مركز الملك سلمان للإغاثة ينظّم منتدى الرياض الدولي الإنساني الرابع فبراير المقبل    بلسمي تُطلق حقبة جديدة من الرعاية الصحية الذكية في الرياض    وزارة الداخلية تواصل تعزيز الأمن والثقة بالخدمات الأمنية وخفض معدلات الجريمة    "مستشفى دلّه النخيل" يفوز بجائزة أفضل مركز للرعاية الصحية لأمراض القلب في السعودية 2024    وزارة الصحة توقّع مذكرات تفاهم مع "جلاكسو سميث كلاين" لتعزيز التعاون في الإمدادات الطبية والصحة العامة    أمانة جدة تضبط معمل مخبوزات وتصادر 1.9 طن من المواد الغذائية الفاسدة    نائب أمير مكة يفتتح غدًا الملتقى العلمي الأول "مآثر الشيخ عبدالله بن حميد -رحمه الله- وجهوده في الشؤون الدينية بالمسجد الحرام"    السعودية تستضيف الاجتماع الأول لمجلس وزراء الأمن السيبراني العرب    المياه الوطنية: خصصنا دليلًا إرشاديًا لتوثيق العدادات في موقعنا الرسمي    ارتفاع أسعار النفط إلى 73.20 دولار للبرميل    وزير العدل: مراجعة شاملة لنظام المحاماة وتطويره قريباً    سلمان بن سلطان يرعى أعمال «منتدى المدينة للاستثمار»    المملكة تؤكد حرصها على أمن واستقرار السودان    أمير الشرقية يرعى ورشة «تنامي» الرقمية    كأس العالم ورسم ملامح المستقبل    أمير نجران يدشن مركز القبول الموحد    رئيس جامعة الباحة يتفقد التنمية الرقمية    متعب بن مشعل يطلق ملتقى «لجان المسؤولية الاجتماعية»    وزير العدل: نمر بنقلة تاريخية تشريعية وقانونية يقودها ولي العهد    اختتام معرض الأولمبياد الوطني للإبداع العلمي    دروب المملكة.. إحياء العلاقة بين الإنسان والبيئة    البنوك السعودية تحذر من عمليات احتيال بانتحال صفات مؤسسات وشخصيات    ضيوف الملك من أوروبا يزورون معالم المدينة    توجه أميركي لتقليص الأصول الصينية    استعراض أعمال «جوازات تبوك»    إسرائيل تتعمد قتل المرضى والطواقم الطبية في غزة    ماغي بوغصن.. أفضل ممثلة في «الموريكس دور»    متحف طارق عبدالحكيم يحتفل بذكرى تأسيسه.. هل كان عامه الأول مقنعاً ؟    العلوي والغساني يحصدان جائزة أفضل لاعب    مدرب الأخضر "رينارد": بداية سيئة لنا والأمر صعب في حال غياب سالم وفراس    القتل لاثنين خانا الوطن وتسترا على عناصر إرهابية    جمعية النواب العموم: دعم سيادة القانون وحقوق الإنسان ومواجهة الإرهاب    الجاسر: حلول مبتكرة لمواكبة تطورات الرقمنة في وزارة النقل    الجوازات تنهي إجراءات مغادرة أول رحلة دولية لسفينة سياحية سعودية    "القاسم" يستقبل زملاءه في الإدارة العامة للإعلام والعلاقات والاتصال المؤسسي بإمارة منطقة جازان    ليست المرة الأولى التي يخرج الجيش السوري من الخدمة!    شكرًا ولي العهد الأمير محمد بن سلمان رجل الرؤية والإنجاز    ضمن موسم الرياض… أوسيك يتوج بلقب الوزن الثقيل في نزال «المملكة أرينا»    الاسكتلندي هيندري بديلاً للبرازيلي فيتينهو في الاتفاق    لا أحب الرمادي لكنها الحياة    الإعلام بين الماضي والحاضر    استعادة القيمة الذاتية من فخ الإنتاجية السامة    منادي المعرفة والثقافة «حيّ على الكتاب»!    أوروبا تُلدغ من جحر أفاعيها !    ولادة المها العربي الخامس عشر في محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية    الطفلة اعتزاز حفظها الله    إن لم تكن معي    أداة من إنستغرام للفيديو بالذكاء الإصطناعي    أجسام طائرة تحير الأمريكيين    أكياس الشاي من البوليمرات غير صحية    قائد القوات المشتركة يستقبل عضو مجلس القيادة الرئاسي اليمني    ضيوف الملك يشيدون بجهود القيادة في تطوير المعالم التاريخية بالمدينة    سعود بن نهار يستأنف جولاته للمراكز الإدارية التابعة لمحافظة الطائف    نائب أمير منطقة تبوك يستقبل مدير جوازات المنطقة    الصحة تحيل 5 ممارسين صحيين للجهات المختصة بسبب مخالفات مهنية    «مالك الحزين».. زائر شتوي يزين محمية الملك سلمان بتنوعها البيئي    لمحات من حروب الإسلام    وفاة مراهقة بالشيخوخة المبكرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



احمد بن سودة ... صفحات من تاريخ المغرب : تأملات، خواطر وذكريات . كانت بيوت فاس معامل صغيرة تديرها المرأة ... وكل فرد كان يمارس مهنة وينتج ويتعلم 10
نشر في الحياة يوم 25 - 08 - 1998

الدار رقم 2 بدرب الشيخ السفلي من حومة المخفية بفاس. تلك هي الدار التي فتحت عيني على حيطانها وفضائها وزواياها وغرفها وأناسها والمترددين عليها.
