وصفتها وزيرة الخارجية الأميركية مادلين أولبرايت بأنها حرب المستقبل، وهي الحرب بين الولاياتالمتحدة والجماعات الإسلامية المتطرفة، بأساليب غير تقليدية تخرج عن نطاق القانون الدولي وتخلو من التفريق الواضح بين الأهداف المدنية والعسكرية. وإذا صح هذا الوصف، فهو يستحق وقفة لبحث الأسئلة الاخلاقية التي تطرحها هذه المواجهات، بعيداً عن ردود الفعل والمواقف المحفوظة من إدانة وتأييد. تتطلب هذه الوقفة أن نتخلص من التفسيرات السطحية التي تعلل السياسة الأميركية في هذه المواجهة بأنها تابعة لمأزق البيت الأبيض، وتحديداً مغامرات الرئيس بيل كلينتون الجنسية، مهما كان من حماسة كثير من المعلقين لإيهام أنفسم وقرائهم بأن الغارات الأميركية على السودان وأفغانستان ليست إلا محاولة لتحويل الأنظار عن تلك الفضائح. أولاً، هناك دائماً علاقة وثيقة بين السياستين الداخلية والخارجية لأي دولة، خصوصاً دولة ذات مصالح متعددة متشابكة مثل الولاياتالمتحدة، سواء كان العنصر الداخلي المؤثر هو فضيحة ووترغيت عندما زار ريتشارد نيكسون الصين الشيوعية، أو انتخابات دورية تحتاج لتأييد اليهود أو اليونان أو الايرلنديين الأميركيين، أو فضيحة إيران غيت في عهد رونالد ريغان ومسارعته إلى احتلال جزيرة غرانادا. إذن ليس في الربط بين احتياجات السياستين الداخلية والخارجية من جديد. ويصح ذلك الربط لو نظرنا في سياسة كل دولة. لكن هذا الربط لا يكفي اطلاقاً لتفسير المواقف المهمة في السياسة الخارجية، خصوصاً لدولة مثل الولاياتالمتحدة لها، كما أسلفنا، مصالح معقدة متشابكة. والمحزن أن فضيحة البيت الأبيض الراهنة، لأنها تثير الهذر والسخرية، أصبحت ملجأ سهلاً لتجنب التأمل العقلاني في المواجهة بين أميركا والتطرف العنيف في جماعات إسلامية. لننس، ولو موقتاً، أن هناك امرأة اسمها مونيكا لوينسكي. لو فعلنا ذلك، لوجدنا أن كل ما حدث في الأسابيع الماضية كان سيحدث تماماً كما وقع، أي أن نسف سفارتين أميركيتين في افريقيا، وتحقق الاستخبارات من مصدر القرار في الأمر، سيقود إلى رد أميركي عنيف وسريع ومن بعيد. هذا هو الوضع الذي يواجهنا الآن، فكيف ننظر إليه من دون التهرب إلى مهاترات الحديث عن الآنسة لوينسكي؟ يستمع المرء إلى الإدانة السريعة، ونكاد نقول الاوتوماتيكية، للرد الأميركي، ولا يكاد يجد أي تقييم متكامل للحرب القذرة نفسها، والتي تشتعل في مصر والجزائر وأراضٍ أخرى كثيرة، في كل منها تقف الدولة ومؤسساتها في معسكر والجماعات الارهابية في معسكر، والضحايا المدنيون في الوسط. ما هي الوسائل المقبولة والمرفوضة في هذه الحرب. من منطلق اخلاقي أولاً، وهو ما يعنينا هنا، أو حتى من منطلق عملي، أي ما هو مفيد تكتيكياً واستراتيجياً، وما هو مجرد بعثرة للجهد وأرواح البشر من دون نتيجة؟ لا نزال نتهرب، نحن العرب، من طرح هذه الأسئلة لأننا فشلنا حتى الآن في تطوير نقاش عقلاني، أخلاقي، مبدئي، لمفهوم الحرب ووسائلها وما هو مقبول فيها ومرفوض. نقاش من هذا النوع يحتاج إلى شجاعة في مواجهة الذات، وقدرة على التعبير عن الرأي بخلافل ما هو شائع جماهيرياً أو مفروض من السلطة، ونحن لا نزال نفتقر إلى هذه الشجاعة. لذلك تظل المواقف العربية، الرسمية والجماهيرية، مهتزة بين الإدانة الشكلية والعنتريات الكاذبة، بين السكوت على جرائم يرتكبها مهووسون تارة باسم العروبة وتارة أخرى باسم الإسلام، وإدانة كل من يتعرض لعربي أو مسلم