حين أطلّت في ظلّ الأعمدة الستّة في معبد جوبيتر الشهير في قلعة بعلبك ارتفع التصفيق وانهالت الهتافات. لم تشأ فيروز ان تطلّ من دون أن تحيّي الغائب الأكبر عن القلعة ولياليها اللبنانية عاصي الرحباني وحيّته كما لو أنّه حاضر، كما لو أنّ طيفه لم يغادر أدراج القلعة. وأمس مساء كانت الليلة الأولى من "الليالي اللبنانية" التي تحييها المطربة فيروز متعاونة مع منصور الرحباني ويشاركهما بعض الفنانين الذين طالما شاركوهما في السابق ومن بينهم أنطوان كرباج وإيلي شويري... وأطلّت فيروز في ثلاث لوحات اختيرت من ثلاث مسرحيات قديمة هي: "جسر القمر" 1962، "جبال الصوّان" 1969، "ناطورة المفاتيح" 1972 فغنّت ومثّلت وحاورت وبدا حضورها لطيفاً جداً وحيّاً وكذلك صوتها الذي أنعش ليل بعلبك الطلق وحفر في قلوب الحاضرين ذكريات هي ربّما الأجمل. استهلّت الليلة الأولى بأغنية جميلة أنشدت فيها بعلبك القلعة الأثرية العظيمة وقالت: "بعلبك أنا شمعة على دراجك" ثم انتقلت إلى شخصية الصبية في "جسر القمر" فأدتها بطرافة وكانت فعلاً تلك الصبية المسحورة والمأسورة في ماء النهر ولم يخلّصها سوى عودة المحبة إلى أهل الحارتين المتخاصمتين. وبدت فيروز في تلك الحواريات المغنّاة ساحرة كعادتها وغطّى صوتها الجديد صوتها السابق الذي رافقته الموسيقى المسجّلة. وفي لوحات "جبال الصوّان" أدت شخصية "غربة" الفتاة التي قُتِل والدها على بوابة المدينة لدى مقاومته جنود "فاتك" المتسلّط أنطوان كرباج وهي جاءت بعد غيبة لتحيي المقاومة وتواجه الحاكم الغريب وتنتصر وتموت بدورها على البوابة التي سقط والدها أمامها. أدت فيروز الحوار الذي دار بينها وبين أنطوان كرباج بصوت صافٍ ومجروح ومن خلاله أطلقت تلك الجملة الشهيرة "بدّنا نكمّل باللي بقيو". في اللوحات المنتقاة من "ناطورة المفاتيح" أطلّت فيروز في شخصية "زاد الخير" الشهيرة وقبالتها أنطوان كرباج في شخصية الحاكم المتسلّط والساذج. وكانت بحق حارسة المدينة التي يسلّمها المواطنون مفاتيح بيوتهم بعدما قرّروا هجر المدينة هرباً من ظلم الحاكم ومزاجه المتقلّب. وتبقى "زاد الخير" وحدها في المدينة لتواجه الحاكم وتنتصر عليه بالحيلة. وحين أدت فيروز أغنية "يا حريّة" حصل ما يشبه العاصفة بين الحاضرين وراحوا يهتفون ويردّدون: يا حريّة، يا حريّة... أما ختام الليلة فكان المفاجأة المنتظرة: ثلاث أغنيات جديدة واحدة من منصور الرحباني وثانية من الياس الرحباني وثالثة من زياد الرحباني. وقبل أن تؤدي فيروز أغنية منصور "آخر مرّة غنيتلك" قرأها منصور بصوته المتهدّج ثم غنتها فيروز بصوت ملؤه الحب والحنين. والأغنية وطنية تختمها مطربتنا بصرخة رائعة: "أنا بدّي عمّر وطني متل ما بدّي". أما أغنية الياس الرحباني فعاطفية وعنوانها "معك" وكان يكفي صوت فيروز ليمنحها بعداً آخر ودفئاً. وكان زياد كتب ولحّن ثلاث أغنيات سوف تتبادلها فيروز طوال الليالي الست وهي: "اشتقتلك" وفيها إيقاع خفيف من إيقاعات الدبكة، "سلّملي عليه" وهي قائمة على التخت الشرقي و"يا صبي" وفيها طرافة زياد الرحباني التي يألفها جمهوره كثيراً. ولم يغب عاصي الرحباني ولا فيلمون وهبي ونصري شمس الدين عن الليلة الرحبانية فحضروا جميعاً عبر ضوئيات ولقطات سينمائية ووثائقية بثت خلال اللوحات. أما الإخراج الذي تولاّه المخرج الإيطالي دانييلي أبادو فأشاع مناخاً جمالياً ساحراً ملؤه الأضواء والظلال. وأطلّت فيروز عبر اللعبة الإخراجية الجميلة كساحرة من ساحرات القصص خصوصاً في غمرة الليل البعلبكي الذي سطع قمره برتقالياً. والكلام عن "البلاي باك" الذي أشيع كثيراً قبل الليالي استطاعت فيروز أن تمحوه بإطلالتها الجميلة في بعلبك وان انتظرها الجمهور قرابة 25 عاماً. وأمس كانت ليلة فيروز في بعلبك، بل ليلة لبنان العائد من ذاكرة الغياب.