كان ذلك يوم الخميس 20 كانون الاول ديسمبر سنة 1920.
دارنا، أو دار الفقيه سيدي يحيى، وهو والدي، لا تختلف كثيرا عن الدور الفاسية، لم تكن بالكبيرة الفسيحة، ولكنها كانت من تلك الدور التي تعرف وتنسب للعائلة التي تسكنها. كانت بها ثلاث غرف بالطابق السفلي، وغرفة بالطابق العلوي، وفي وسط الدار "خصة"1: صخرية قديمة تنفث الماء بلا وهن ولا انقطاع محدثة خريرا رقيقا يشعر سامعه بذلك الحضور الحي للماء الذي جعل الله منه كل شيء حيا. وبالدار عدد من السقليات2 والمخازن، أما المطبخ فكان مظلما وجدرانه كالحة السواد. وكانت دارنا تتصل بعدة دور مجاورة لها بواسطة منافذ و خراجات واذكر انها كانت متصلة بدار الدرعاوي وبروض عمنا، وعرفت انها كانت قبل ذلك متصلة بسبع دور في دربنا.
اشترى أحد اجدادي هذه الدار منذ سنين خلت من أحد الشرفاء القادريين، وتواتر على سكناها اجدادي جدا بعد جد حتى آلت إلى والدي رحمه الله.
هناك قصة تحكي عن هاته الدار سمعتها في صغري، فقد كانت تسمى دار "الهبرة"، أي قطعة اللحم، وتقول القصة أن كل من كان يشتري هذه الدار ليسكنها يجد بفنائها قطعة لحم ضخمة ومخيفة فيقفل مذعورا متطيرا ويتركها ويتخلى عن سكناها. ولكن الجد الذي اشتراها وسكنها وضع حدا لقطعة "الهبرة"، لا بالتهامها، ولكن بطرد الأرواح الشريرة التي كانت تسكن الدار، فقد كان هذا الجد عالما يستطيع بعلمه أن يضع حدا لعبث الأجنة والمردة والشياطين!
في هذه الدار ولد وتربى الكثير من جدودي واعمامي فهي دار تعج بالذكريات، يزورها افراد العائلة من كل مكان ومدخلها كان عبارة عن غرفة استقبال مفتوحة للزوار، فهي المكان الذي تضرب له المواعيد بين كبار رجال الأسرة السودية ويقصده أعيان الحومة والزوار والعلماء، وتدور أحاديث وندوات، وتحل المشاكل ويتبادل الحاضرون شجون الحياة وشؤونها.
وعندما بلغت من العمر تلك المرحلة التي تروى فيها للطفل الحكايات والقصص كانت عمتي راضية التي تقيم معنا في الدار تحكي لي الحكايات الشيقة عن ماضي هذه الدار، وما عرفته من أحداث وما تخرج منها من علماء وصلحاء كان لهم الذكر الطيب والأثر الكبير في حياة الأسرة وحياة مدينة فاس، وحياة الوطن.
كان عمي عبدالهادي يسكن معنا في الدار، وكان لهذا الرجل الكريم أثر لن انساه في حياتي.. وعلى حياتي.
وهكذا فإن هذه الدار بالنسبة لي لم تكن مجرد دار ولدت وتربيت بين جدرانها وغرفها واختزنت في ذاكرتي صورا وحكايات جرت لي أو حولي في ارجائها. إن هذه الدار بعبق تاريخها، بنمنمات زخارفها وفسيفسائها ومنحنيات أبوابها وزواياها، وبكل أولئك الرجال الذين يشكلون حبات في سبحة الأسرة السودية المتماسكة، هذه الدار كانت بالنسبة لي جزءا لا يتجزأ من شخصيتي ووجودي. فنسبي متصل بها بقدر ماهو متصل بذلك العقد العبق من أسماء بيت ابن سودة.