بصرف النظر عن التفاصيل والظروف. الأصلح بدلاً من ذلك الحديث في مواقف مبدئية تنبع من ثوابت أخلاقية لا تعصب أعمى لكل من ولد عربياً أو مسلماً. نحن لا نفترض صحة المعلومات الاستخبارية الأميركية التي وجهت أصابع الاتهام إلى السودان وأفغانستان، لكننا نقول بصراحة أيضاً إننا لا نثق بتصريحات الحكومة السودانية أو الأفغانية عن قدرتهما أو رغبتهما في ضبط من يقوم بأعمال العنف ضد المدنيين، وهذا تحفظ مهم لأنه يمس جوهر السؤال الذي نبحث فيه. السؤال هو، ما هي الظروف التي تبرر قتل المدنيين الأبرياء، أي الذين مهما كانت جنسيتهم لا دور مباشر لهم في أي نزاع عسكري قائم سواء كان حرباً معلنة أو غير معلنة؟ وحتى يكون النقاش أخلاقياً يجب الإقرار مبدئياً أن السؤال، والرد عليه، لا بد أن ينطبق بأكبر قدر من الصرامة على أي مدني في أي طرف. ونحن هنا نرى السقوط الاخلاقي لمن يؤيد انتقائياً أعمال العنف البشعة ضد المدنيين أو يخفف من أهميتها ويتلمس الأعذار لها وفقاً لهوية الجاني والمجني عليه. عندما نتحدث عن إدانة قتل المدنيين يستوي في ذلك سلاح الجو الإسرائيلي في قانا وانصار أسامة بن لادن في نيروبي إن صح أنه وراء تلك العملية. ويستوي في ذلك من يضع قنبلة في سوق يهودية في القدس، أو في كنيس يهودي في الأرجنتين، ومن يهاجم قرية في الجزائر ويذبح سكانها ليلقن درساً لمن بقي على قيد الحياة، أو يقتل جمعاً من الأقباط في صعيد مصر، أو يطلق النار من مدفع رشاش على مصلين مسلمين في الحرم الإبراهيمي الشريف في الخليل. كلها أعمال مرفوضة، لا لأن الضحية في حادث ما هي "من جماعتنا" ولكن لأن القتل العشوائي للمدنيين مرفوض مبدئياً وأخلاقياً بصرف النظر عن التفاصيل، ويستحق أقسى الإدانة وأقسى العقوبة إن كان متعمداً. وأسوأ من ذلك ان كان يستهدف ضحايا لا يميزهم سوى انتمائهم لأمة أو ملة أو عرق. قتل المدنيين خطأ في سياق أعمال عسكرية مرفوض كذلك ويستحق الإدانة، ويستحق على أقل تقدير إقراراً بالذنب واعتذاراً وتبريراً ولو شكلياً، لكنه ليس موضع حديثنا هنا. معظم الضحايا في نيروبي نساء افريقيات كن في مدرسة سكرتاريا مجاورة للسفارة، أو عابرو طريق في المنطقة المجاورة، ونحن لم نسمع اعتذاراً بعد من الجناة، ولا محاولة لتبرير أفعالهم. إذا كانوا يريدون شن حرب على أميركا، فمن حقنا، ومن حق أقارب الضحايا الافارقة، أن نسأل وأن نعرف بالضبط كيف يقود قتل بنات كينيا وتفجير مبنى سفارة تافهة استراتيجياً إلى الحاق الهزيمة، أو الضرر على الأقل بأكبر قوة في العالم، وهل من سوابق تثبت ذلك، أم ان حكم العقل في هذه المسائل غير ضروري طالما ان المتنكبين لمهمة القتال هذه عينوا أنفسهم أوصياء على ضمائر البشرية وناطقين باسم الدين وفوق كل حساب دنيوي، وراحوا يطلقون الفتاوى يمنة ويسرة؟ ومن المفيد في نقاش كهذا أن نشير فعلاً إلى السوابق، فأعمال العنف والارهاب ليست جديدة في أرضنا، ومن المخزي اننا نظل نفتقر إلى اجماع اخلاقي واضح على هذه المسائل، إذ يكفي أن يتشدق مدع لايديولوجية ما، علمانية أو دينية، بأنه مناضل أو مجاهد يقتل باسم عقيدته، حتى يخيم الصمت ويصبح رفض هذه الادعاءات نوعاً من الخيانة أو الكفر. وحتى نكون واضحين، نقول إن من الصعب جداً إصدار الأحكام الاخلاقية في هذه المواجهات، لكن الصعوبة لا تشفع للصمت أمام الجرائم. من وجهة نظرنا مثلاً أن قتل مستوطن يهودي، أو مجند إسرائيلي، يختلف عن وضع