بادرت السلطة القيام بانقلاب في 16 تشرين الثاني نوفمبر، فأبعدت ثلاثة من أعضاء مجلس الثورة وهم: بابكر النور وفاروق حمد الله وهاشم العطا، وسرحت عدداً من الضباط الديموقراطيين من القوات المسلحة، واعتقلت عبدالخالق محجوب وعزالدين علي عامر. وجاء في تقرير السكرتارية المركزية 1996 وصفا لاعتقال عبدالخالق: "اقتيد عبدالخالق الى القيادة العامة، وهناك وجد نفسه أمام اجتماع لمجلس الثورة، أشبه بالمحكمة العسكرية، برئاسة نميري الذي وجه لعبدالخالق قائمة اتهامات شملت معارضة ثورة مايو ووضع العراقيل في طريقها قبل وبعد انتصارها، معارضة ضرب الجزيرة أبا، معارضة التأميم والمصادرة، معارضة ميثاق طرابلس... الخ. وأبلغ نميري عبدالخالق بقرار مجلس الثورة باعتقاله، وقال له انك لن ترى الشمس بعد اليوم. ثم طلب مأمون عوض أبو زيد من عبدالخالق أن يكشف لمجلس الثورة ما لديه من معلومات عن مؤسسات وممتلكات الحزب، فزجره عبدالخالق بقوله: يسهل على لساني أن يقطع من أن يكشف أسرار الحزب. وبدأ أبو القاسم محمد ابراهيم حديثاً سوقياً مبتذلاً تجاهله عبدالخالق. ويقول التقرير: "وضع عبدالخالق في السجن الحربي القديم المهجور مكان قصر الشباب والأطفال الحالي. وفي اليوم التالي لاعتقاله أصيب بنزلة حادة وساءت صحته، فزاره المرحوم النقيب طبيب عبدالرحمن الدرديري وأسعفه ببعض الأدوية، وطلب نقله فوراً للمستشفى، وعندما رفض طلبه، أصر على نقله لأي مكان آخر تتوفر فيه ظروف صحية، وهدد بنشر حقيقة حالة عبدالخالق ومكان اعتقاله للناس. وعلى اثر ذلك نقل عبدالخالق الى الحبس الانفرادي بمصنع الذخيرة ومنعت عنه الزيارة والصحف والكتب والمذياع، وصدرت الأوامر لجنود الحراسة بعدم التحدث معه". وقال تقرير السكرتارية المركزية ان البيان الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية مساء يوم الانقلاب كان سليما في وجهته العامة من حيث طبيعة الانقلاب وتوجهاته وأهدافه، وكونه تتويجاً لخطوات محسوبة في منهج السلطة لفرض وصايتها على الحركة الجماهيرية. وكان البيان واضحاً وقاطعاً في تأكيد بقاء الحزب، وتأكيد الدفاع عن عبدالخالق محجوب قائداً مناضلاً للحزب، وتوحيد مجموعة الحزب في موقف امتاز بقدر عال من الشجاعة والاستعداد لمواجهة السلطة التي كانت تتوهم أنها بمساعدة الجماعة اليمينية المنشقة ستقضي على الحزب الشيوعي بعد اعتقال عبدالخالق. ويستمر التقرير: "رغم ذلك، شاب عملنا القيادي في تلك الفترة، بعض مظاهر القصور والغموض، وتركت آثارها السلبية على تطور الحركة الجماهيرية، وعلى وضوح مواقف الحزب وسطها في الفترة اللاحقة. صحيح ان اللجنة المركزية تجاوزت بعض مواطن القصور، وأزالت بعض الغموض في وثائق دوراتها اللاحقة، لكن الآثار السلبية ظلت باقية". ثم حددت أوجه القصور والغموض في الآتي: 1- لم تمنع اعتقال عبدالخالق، وكان ذلك ممكناً في تلك الظروف سياسياً وجماهيرياً. وكانت نوايا السلطة لتعطيل دوره القيادي معروفة منذ اعتقاله الأول، سواء بتوجيه ضربات للحزب في شخصه أو تصفية دوره السياسي والفكري أو تصفيته جسدياً. 