ودارنا في دربنا من حومة المخفية بفاس كانت من تلك الدور المحسوبة والمعدودة في مدينة بناها المولى إدريس الأزهر، وغدت بعد ذلك، ومع توالي العصور، مسكنا وحصنا وملاذا لعدد معروف من العائلات التي ارتبط اسمها بتاريخ المغرب الثقافي والسياسي والجهادي.
دار مرموقة لأسرة كريمة
لم يكن هذا التمييز بالنسبة لدارنا يكتسي لا من قريب ولا بعيد صفة أو صبغة طبقة اجتماعية يكون المسكن عنوانا لها أو سمة من سمات علو شأنها بين الناس، لقد كان بيتنا متواضعا اذا قيس بتلك البيوت الفخمة التي عرفت في فاس ببذخ معمارها الهندسي وسعة اليد التي كانت لأهلها، ولكنها كانت دارا "مرموقة" تُذكر من الدور التي تعرف بأسرها ومكانتهم في المجتمع الفاسي الذي كان يجل العلم والصلاح قبل أن يصنف المال والثروة كعنوان للجاه والأثرة والتميز الاجتماعي.
في هذه الدار فتحت عيني على الحياة...
هذا عن المكان، أي الدار التي ولدت فيها، أما عن الوسط الأسري العائلي فقد وجدت نفسي الابن الوحيد لوالد رزىء بفقدان اولاده واحدا بعد الآخر من زوجة سابقة لوالدتي، فقد استقبل مولوده بكبد حرى وبلهفة الأب المفجوع الذي اكتوى بنار موت ابنائه وبناته وهم في زهرات العمر، لذلك كان حنانه عليَّ حنانا مضاعفا، وحدبه فيضا من حب يغمر محياه وينهمر مطرا من نور أحداقه وثغره ولمسة كفه.
اما والدتي رحمة الله عليها فقد كانت الزوجة الحبيبة والأم العطوف، إنها تنحدر من أسرة كريمة وبيت توارث العلم والصلاح والتقوى والولاية، إنها من أسرة العراقيين،وبالضبط من أرومة العراقيين الذين كانوا يسكنون درب وادي عبود قرب جامع الأندلس، كان والدها جدي محمد بن ادريس العراقي فقيها عالما عدلا مواظبا على الصلوات الخمس في المساجد، وكان إماما راتبا يؤم الناس في صلاة الصبح بمسجد بن كعبلة بحومة الأقواس بفاس ويقرأ الحزب إثر صلاة العصر بمسجد الأندلس، كان يتعيش من الفلاحة يؤمن بها حاجياته من قمح وغيره ويستعين بما تدر عليه العدالة من دخل متواضع ينفقه على عائلته، وحينما فرضت الحماية على المغرب سنة 1912 انزوى متألما ولازمه الحزن على ما آلت إليه بلاده الى أن وافاه الأجل المحتوم.
وحدثتني والدتي رحمة الله عليها انه بعد اعلان الحماية، وبعد أيام فاس الدموية جمع أبناءه ومنهم والدتي وأدخلهم إلى سرداب تحت الارض وقال لهم: إن أعداء الله يريدون هدم بيوتنا وهتك اعراضنا فإذا سقطت قنبلة فوق دارنا فإن النسوة منكم يمتن مستورات.
وجوه الشهداء مخضبة بالزعفران
كما حدثتني والدتي انه خرج من بيته غداة إعلان الحماية وفي اعقاب الثورة العارمة التي اجتاحت مدينة فاس وما نتج عنها من ضحايا فيما عرف بأيام فاس الدموية، وذهب يتفقد الضحايا من المجاهدين وشباب فاس الذين آثروا الموت على رؤية جيش المستعمر يدوس أقدامه تراب الوطن، ولما عاد إلى المنزل قال لأسرته: هنيئا لهؤلاء الشهداء فقد رأيت وجوههم مخضبة بالزعفران وشممت عبير الورد يهب من أجسامهم الطاهرة، هنيئا لهم انهم أحياء في الفردوس عند ربهم يرزقون. وكذلك كان والده سيدي ادريس العراقي.
