حين حكمت محاكم عبدالكريم قاسم في كانون الاول ديسمبر 1958 على رشيد عالي الكيلاني بالاعدام بتهمة التآمر لقلب نظام الحكم الثوري، هل كانت مقتنعة بأنه مذنب حقاً ام ان كل ما في الامر هو ان الكيلاني، بسبب شعبيته وتاريخه كان شخصاً يجب التخلص منه لما يشكل من "خطر محتمل" وليس من "خطر حقيقي واقع" على النظام الجمهوري المستتب حديثاً؟ سؤال ليس من السهل الاجابة عنه، تأكيداً او نفياً، من ناحية لأن المحاكم الثورية في تلك الايام كانت تتخبط خبط عشواء. شبهة واحدة كانت تكفي دليلاً اتهامياً قاطعاً، ونظرة حنان من الحاكم تكفي دليل براءة لا شك فيه. ومن ناحية ثانية لأن الكيلاني كان ذا سمعة انقلابية حاسمة، بل السمعة الانقلابية الاكثر رسوخاً في طول العالم العربي وعرضه، على الرغم من ان انقلابه الشهير كان الاقصر عمراً، في زمن شديد الدقة. انقلاب رشيد عالي الكيلاني في ربيع العام 1941 في العراق كان ولا يزال واحداً من الانقلابات التي تثير الاسئلة كما تثير تعابير من نوع "لو انه نجح!"، "لو قيض له ان يدوم!" والحال ان عرباً كثيرين في ذلك الحين رأوا في انقلاب رشيد عالي الكيلاني نقطة ضوء في مسار النفق الطويل الذي مثله ليل الاستعمار البريطاني، ثم لا يهم بعد ذلك ان يكون الانقلاب، مرتبطاً بشكل او بآخر بألمانيا النازية. فألمانيا النازية وزعيمها هتلر كانا يحظيان بتأييد عشرات ملايين العرب في ذلك الحين. ولو فقط نكاية ببريطانيا. مع هذا حين توفي رشيد عالي الكيلاني في بيروت يوم 28 آب 1965، احتاج الامر اجراءات وتدخلات حتى يدفن في بغداد، المدينة التي احب وكان جدوده من نقباء الاشراف فيها. وذلكم هو، على اي حال، قدر العديد من رجال السياسة العرب، من الذين اعتادت عواصم اخرى، بيروت مثلاً، ان تشهد نهاياتهم بعيداً عن اوطانهم، هذا اذا لم تشهد تلك النهاية سجون الاوطان نفسها. وكان مقدراً للكيلاني ان يموت في سجن عراقي، لولا ان أعفي عنه وأطلق سراحه في 14 تموز يوليو 1961… خلال الحكم الثوري الذي كان هو نفسه قد حكم عليه بالاعدام. ولد رشيد عالي الكيلاني في العاصمة العراقية في العام 1892 ونال شهادة مدرسة الحقوق فيها، ما مكّنه من ان يزاول العديد من الوظائف الحكومية والادارية باكراً، في الموصل خاصة، وعاد منها الى بغداد ليزاول المحاماة ويدرس الحقوق قبل ان يتم اختياره وزيراً للعدل في حكومة ياسين الهاشمي الاولى، وكانت تلك بداية عمله السياسي حيث تقلّب بعد ذلك في العديد من الحكومات وانتخب نائباً عن بغداد والكوت. وهو تحول الى زعامة المعارضة عند بدايات العام 1931. لكنه سرعان ما عاد الى الحكم من جديد حيث عيّن رئيساً للديوان الملكي في صيف 1932، فرئيساً للحكومة بعد شهور من ذلك آذار/ مارس 1933. وإثر وفاة الملك فيصل الاول شكّل حكومة جديدة لم تدم سوى ثلاثة اشهر عيّن بعدها عضواً في مجلس الاعيان فوزيراً من جديد في حكومة هاشمية ثانية. وعند وقوع انقلاب الفريق بكر صدقي، هرب بين الهاربين وتنقل بين سورية ولبنان، حتى اغتيل صدقي فعاد الى بغداد، ليتقلّب في مناصب وزارية عدة، اوصلته الى رئاسة الحكومة من جديد في اذار 1940. وفي تلك الاثناء كانت خلافاته مع الانكليز في ازدياد، وكانت الحرب العالمية الثانية في استعارها فتحت العديد من الاحتمالات امام المواطنين العرب، وهكذا نراه في ربيع العام 1941 يقوم بحركته الانقلابية ضد الانكليز، وهي الحركة التي كان لها صدى كبير في طول العالم العربي وعرضه، لكن الحركة سرعان ما انهزمت، حيث تحرك الانكليز وتحركت معهم القوى المناوئة للكيلاني داخل الحكم العراقي. وهكذا كان لا بد للكيلاني من ان يبارح العراق بعد ان ايقن ان صراعه ضد الامبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس بريطانيا خاسر لا محالة، فتوجه الى ايران ومنها الى تركيا، ثم الى برلين لاجئاً، على غرار المفتي امين الحسيني الذي كان زميله، وخصمه اللدود، في المنفى الألماني. بعد انتهاء الحرب التجأ الكيلاني الى السعودية ومنها انتقل الى مصر في العام 1953. بعد ثورة تموز يوليو 1958 عاد الكيلاني الى بغداد متحمساً، لكنه سرعان ما اعتقل بتهمة التآمر لقلب نظام الحكم، وكانت تلك بداية نهايته السياسية. بقي ان نذكر ان الكيلاني - وحسب المؤرخ مير بصري - كتب مذكرات لم تُطبع بعد.