2- لم يوضح بيان اللجنة المركزية للجماهير ان الانقلاب حسم الصراع داخل مجلس الثورة والقوات المسلحة لصالح شريحة القوميين العرب وتنظيمها العسكري - أحرار أيار مايو - وهي أضعف مجموعة عسكرية سياسية في القوات المسلحة على رغم سيطرتها على المواقع الأساسية في السلطة وفي قيادة الجيش. وضعف هذه الشريحة مع الانقلاب فتح الطريق أمام نميري للانفراد بالسلطة استناداً الى دعم العناصر العسكرية المحافظة. 3- المطالبة بالغاء اجراءات الانقلاب لم يكن واقعياً من الناحية العملية، لأنه يفترض الغاء الانقلاب نفسه، كموقف متكامل لقوى اجتماعية ذات مصالح، وكبرنامج سياسي اجتماعي لفئات البرجوازية الصغيرة العسكرية والمدنية وتطلعاتها الرأسمالية لفرض سيادتها السياسية والاقتصادية بواسطة مواقع السلطة وجهاز الدولة والقطاع العام للتراكم الرأسمالي، واستخدام شعارات الاشتراكية والتغيير الاجتماعي والحسم الثوري والشرعية الثورية كغطاء ايديولوجي لتزييف وتغبيش وعي الجماهير. فلم يرق البيان لمستوى الوضوح القاطع بطبيعة السلطة بعد الانقلاب. فلم يكن الانقلاب قراراً خاطئاً وانما كان موقفاً اجتماعياً وسياسياً متكاملاً. 4- ما عاد برنامج العمل الذي طرحته دور اللجنة المركزية في تشرين الأول اكتوبر ملائماً لظروف ما بعد الانقلاب. كان لا بد من برنامج عمل يتمشى مع الوضع السياسي الجديد. فلم تتخذ اللجنة المركزية قراراً واضحاً بالغائه أو تعديله. 5- لم تقف اللجنة المركزية عند سؤال مهم: لماذا تم الانقلاب بتلك السهولة وكأنه اجراء إداري عادي، على رغم ان الشواهد كلها تشير الى أن السلطة واجهت موقفاً صعباً داخل الجيش أجبرها أن ترفع حال الاستعداد الى درجتها القصوى لأكثر من أربعة أسابيع مع أنها هي التي دبرت الانقلاب؟ 6- لم يتم تقدير دقيق للوضع داخل الجيش قبل الانقلاب وبعده. ففي ظل أي سلطة عسكرية لا يستقيم أو يكتمل العمل السياسي من دون المتابعة الدقيقة للوضع في الجيش لأنه السند الرئيسي لتلك السلطة مهما تعددت واجهاتها المدنية السياسية أو اتسعت قاعدتها الشعبية. وكان الصراع السياسي داخل الجيش في تلك الفترة يدور بخطى ووتائر أسرع من الشارع، بدليل الانقلاب نفسه. ثم حدد التقرير القوى والتكتلات داخل الجيش في: القوميين العرب - تنظيمات القوى اليمينية - القوى العسكرية ذات الروح والتوجه المهني، وهي الغالبة - التنظيمات الاقليمية - القوات الموجودة في الجنوب - مجموعة الضباط الذين شملهم التطهير. ويقول التقرير ان ذلك التقصير كان مسؤولية قيادة الحزب وليست مسؤولية العسكريين. ونتج عنه أن نشاط التنظيم العسكري داخل الجيش سار في وجهة عامة مع خط الحزب من دون برنامج عمل محدد. وكان الحزب مواجهاً بأسبقيات اعادة تنظيم صفوفه بعد الانقسام. لذلك لم يطرح الحزب لا في تلك اللحظة أو في بقية الفترة فكرة انقلاب عسكري، لأن التقدير الدقيق للوضع داخل الجيش كان ضرورة سياسية لا يستقيم من دونه تقدير الوضع السياسي العام. 