إن بيت العراقي كان بيت علم وصلاح وتقوى، فهو بيت ينتمي لبيت سيدنا الحسين حفيد رسول الله صلى الله عليه وسلم. أما والدة امي فتنتسب لبيت التازي من فريق كان يعيش من عمله وفلاحته، وكان أحد إخوان جدتي توفي شهيدا في حرب تطوان سنة 1860، وأذكر أن جدتنا كانت تحدثنا عن هذا الشهيد فتحكي عن حفلة الوداع التي اقيمت له حين اعتزم الالتحاق بالمجاهدين في مدينة تطوان، فقد خضبوا كفيه بالحناء وألبسوه لباسا أبيض ناصعا وخرجوا وراءه إلى أسوار المدينة في موكب يردد الرجال فيه بخشوع: الله أكبر، وتصدح النسوة بالزغاريد. وحينما أتاهم خبر استشهاده اقاموا حفلا مماثلا ولم يذرف أهله على وفاته دمعة واحدة. إن الشهيد هدية المؤمنين لربهم، فكيف تقدم الهدية على طبق من دموع؟
جئنا من قبيلة قريش
أما والدي فهو من أسرة ابن سودة، وهي تنحدر من قبيلة مرة من قريش، سافر أجدادنا من مكة إلى اليمن ومن اليمن حضروا إلى دمشق ثم هاجروا مع الأمويين إلى الاندلس واستقروا بمدينة غرناطة ومن غرناطة دخلوا إلى المغرب، حيث استوطن الكثير منهم مدينة فاس واستوطن بعضهم المناطق الجبلية بناحية وزان.
ومنذ أن استقر بنو سودة بالمغرب أخذوا يقومون بالمهام العلمية والقضائية والخطابية، كما كانوا يشتغلون بفلاحة الأرض، وقد لعبوا دورا مهما في عهد الدولة العلوية الشريفة، وكان علماء بني سودة يقومون بتعليم ابناء الملوك وتربيتهم، كما كان منهم القضاة والوعاظ والخطباء على منابر الجمعة والمحدثون ومشايخ الاسلام، وكانوا محبين للأشراف أصدقاء ملازمين لرجال الصوفية. فجدنا حمد الطالب ابن سودة كان صديقا للولي الصالح مولاي العربي الدرقاوي، وعند وفاة جدنا حضر الجنازة مولاي العربي وجمع أبناء الطالب الخمسة وأمر حفظة القرآن ان يقرأوا "اقترب للناس حسابهم" حتى إذا وصلوا إلى قوله تعالى "وكلا جعلنا صالحين" نزع جلبابه وغطى به الأطفال الخمسة وأوقف القراءة ودعا للأطفال مرددا قوله تعالى: "وكلا جعلنا صالحين". وبالفعل فقد كانوا علماء ولقب اكثرهم بشيخ الاسلام وتوارثوا رئاسة مجلس الحديث بالمجالس السلطانية وهؤلاء الخمسة هم المهدي، وعمر، وعبدالقادر، وأحمد ومحمد.
وكان عبدالقادر والد جدي فقيها عالما أنجب ولدين هما علي وجدي محمد، وكان علي عالما فرضيا صوفيا مفتيا شاعرا، وكان أكبر من جدي، أما جدي فكان فقيها محدثا نحويا مفتيا قاضيا، عرف بالفصاحة والكرم والذكاء وحدة الادراك وسرعة الجواب، تخرج عليه الكثيرون وتولى القضاء بمدينة طنجة وهناك تجلى كرمه وفضله وتقواه، وصلاحه، فقد كان والده قد خلف له عدة عقارات من دور وضيعات باع الكثير منها أيام قضائه بطنجة، فقد كان بيته هناك قبلة للزائرين كانوا يحلون به كل عام في طريق ذهابهم إلى الحج وعودتهم منه، وقد ارتبطت بينه وبين ممثلي الحكومة المغربية صلات المحبة والصداقة خصوصا السيد محمد العربي الطريس والد الزعيم المغربي الراحل عبدالخالق الطريس الذي كان وزير البحر آنذاك والذي زار منزلنا بمدينة فاس وكان يوم زيارته يوما مشهودا حضره العلماء والشعراء وكبار القوم. بقي جدي قاضيا بطنجة إلى أن طلب منه أن يسلم عقدة المعاوضة بين السفارة الانكليزية ووزارة الاوقاف، وبمقتضى هذا العقد تصبح السفارة الانكليزية مالكة لأرض بها الماء الذي كان يذهب إلى الجامع الأعظم، وقد عرض على جدي المال الكثير لأجل أن يوافق على هذه المعاوضة فجمع أسرته وأبناءه وقال لهم: يا أبنائي إنه عرض علي أن اوقع على عقد إن وقعت عليه أخذت مالا كثيرا سأنفقه عليكم ولكن والدكم سيحرق بنار جهنم، وإن لم أوقع عليه حرمت المال وعزلت من منصبي فما نظركم، فأجابته الأسرة إن الله غفور رحيم، إلا ولده الأكبر عمنا المحدث الصالح المصلح ثار في وجه أبيه ونصحه ودعاه أن يرفض ويمتنع عما عرض عليه. فأخذ جدي يبكي ويقول: الحمد لله الذي أخرج من صلبي من ينصحني إذا هممت بالزيغ والخروج عن الصراط المستقيم. ورفض التوقيع على العقد وعزل من منصبه، فلما وصله الخبر قال لعمي: لقد عزلوني يابني، فأجابه عمي: عزل بعزل والمرء مقتول بما قتل به، وشدوا رواحلهم عائدين إلى فاس، ولم يكادوا يدخلونها حتى ثار مولاي عبدالحفيظ على أخيه مولاي عبدالعزيز وعزل كل الذين تسببوا في عزل جدي.
