 1989، والكاتبة المصرية اليسارية الشهيرة " أروى صالح" عام 1997 ، والشاعر الكردي " مصطفى محمد" الذي انتحر في حلب عام 1979، وهو في عمر لا يتجاوز السابعة والعشرين، والشاعر اللبناني " خليل حاوي" عام 1982، والشاعر المصري" صالح الشرنوبي" عام 1951 ، والشاعر السوري "عبد الباسط الصوفي"! ومع ذلك تظل هذه الحالات "استثناء" ولبعضها خصوصيته النفسية والاجتماعية والسياسية التي لا يجوز لي عنقها لكي يصاغ منها "قاعدة" تنسحب على المشهد الثقافي العربي إجمالا، أو توظيفها دعائيا للإساءة للمثقف العربي واعتباره "داعية موت" يؤسس ل"ثقافة الانتحار". واستنادا إلى ما سلف فإن "صناعة الموت" أو "ثقافة الانتحار" لا يمكن أن تكون سليلة "الثقافة الإسلامية" ، التي تدين "الانتحار" وتنزله منزلة "الكفر" وتعلي من قيمة الحياة {مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِى إِسْرٰءيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِى ٱلأرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ٱلنَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَٰهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا بِٱلّبَيّنَٰتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مّنْهُمْ بَعْدَ ذٰلِكَ فِى ٱلأرْضِ لَمُسْرِفُونَ } [المائدة 32]. غير أن ثمة اتجاها الآن يتسلل إلى الإعلام بلطف ويتمترس فيه، شاء أن يدلف مثل هذا المصطلح إلى العالم الإسلامي، ونقله إلى دائرة الضوء الإعلامي لتضخيمه وإنزاله منزلة "الظاهرة"، وهو الاتجاه الذي كان متزامنا مع حروب الغرب في أفغانستان والعراق والشيشان والانتفاضة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، محاولا توظيف عمليات القاعدة الانتحارية والعشوائية والتي لا تفرق بين مدني وعسكري ل"الشوشرة" على المقاومة "المشروعة" التي تستهدف قوى الاحتلال، والخلط بين "الانتحاريين " في الأولى و"الاستشهاديين" في الثانية، بهدف "إدانة المقاومة" والإساءة إليها، ومن خلال تسويق "خرافة" الربط بين الإسلام كثقافة وبين عمليات القاعدة الانتحارية التي لا ثقافة ولا مرجعية لها إلا الرغبة في تدمير الذات والآخر معا.