7- لم تتابع اللجنة المركزية بمثابرة تنفيذ قرارها بعقد مؤتمر شعبي ضد الانقلاب. وجاء في تقرير السكرتارية المركزية في معرض تناولها لسلبيات قيادة الحزب بعد انقلاب 16 تشرين الثاني: "وكان السؤال يزداد إلحاحاً كلما صدرت بيانات أو وثائق من قيادة الحزب تتحدث عن دور ونشاط القوى اليمينية داخل السلطة وخارجها في تعميم مبهم، دون ذكر الاتجاهات وتحديد الأسماء في مجلس الثورة أو الجيش أو الحركة السياسية. فنحن لم نركز على فضح نميري ودوره الذي أخذ يتبلور ويزداد وضوحاً مع الأيام كمدافع عن مصالح قوى اليمين الجديد الأكثر خطورة في تلك الفترة قوى الفئات الرأسمالية الطفيلية الجديدة الصاعدة من صفوف قيادات البرجوازية الصغيرة المدنية والعسكرية. لم نفضح بالقدر الكافي دور المرحوم عمر حاج موسى والمجموعات الملتفة حوله داخل الجيش وخارجه ودور منصور خالد كمستشارين وشركاء لنميري في تمهيد الطريق لنظام الحزب الواحد والجمهورية الرئاسية وحكم الفرد. وعلاقة كل ذلك بتوجهات القوى الخارجية". وشهدت الفترة بين تشرين الثاني 1970 الى تموز يوليو 1971 هجوماً مكثفاً على الحزب الشيوعي شنه نميري في عدة مناسبات. في 23 تشرين الثاني ألقى خطاباً في استاد الخطروم حرض فيه علناً على ضرب الشيوعيين وتمزيق الحزب. وفي نيسان ابريل أقيم مهرجان في ميدان سباق الخيل في الخرطوم شاركت فيه عدة قوى سياسية رأت أن فرصتها حانت لتصعيد الحملة ضد الشيوعيين الى ذروتها. واستنفر نميري الناس في ذلك المهرجان لضرب الشيوعيين. وأعقب الهجوم الخطابي المتلاحق اعتقال أعداد من كوادر الحزب في أيار مايو بقصد تعطيل نشاط الحزب في المنظمات الجماهيرية. واتهمت وثائق الحزب الشيوعي الانقساميين بتحريض السلطة على تلك الاعتقالات. وفي نهاية أيار 1971 أصدر الحزب الشيوعي بياناً جماهيرياً، هاجم فيه النظام وعدد مآسيه. كما قرر أن يقدم الوزراء الشيوعيون والمتعاطفون معهم استقالاتهم من مجلس الوزراء ويدخل الحزب في مواجهة مفتوحة مع النظام. وفي 29 حزيران يونيو 1971 تم تهريب عبدالخالق من معتقله في مصنع الذخيرة في الخرطوم. وكانت عملية جسورة دبرها العسكريون الشيوعيون. ووصفها صف الضابط الكودة الذي شارك فيها، ونشرها في كتاب أصدره عام 1991 بعد أن انفصل من الحزب الشيوعي. كما تناولت السكرتارية المركزية في تقريرها الذي نشر عام 1996 ظروف وملابسات الهروب. وانزعجت لها السلطة انزعاجاً مشحوناً بالهلع. فقامت بالمزيد من الاعتقالات لكوادر الحزب الذين يمكن أن يساعدوا في اختفاء عبدالخالق. وكان هاشم العطا أخذ عبدالخالق بعد هروبه مباشرة الى منزل عثمان أبو شيبة قائد الحرس الجمهوري، الذي يقع منزله داخل القصر الجمهوري. وبعد هروب عبدالخالق وصل الصراع بين الحزب والقوى الديموقراطية من جانب و"سلطة مايو" من جانب مرحلة اللاعودة. وأوردت سكرتارية اللجنة المركزية في تقريرها عام 1996 تلخيصاً لذلك الصراع فذكرت: "ورغم مواطن القصور والغموض التي شابت تكتيكات الحزب وبعض مواقفه، فانها في مجملها، شأن كل التكتيكات، أمسكت بالحلقة الرئيسية، وهي استنهاض الحركة الثورية خلف شعارات الثورة الوطنية الديموقراطية، وتوحيد قواها في الجبهة الوطنية الديموقراطية، والتوجه نحو آفاق السلطة الوطنية الديموقراطية. وإذا قصرت تكتيكات الحزب عن تحديد الأداة للوصول للسلطة الوطنية الديموقراطية، فانها قطعاً لم تطرح الانقلاب أداة. وإذا كانت مواقف الحزب ونشاطه ودعايته، الى جانب الظروف الموضوعية الأخرى، قد أفرزت داخل الجيش قوة عسكرية ضاربة، فإن الحزب لم يبادر ويطرح أمامها مهمة تحضير وتنفيذ انقلاب". * كاتب سوداني