حاول مولاي عبدالحفيظ أن يقنع جدي بالعودة إلى طنجة ولكن جدي التمس من جلالته البقاء بفاس فأسندت إليه مهمة القضاء بفاس الجديد، ولزم فاس قاضيا وعالما وخطيبا ومفتيا إلى أن أعلنت الحماية فلزم بيته إلى أن مات مهموما حزينا بعد صلاة عصر مات وهو يرتل القرآن الكريم مع أبنائه إلى أن وصل إلى قوله تعالى: "سارعوا الى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين في السراء والضراء والكاظمين الغيض والعافين عن الناس. والله يحب المحسنين".
أنجب جدي خمسة ذكور وأربع بنات من زوجة واحدة هي آمنة سودية تنحدر من عالم ولي صالح يلقب بالنحول، كانت سيدة جميلة شقراء فارعة في الطول ذات عينين خضراوين، كانت سبحتها لا تفارق يديها ولسانها لا يفتر عن الذكر.
والأبناء الخمسة كلهم كانوا فقهاء علماء، وأعمامي جميعا قرضوا الشعر ولكل واحد منهم ديوانه، أما والدي فلم يكن شاعرا بل إنه عالم مقرىء لا يفتر لسانه عن قراءة القرآن، وقد قرأت بخط جدي رسالة يقول فيها انه بشر بوالدي من فوق سبع سماوات، فقد رأى رؤية صالحة ورأى صورا نورانية، وقيل له "يازكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا" وقص الرؤيا على أخيه فقال له: سيزداد عندك ولد ذكر ولابد أن تسميه يحيى ولم تكن الرؤيا أضغاث احلام فقد ولد المولود وسمى يحيى.
وفعلا، فقد حفظ القرآن ولازم العبادة وكان كما قال تعالى: "يايحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبيا وحنانا من لدنا وزكاة وكان تقيا وبرا بوالديه ولم يكن جبارا عصيا وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا".
وعندما بدأت أعي ما حولي وجدت عمي محمد خطيبا بمسجد سيدي أحمد الشاوي وعمي العابد بن أحمد بن سودة خطيبا بالحرم الإدريسي، وعمي عمر بن محمد بن المهدي خطيبا بمسجد الرصيف، ومحمد بن الطاهر بن سودة خطيبا بمسجد الاندلس وعمي عبدالرحمن بن علي بن عبدالقادر بن سودة يخطب بتناوب بمسجد بني جنود، وعمي العربي بن الطالب بن عثمان بن سودة خطيبا بمسجد باريز. كما كان بالقرويين عدة علماء سوديون يقومون بالتعليم والوعظ والارشاد.
وهكذا في هاته الدارالمليئة بالذكريات وفي وسط هذه الأسرة، أسرة والدتي ووالدي المثقلة بأمجاد الماضي رأيت النور.
وجوه حزينة
بدأت أعي ما حولي... كانت دارنا هي دائرة تحركي وكان والدي ووالدتي وعمتي وعمي وكل الوجوه من الأهل والزوار، النسوة والرجال الذين يترددون على بيتنا هي الوجوه التي ألفت رؤيتها وتعودت على أشكالها، وكان الجميع يحوطني بالرعاية والحنان، فأنا "الابن الوحيد" للفقيه، والكل يدعو لي بالعمر والصحة والنجاح، كنت شغوفا بالاستماع الى ما يدور من أحاديث وحكايات وأخبار في بيتنا، بين أمي وزائراتها من النساء، وبين أبي وأخي وزواره، وكانت أمتع لحظة أترقبها هي تلك التي آوي فيها إلى فراشي للنوم بعد المغرب قليلا، ففي هذه اللحظة تحكي لي والدتي أو عمتي حكايات أو قصصا تداعب مخيلتي وتسلمني للنوم الهادىء العميق. إن تلك الحكايات والقصص لم تكن كلها من ذلك النوع الذي يصور للطفل الغرائب من الأشياء والأحداث، فقد كانوا يتجنبون إثارتي أو زرع الخوف في نفسي، إن أغلب الحكايات التي كنت أسمعها كانت تروي قصصا من تاريخ البطولة والأبطال في وطني، وكنت ألاحظ تلك النبرة العميقة المشحونة بالشجن والألم في صوت والدتي وعمتي وهما تحكيان لي صفحات من الأيام المجيدة للمغرب.