متفجرة في منطقة تجارية أو اطلاق النار في باص يحمل بنات مدرسة. المستوطن يمارس مختاراً الإقامة في مستوطنة يهودية فعل اعتداء على حقوق الفلسطينيين في تلك الأرض ذاتها، وهو غير قادر على ذلك لولا السلاح الذي يحمله، فإذن هو محارب ولو قتل وهو في طريقه إلى المعبد. أما المتفجرة في حي تجاري، ولو قتلت المستوطن ذاته ومعه المجند، فهي عمل مرفوض لأن هدف المتفجرة عشوائي يفترض إصابة ضحايا لا يجمعهم سوى صدفة وجودهم في مكان ما في لحظة معينة، وأنهم يهود، ونحن نرفض مقولة ان مجرد وجود يهودي في فلسطين هو فعل اعتداء لا يختلف عن وجود المستوطن، لأن مرور الزمن وكثرة العدد جعلا من غير المقبول اخلاقياً توقع أو طلب إلغاء وجود اليهود في فلسطين، ومعظمهم قد ولد أو نشأ هناك. وإذن أصبحت حدود المواجهة مع الإسرائيليين هي قضايا التعايش والحدود والحقوق الوطنية والمدنية، وليست محاولة إلغاء وجودهم. هذه اجتهادات قد تصيب أو تخطئ، وقد تلقى رضا أو اعتراضاً، لكنها محاولة أمينة لاستخدام العقل والضمير لتقييم أعمال البشر واستنباط ما هو صواب من دون إكراه، وتطبيقه من دون إلتواء. وكذلك من يريد شن حرب على أميركا، أو من يؤيد هذه الحرب ويرى أن طريقها تبدأ من نيروبي، عليه أن يحترم عقولنا وضمائرنا ويقنعنا بأن في هذه الجهود محاولة مشرفة لن يخجل منها تاريخنا. إن سهولة القيام بأعمال العنف، نتيجة انتشار الأسلحة والمعلومات والتكنولوجيا وسرعة التنقل، تجعل أعمال الارهاب هي فعلاً الطابع المخيم في كثير من حروب المستقبل. هذا يفرض على كل واحد منا النظر في ضميره والبحث عن موقف اخلاقي لا يتغير بتغير هوية القاتل والمقتول. ثم هناك، بعد التقويم الاخلاقي، التقويم العقلاني العملي لما هو مفيد أو معقول، ولو استخدمنا نموذج المجند الإسرائيلي مرة أخرى، فإننا نضيف اجتهادنا ان قتل هذا المجند، وإن كان له تبرير أخلاقي، فإنه غباء سياسي في هذه اللحظة، لأنه لا يحقق للفلسطينيين فائدة تذكر، فهو يزيد تطرف العدو ومعاناة الفلسطينيين تحت العقوبات الإسرائيلية ويضعف هيبة السلطة الفلسطينية. كذلك الهجوم على الأهداف الأميركية أينما كانت، إذا فرضنا جدلاً ان هناك حجة اخلاقية تبرر ذلك وأن الأهداف مشروعة لأنها حكومية، وأن الضحايا المدنية غير مقصودة، يظل السؤال العملي هو ما إذا كانت هذه العمليات أفلحت يوماً، أو يمكن أن تفلح، في تغيير سياسة دولة عظمى. هذا سؤال معقد لا تمكن الاجابة الكاملة عليه هنا، لكننا لا نظن ان هناك سابقة في التاريخ نجح فيها الارهاب في تغيير سياسة دولة ما، ان في المجال الداخلي أو الخارجي. أما إذا كان الهدف ليس تغيير السياسة، كما يدعي الارهابيون، بل القتل لمجرد القتل، لأنهم يرون في أنفسهم قضاة وجلادين برخصة ربانية، نكون قد عدنا إلى نقطة البداية، وهي مسألة الحلال والحرام في القتل المتعمد باسم قضية سياسية أو مبدأ. لا يغير من هذه التساؤلات أن الطرف الآخر يقوم أو قام يوماً بما هو أسوأ، وأنه يرتكب جرائم وفظائع لا تحصى. ولا يغير هذه القناعة ان ثورة الغضب والرد على الظلم قد تدفع إلى طلب الثأر والانتقام رداً على اعتداء حقيقي أو وهمي، يجب ان يظل في كل أمة، مهما اشتدت الظروف، صوت للشرف والضمير والعقل، يرفض الانسياق وراء عواطف اللحظة والتعصب القومي أو الديني. إنها أصوات لا تزال غائبة، إلى حد كبير، عن الخطاب السياسي العربي. * كاتبة سياسية عربية، الولايات المتحدة