لعلي لا أنسى تلك الليلة أبداً، بدت وكأنها نقشت حلما قويا كوشم بالذاكرة، لامعا بين إشراق وألم، مذهلاً لطفلة في الخامسة. أحببت جدي حباً فاق كل شيء في حياتي الصغيرة، بما في ذلك العيد والعيدية ولعب الحارة وكل شيء، أحببت مع جدي حبه للخيل الذي يسري في عروقه، عشقها عشقاً لاوصف ولا حد له، لا يتركها الا للذهاب للمسجد، بل كثيرا ما أمضى بجانبها وصلى قريبا منها. احببت رائحة الخيل وطريقة حمامها بينما السائس يغسل ذاك الشعر الجميل اللامع في ذيلها كنت احاول ان أستنشق ما استطعت لعله يتغلغل بداخلي. في تلك الليلة الذهبية سمعت حركة في بيتنا ثم صوت باب السيارة يغلق، عرفت سيارة الوانيت لجدي/ انا ذاهب للأسطبل/. لحظات وأقفز في الحوض دون ان يشعر بي ودون أن أذهب للحمام. وكل ما علي ثوب قصير للنوم، بدأت ترتجف ساقاي وأكاد افعلها على نفسي وانا أكابد. حتى التفت لأجد سطلا صغيرا به رمل كان المنقذ، وصلنا وهبط جدي هبطت سريعا خلفه، ولذت بطفولتي عنه، لكن البرد فضحني، لم أجد مناصا من أن أكشف له عن وجودي حيث لفني بعباءته الوبر. كانت زينة فرس جدي المفضلة تضع مولودها الاول، كان صهيلها ضعيفا يكاد يشق قلبي الصغير. قد يكون الوقت الذي أمضيناه طويلا لا أدري ربما غفوت مرات خلاله، حتى خرجت الصغيرة جميلة تشبه أمها مهرة سوداء بغرة بيضاء كبقعة نور أبيض بين عينيها، قال جدي إنها لك يا هيلة ودعاها هيلة. كانت هيلة حبيبتي ورفيقتي، ألهتني كثيرا حتى ان أمي خشيت علي فيما بعد من التقصير في دروسي، وربما لامت في داخلها جدي. كبرت هيلة وركضت ولعبت وتقافز ذيلها الجميل مع الريح. وكبرتُ أكثر وتخرجت ولكن جدي فارقنا، تكرم أعمامي ومنحوني إياها، كما أراد جدي، لكني انشغلت عنها وكنت لا أراها الا لماما، حتى تزوجت وقررنا السفر. ودعتها وداعا يليق بها عانقتها وكأنني أعانق بقية ايام لنا، بكيت وانا أرى انكسار عينيها كأني أرى سيري بعيدا عنها. سافرت منبهرة بالعالم فيما حولي، وذكرها كعطر جميل يمر ولا أتوقف عنده كثيرا، حتى كان يوم هاتفني والدي بصوت كله ألم يخبرني به عن مرضها بعد فراقي وكيف عافت الأكل ثم ضعفت ولم تعد تقوى على الوقوف واستأذنني برصاصة رحمة لها. وقف شعر جسمي وتألمت كثيرا لآلامها وليلة تلك الرصاصة أحسست شيئا يغور في قلبي. فقطعني صداعا لأيام، حتى بدأت أتعافى مع نبضة الطفل الاول في أحشائي. عدنا للوطن وللدمام بالذات تعاونا مع مساعدة من أهلي وأهله بشراء ارض في منطقة (الأمريكبات) منطقة مرتفعة كنا نتوقع قبلا ان تعملها البلدية حديقة ومتنفسا للدمام، كما كان من أمر ابو مخروق بالرياض، لكنها وهبت ثم بيعت على شكل قطع. وكان لنا نصيب منها. خمسة أطفال وعمل جيد لكلانا، وحب يرفرف على بيتنا، نجاحات الاطفال كبيرة وهم يكبرون وكل نظرة لي أزداد فخرا بهم، كبيرهم دخل بسهولة جامعة البترول، وهي جامعة حلم للشباب والبنت الكبيرة كان لها نصيب في الطب المساند وننتظر إكمال العدد خارج مراحل الدراسة التقليدية. لكن الأخبار قد تأتي حبلى بما لا نفكر به، ولناقلات الأخبار همز ولمز يكبر فيصل، هكذا عبرت الحكاية طرقا مستقيمة وملتوية حتى حطت فوق رأسي، كل هذا النجاح والأبناء والجمال الذي نسجناه جاءته عثة لتقرضه. كادت عيناي تتقرحان من الدمع، لكني صممت تدارك الامر قبل كل شيء. عرفت موعد عقد القران، الخميس الثامنة مساء. وعرفت أن الدعوة لدبي لم تكن لله، ذهب الأبناء بينما شيء يلف قلبي وأعصابي يمنعني من الذهاب معهم. (في المقال القادم أكمل)