إن الوجوه التي كانت حولي في بيتنا، من افراد العائلة ومن الزوار، كانت وجوها تعلوها مسحة الحزن، والأحاديث التي تدور حولي كانت كلها أحاديث كأنها همس يفضي به متوجس متألم تكتوي ضلوعه بحريق. لم أكن أدرك ماهية هذا الحزن في بداية الأمر، ولكن رويدا رويدا أدركت أن هذا الحزن العميق لم يكن خاصا بأسرتي بل كان حزنا يلف بردائه كل الأسر والبيوت في مدينة فاس. فلم يكن مضى على فرض الحماية على المغرب إلا بضع سنوات. وفي سنوات العشرينات، وهي سنوات طفولتي الأولى، كان الجرح لايزال طريا وجسم الكرامة المغربية ينزف دما، والآباء والأمهات والرجال شهدوا وعاشوا أحلك فترة في تاريخ المغرب، ورأوا وطنهم الغالي العزيز يسقط فريسة بين أنياب المستعمر. ويروا المجد المغربي شمسا تحجبها السحب، والمعقل الحصين يكتسحه الغزاة. وكان ذلك قاسيا ومريرا على نفوس كريمة وإباء شامخ. ولم يكن هذا الألم عنوانا على الاستسلام ولا رضوخا للانهزام، ولكنه ألم مَنْ تلقى طعنة خنجر فانطوى على الجرح يداريه ويضمده قبل أن يستعيد ويستجمع قواه.
كانت أخبار الحرب الريفية التي اندلعت سنة 1921 وعمري آنذاك سنة واحدة، هي حديث الناس في المساجد والمجامع والبيوت، يتلقونها بلهفة وشوق، ويشعرون بالزهو لكل خبر يحمل انتصارا يحققه المجاهدون على جيش الاستعمار الجرار، ورغم الحصار الذي كان مضروبا على مدينة فاس فإن القوافل التي كانت تقصد المدينة للتجارة أو الزيارة، وخاصة تلك التي تأتي من الشرق ومن الشمال، تحمل معها أخبار المعارك، وتروي قصصا عن بطولات المجاهدين في الريف، مثلما كانت قوافل أخرى تحمل نفس الأخبار عن صمود المجاهدين الأحرار في جبال الأطلس، وهكذا كنت أسمع الحديث يدور عن عبدالكريم الخطابي، وحمو الزياني، وعن المعارك هنا وهناك، وعن المقاومة العنيفة التي واجه بها شعب المغرب الأبي جيوش الاستعمار.
وحينما سمح لي أن أخطو خارج عتبة دارنا بدأت أشعر بعالم آخر، وتاقت نفسي إلى التوغل بعيدا عن دارنا واكتشاف ذلك العالم الذي كانت أصواته وأصداؤه تملأ فضاء مخيلتي.
كنت أتصور أن فاس عبارة عن مساجد متراصة، ذلك أن أصوات المؤذنين، وخاصة بعد هدأة الليل الطويلة، وحينما تصدح بالآذان خمس مرات في اليوم، تشيع في النفوس شعورا عميقا بأن كل شيء توقف عن الحركة والجلبة لتنفذ تلك الأصوات إلى أعماق السكون، وأن كل الناس، في تلك اللحظات، تخلوا عن كل ما يشغلهم وتراموا في صفوف واتجهوا إلى خالقهم متعبدين خاشعين، لقد كانت الرهبة تملأ نفسي وأنا أرى والدي ساجدا في خشوع عميق، ثم وهو يسبح ويرفع كفيه بالدعاء لله أن ينصر الاسلام والمسلمين.
كانت المساجد كثيرة والبيوت والدور متناثرة وملتصقة وملتفة حولها، كل الناس كانوا قريبين من ربهم، والدين لم يكن طقوسا تجري بالمناسبة، الدين هو حياة الناس العادية. وهكذا فان المحيط العائلي والاجتماعي كان يشكل قوة مؤثرة في التربية، المجتمع بتقاليده وقيمه ومعتقداته كان يتولى دور معلم يغرس في نفس الطفل القيم النبيلة لمجتمع متحضر متكامل.
