الوصفة التي تكررت في أكثر من قطر عربي، كيف يمكن أن تأخذ بلداً أخذ يشق طريقه في معدلات النمو والبناء إلى حالة من الاضطراب والصراع الدامي تحت تأثير وسيطرة الشعارات الفارغة من أي مضمون حقيقي أو جاد؟. «حقاً ما أسهل التخريب!.. وما أصعب البناء!». كانت تلك الجملة الأخيرة التي ختم بها السفير الأمريكي «والدمار غلمن» آخر سفير أميركي في العراق الملكي، والذي عمل في العراق منذ العام 1954 وحتى انقلاب 14 تموز في العام 1958. مذكرات «والدمار»، والتي ترجمها مجيد خدوري تحت عنوان «نوري باشا السعيد.. كما عرفته»، لا تخلو من إشارات مهمة يكشف عنها السفير الأميركي في تلك المرحلة المضطربة من عمر العراق. تكشف تلك المذكرات عن سمات شخصية نوري السعيد، السياسي العراقي الأبرز، ورئيس الوزراء الأكثر سلطة وشهرة ونفوذاً وقوة في عصر العراق الملكي.. والذي تولى رئاسة الحكومة العراقية إبان العهد الملكي عدة مرات، وكان آخرها أثناء انقلاب 14تموز 1958. يظهر في هذه المذكرات نوري السعيد كشخصية عربية نضالية بدأت مسيرتها منذ بواكير الثورة العربية ضد السلطنة العثمانية أثناء الحرب العالمية الأولى. ولد نوري السعيد في بغداد 1888م. والده كان موظفاً مدنياً يعمل في خدمة الحكومة التركية في بغداد. التحق نوري في سن مبكر بالكلية العسكرية بإستانبول، وتخرج ضابطاً في العام 1906. وفي العام 1910 استدعي لاستكمال دراسته في كلية الأركان، وشارك في الحملة الموجهة ضد البلغار في حرب البلقان. بين عامي 1913- 1914 انضم لجمعية «العهد»، وكانت الجمعية تعمل للحصول على الحكم الذاتي للعرب داخل الامبراطورية التركية.. إلا أنه عند اندلاع الحرب العالمية الأولى اختفى نوري من إستانبول، ليلتحق بما سمي فيما بعد بالثورة العربية الكبرى. شارك نوري السعيد مشاركة فعالة في بناء العراق الملكي الذي أعلن عنه في العام 1921. وقضى شطراً كبيراً من سنوات ما بعد التأسيس مركزاً جهوده في بناء الجيش العراقي، وتأمين وسائل التدريب وتنظيم وزارة الدفاع، وكان خلال تلك السنوات يشغل منصب وزير الدفاع، وإليه يرجع الفضل في تأسيس كلية الأركان في العراق سنة 1921. إلا أن أبرز إنجازاته كما يراها السفير الأميركي «والدمار غملن»، دوره في المباحثات التي أدت إلى إنهاء الانتداب البريطاني، وإلى دخول العراق عصبة الأمم، وكان هو المسؤول بصورة خاصة أكثر من أي شخص آخر عن إنهاء معاهدة الحماية البريطانية سنة 1930، وكذلك تنظيم علاقات البلدين على أسس أكثر واقعية.. وكان يطالب مراراً في اجتماعات اللجنة الاستشارية للجماعة العربية بقومية عربية صميمة وبنّاءة. أما داخلياً، وفي وزارة 1931 التي كان يرأسها، فقد أعلن عن خطة الأعمال الرئيسة للإعمار، التي سبقت مجلس الإعمار الذي حقق للعراق في تلك الفترة الكثير من الإنجازات التي كان يمكن أن تتعاظم وتمتد بالعراق لأفق غير محدود. استعيد كل هذا، بعد عقود طويلة على رحيل نوري السعيد المأسوي. بل وطيّ صفحة العراق الملكي الدستوري، الذي كان يمكن أن يكون من أعظم وأغني وأقوى البلدان العربية. لقد شُوهت شخصية نوري السعيد بدعائيات الصخب وإثارة الرعاع والدعاية الإعلامية الواسعة التي كانت تستهدف الملكية في العراق. الصراع الدولي على العراق والدور الدعائي الكبير الذي وظفه نظام عبدالناصر بفاعلية منذ العام 1956.. ناهيك عن النشاط الكبير للحزب الشيوعي العراقي حينذاك.. كل هذا كان له تأثيره الكبير في تهييج الشارع العراقي. وأخذت تظهر داخل الجيش العراقي اتجاهات سياسية تعمل في الخفاء، ليقوم تنظيم محدود في الجيش العراقي عشية 13 تموز 1958، بعملية استهدفت الأسرة الملكية، حيث قتل جميع أفرادها في قصر الرحاب، ثم مطاردة الصيد الثمين نوري السعيد الذي لم يكن يُقلق الانقلابيين أكثر من بقائه على قيد الحياة. حاول نوري السعيد أن يتخفى في محاولة للوصول إلى موقع يقوى فيه على مواجهة الانقلابيين كما فعل في العام 1941 إبان حركة رشيد عالي الكيلاني. الرجل السبعيني كان لايزال يملك من القدرة والقوة ما يمكن أن يحبط ذلك الانقلاب، إلا أن إثارة الشارع على نحو غير مسبوق، والإعلان عن جائزة كبرى لمن يدلى بمعلومات تقود للقبض على نوري السعيد، وسيطرة الرعاع الهائج على الشارع العراقي منذ الساعات الأولى للانقلاب مكنت من ملاحقة نوري السعيد، قبل أن يخرج من بغداد. وهو الذي لم يستسلم بل قاوم، وعندما حوصر تبادل مع ملاحقيه إطلاق النار، وعندما أدرك أنه واقع لا محالة.. أنهى حياته بيده. مات نوري السعيد، ولم يترك لأهله أي مال أو تركة وقد قامت الحكومة البريطانية بتخصيص مبلغ صغير لزوجته بالكاد يكفي لسد رمقها، وذلك في مطلع الثمانينات من القرن الماضي.. المقارنة بين مرحلتين وشخصيات مرحلتين ستكشف إلى أين كان يمكن أن يمضي العراق. ثار الصراع بين شركاء الانقلاب الدموي.. لتتوالى على العراق فصول من الويلات. مأساة تجسدت في أكثر من بلد عربي. الوصفة التي تكررت في أكثر من قطر عربي: كيف يمكن أن تأخذ بلداً أخذ يشق طريقه في معدلات النمو والبناء إلى حالة من الاضطراب والصراع الدامي تحت تأثير وسيطرة الشعارات الفارغة من أي مضمون حقيقي أو جاد؟. يعلق السفير الأميركي على بعض إنجازات الانقلاب بعد العام الثالث بقوله: «إن افتتاح بضعة محطات بنزين وساحات ألعاب وكازيونات، قد تزيد الحياة متعة، ولكن شتان بينها وبين سدود الثرثار والرمادي..» ويشير بهذا إلى مشروع الإعمار في عهد نوري السعيد. Your browser does not support the video tag.