فاس الصانعة والعالمة
وكانت فاس معملا كبيرا، كل فرد كان يمارس مهنة، ينتج ويتعلم. وكانت فاس مدرسة مفتوحة... للقرويين لا تقفل أبوابها، فهي دوما مفتوحة للدارسين والمدرسين، في كل ركن درس، وفي كل زاوية حامل كتاب.
والكتاتيب منبثة في كل مكان.. والمساجد أماكن للدروس والوعظ. وصومعة القرويين معلق بها سيف إدريس الأول سبط الرسول، يذكر في كل لحظة برسالة المغرب، بمجده، بتاريخه، بشخصيته ومقوماته وعبقريته.
هذه هي فاس التي وجدت نفسي في أحضانها: قلعة من الإيمان والصمود والمجد والعلم.
وفي حوالي السنة الخامسة من عمري كانت أشياء كثيرة حولي قد بدأت تخاطب إدراكي، فأنا أريد أن اعرف، أن اكتشف، أن اقتحم عوالم المجهول من الاشياء والناس.
وكانت والدتي هي المعلمة الأولى التي تولت مهمة قيادة ادراكي في بحر هذا المجهول. وهكذا رافقتُ الوالدة كجميع اطفال ذلك الوقت إلى الحمام، لم يكن الحمام مكانا عاديا يرتاده الناس كما هو الحال الآن، بل كانت زيارة الحمام، وخاصة بالنسبة للنساء، فرصة متميزة يستعد لها من قبل استعدادا كبيرا وخاصا، فقبل التوجه إلى الحمام تغسل الثياب، وتنظف الدار، وتعجن الحناء فيخضب بها شعر الرأس كبارا وصغارا، وتحزم الرزم وترش الثياب بماء الزهر ويتجه الموكب إلى الحمام.
كانت المرأة محجبة، وكان الحمام بالنسبة لها فرصة للتسلية والاجتماع بالسيدات وتبادل المعلومات والتقاط الأخبار، كما كانت فرصة يظهر فيها الرجل عواطفه نحو زوجته بما يهيء لها من مشروبات وأكل خفيف بعد عودتها، وكان والدي رحمه الله من أكثر الازواج حبا لزوجته وتدليلا لها وإحاطتها بفيض جياش من العاطفة والحنان والسعادة.
كانت الحمامات بفاس تفتح من الفجر إلى الظهر للرجال، وبعد صلاة الظهر للنساء، إلا حمامات ثلاثة كانت مخصصة طول الوقت للرجال، وهي حمامات الخراشفيين واللمطيين والعشابين.
وكان الحمام الذي تقصده والدتي هو حمام المخفية، وكانت تدير هذا الحمام وتشرف عليه المعلمة زينب، كانت شخصية جذابة، حلوة الحديث طويلة القامة، بارزة البطن حتى انها لا تستطيع التحرك إلا ببطء كإوزَّة سمينة، باسمة الثغر تمارس سلطة عملها بهيبة ملحوظة. كانت حارسة الجلسة تتولى حراسة الرزم، وأشد ما كان يدهشني منها تلك الذاكرة القوية العجيبة، فلا تختلط عليها الرزم رغم كثرتها وتراكمها وتشابهها وكان يكفيها أن ترى المرأة المستحمة ولون منديل رزمتها فتحفظ ذلك وتناولها حاجتها متى تريد. ومكان كل امرأة وموقع رزمتها في الجلسة يكون على قدر مقامها وما تبذله من إكرام للمعلمة.
وكان من عادة النساء أن كل صديقة سمعت بذهاب صديقتها إلى الحمام تبعث لها المبردات، كعصير اللوز والبرتقال والرمان والعنب، واذا كان ذهابها في الأيام المزدحمة كالأيام التي تسبق الأعياد، فان تلك الصديقة تضيف الى ذلك قدرا من الماء تكون قد احضرته ساخنا من بيتها وتبعثه الى صديقتها، وبعض الأسر الميسورة تبعث مع سيدة البيت خادمة أو أكثر بأوان خاصة تملأ بالماء الساخن اجتنابا للانتظار والعراك حول بؤرة الماء الساخن داخل الحمام، ولكن هذا كله كان نادرا ومن قبيل الترف الذي تتجنبه الأسر حتى لا يحسب ذلك منها تبجحا واستعلاء.
وبمجرد دخول المرأة تضع رزمتها وتنزع ثيابها وتبقي ما يستر جسمها، وتتجه إلى الداخل بعد أن تحمل ما تحتاجه من القبب الخشبية، وفي داخل الحمام توجد "الطيابات" أي النسوة المتخصصات في تقديم المساعدة للمستحمات من ملء القبب بالماء ودلك، إلى غير ذلك.
دخلت مع أمي للحمام فوجدته مظلما والبخار المنبعث من الماء الساخن يضفي على جنباته جوا خرافيا فيبدو الجالسون حول القبب وكأنهم أشباح. تركتني أمي أحرس المكان الذي كانت أعدته لها احدى "الطيابات" بعد أن نظفته بالماء الساخن، واختفت داخل البخار الرمادي، جلست مندهشا أتطلع الى ما حولي، أحسست بالخوف، فالأصوات لها صدى نحاسي، وقرقعة القباب الخشبية تزيد الجو رهبة. ازداد خوفي وملأ الرعب صدري ولم تعد لي الطمأنينة إلا بعد أن عادت أمي وجلست إلى جانبي.
وكانت العادة أن يغتسل الطفل بسرعة وتصرفه أمه إلى الجلسة للاستراحة وتتفرغ للاستحمام الذي يأخذ وقتا طويلا. وعندما تخرج الأم من داخل أبهاء الحمام إلى القاعة، تبدأ جلسة الحكايات والأحاديث والأخبار بما يشبه مؤتمرا عاما تتزود فيه كل مستحمة بما يكفي من أخبار المدينة والأسر، السارة منها والمحزنة. إن جلسة الحمام كانت بالنسبة للمرأة في ذلك الوقت فرصة للتعرف على مالا تستطيع معرفته وهي داخل بيتها. كانت الأحاديث أدق وأشمل مما يمكن أن تنشره جريدة يومية عن أخبار المجتمع. وتبرز في الجلسة مواهب تستقطب الأنظار فمن كانت لها المعرفة بفن الحديث وتفتيق الموضوعات تستطيع حينئذ أن تثير شهية المعلمة زنيب للادلاء بكل ما لديها من تفاصيل الأخبار، فهي بمثابة الكمبيوتر الذي يختزن أدق التفاصيل عما يجري في المدينة، فعندها الخبر اليقين، خصوصا وأن زوجها المعلم مبارك صاحب الحمام يزودها بما يلتقط ويتقصى من أخبار الرجال، وهكذا، وبالتعاون معه، تشكل المعلمة ما يشبه وكالة أخبار... وتعاليق وتحليلات تبرع في تنسيقها لتقديم ما تود أن تشحن به عقول الجالسات المنبهرات بها.
أما أنا الطفل المشدوه، فقد كنت أتابع تلك الأحاديث بأذن فاترة، ذلك أني أكون مشغولا بالتهام البيض المسلوق الذي أحضرته أمي معها، وتناول المشروبات وملاعبة الاطفال الآخرين الذين اصطحبتهم أمهاتهم معهن. ولكني ومع كل ما كان يتيحه الحمام لي من فرجة ومتعة كان الصابون يثير ذعري، فرغوته المنزلقة من رأسي لا تجد صعوبة في التسرب إلى داخل عيني رغم ما أبذله من جهد في إطباق جفني لمنعه من ايذاء عيني، إنه يحدث لي ألما حارقا تحمر له أحداقي، ولم تكن الحرارة المفرطة أقل إثارة لانزعاجي وضيقي، ولكن مع توالي الزيارات تعودت على ذلك وتحملت هذا الازعاج في مقابل ما أظفر به من متعة وسعادة، وهكذا رافقت أمي أكثر من مرة، وأصبحت الطيابة أمي طامو محببة إلى نفسي، فهذه الطيابة كانت تعتني بي وتلاطفني وتدلك بكفيها العريضتين الرطبتين ظهري وصدري برفق أستشعر معه راحة منعشة، كانت أمي طامو صديقة لأمي، وكنت أحمل لها في بيتها الهدايا والانعامات التي تكرمها بها والدتي وخاصة زكاة الفطر وبمناسبات الأعياد وعاشوراء، وقد خصتها أمي بقدر معلوم ومنتظم من القمح والزيت وأحجار الملح، وكانت العادة المتبعة أن الطيابة والصبانة والعزافة، أي تلك المختصة بتنظيف زوايا وسقف البيوت بمكانس طويلة مخصصة لذلك، وجميع من يطلق عليه أحباب الله تخصص مساعدات لهن بتلك المناسبات من مختلف العائلات.
1 نافورة
2 بيوت صغيرة
* تنشر المذكرات، بالاشتراك مع صحيفة "الاتحاد" الظبيانية على حلقات، اربع مرات في الاسبوع: الاثنين، الثلثاء، الخميس والسبت


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.