لم يفت بعض المراقبين الانتباه إلى الشبه القوي بين أفغانستان "الطالبان" اليوم وبين إيران الخمينية في مستهل ثورتها وأولها. وقد استدعى التشبيه، الساخر والمتشفي في بعض الأحيان، احتجاز الحركة الأفغانية الإسلامية، غداة استيلائها على مزار الشريف، في أوائل آب أغسطس الجاري، مواطنين إيرانيين كانوا في عاصمة الشمال الأوزبكي حين دخول قوات الطلبة إليها. ويتمتع الإيرانيون، على زعم طهران، بصفة التمثيل السياسي والديبلوماسي. وينكر عليهم أصحاب الملا محمد عمر، "الأمير" الإسلامي والأفغاني وحاكم ثلاثة أرباع أفغانستان، انتحال هذه الصفة حيث لا قنصلية إيرانية، ولم تبلغ وزارة الخارجية الإيرانية إلى نظيرها الأفغاني أسماء هؤلاء العاملين المزعومين، ولم ترد "الوزارة" الأفغانية على اقتراح نظيرها الإيراني بقبول اعتماد العاملين هؤلاء... أي ان ما تشهده العلاقات بين دولتين إسلاميتين جارتين يذكر بالأزمة السياسية والديبلوماسية بين إيران وبين الولاياتالمتحدة الأميركية، قبل نحو العقدين من الزمن، والمعروفة بأزمة الرهائن. وتشاء سخرية التاريخ، أو مراوغته، أن تقوم إيران الخمينية، وهي ما زالت إلى اليوم خمينية وإسلامية على نحو من الأنحاء وصيغة من الصيغ، بدور الولاياتالمتحدة الأميركية. فتسمي "جواسيسها" مناطق و"عملاءها" ديبلوماسيين، وتزرعهم في مناطق الاضطرابات الداخلية، وتخولهم الحق في الاتصال بزعماء الحركات المعارضة والمناهضة للدولة الشرعية، إلخ. ثم تزعم لهم الحصانة، وتدعو الدول، و"مجتمع الدول"، إلى معاملتهم بحسب اتفاقية جنيف. لكن الملالي الأفغان لا يتمتعون بالصنعة المسرحية والإخراجية التي كان يتمتع بها، في أثناء شبابهم وفتوتهم، ملالي إيران الخمينيون إبان تسلطهم على مقادير البلد العريق والكبير. ففوّتوا فرصة التشهير التلفزيوني والسينمائي والخطابي ب"جواسيس مزار الشريف" و"صحافي" المدينة المزعوم. وضاع الشبه الإيراني - والشبيه أقوى من الأصيل الأميركي شبهاً بالدور المستنكر - في زحمة ضحايا السفارتين الأميركيتين في دار السلام التنزانية ونيروبي الكينية. على نحو ما ضاع الشبه القوي بين بياني "الجبهة الإسلامية العالمية" لقتال اليهود والصليبيين وإعلان الجبهة "الرسمي" عن نشاط "الجيش الإسلامي لتحرير المقدسات" "الحياة"، في 19 آب وبين بيانات "الجهاد الإسلامي"، الإيراني، غداة أعمال التفجير التي استهدفت السفارة الأميركية في بيروت ومقري القوات الأميركية والفرنسية في ربيع 1983 وخريفه. ويتعدى الشَّبَه السياسي والتاريخي، بين الإسلام السياسي الأفغاني والطالباني اليوم والإسلام السياسي الإيراني والخميني في الأمس، يتعدى الظاهر الديبلوماسي والمشادة الديبلوماسية إلى ما هو ألصق بتغير الحركات السياسية، الدينية والثورية، وبأطوارها المتعاقبة. والاقتصار في المقارنة على انتقال الحركات الثورية، دينية أو شيوعية أو قومية متعصبة "قومية - اجتماعية"، من طور التطرف إلى طور الإعتدال، على ما يذهب إليه بعض المراقبين، لا يعدو الملاحظة الحكمية نسبة إلى حكمة الأمم والمتسرعة، ويفوِّت مسائل تتصل بقضايا هي في صلب الانتقال المفترض من التطرف إلى الإعتدال. فعلى مثال "الطالبان" الأفغان اليوم، ولكن على نطاق إقليمي ودولي لم تتخلَّ عنه إيران بعد، توسلت الخمينية، حين استولت على الدولة الإيرانية، بالإسلام السياسي والثوري إلى القيام بدور تحريضي وانقلابي نصبها، وأرادت له أن ينصبها، مرشداً للحركات الإسلامية المعارضة في أنحاء الدائرة الإسلامية كافة، وقائداً لها، و"وطناً" للإسلام. وجمعت الخمينية، بعد أن غدت دولة إيرانية وحلت محل الدولة الشاهنشاهية "المقبورة"، بين الدولة القومية والوطنية، وشرعيتها الدولية، وبين الحركة الإسلامية العامة، المعترضة على الشرعية الدولية وعلى الكيانات القومية والوطنية المستقوية بهذه الشرعية، والراسية على مواثيقها ومترتباتها. وولد الجمع بين الدولة القومية والوطنية وبين "عالمية" الإسلام السياسي المفترضة نزاعاً، تقليدياً في مثل هذه الحال، داخل الجهاز الحاكم الإيراني الخميني، بين دعاة "الإسلام في بلد واحد" ودعاة "الثورة الإسلامية" العالمية وتصديرها. وهو نزاع، عرفته الثورة الشيوعية الأولى في روسيا وتجدد في الصين في أواخر العقد السادس الخمسينات وفي كوبا في أوائل العقد السابع الستينات ولم يعف عن ألبانيا، بين الواقعيين القوميين وبين "الحالمين" المتطرفين والأمميين. وغالباً ما انتهى مثل هذا النزاع إلى غلبة الجناح الواقعي والقومي على سبيل الاختصار: ستالين على تروتسكي، دينغ على "عصابة الأربعة"، كاسترو على غيفارا... ورفسنجاني على منتظري وصهره. لكن انتصار الجناح الواقعي والقومي على خصمه، وتوأمه الشقيق، وإحكامَه سيطرته على الحكم والسلطة، كانا مستحيلين لولا استفادة الجناح الواقعي والقومي من عالمية الخصم ولولا وراثته ثمرة هذه العالمية. فقد أرسى الطاقم الخميني سيطرته على حكم إيران، وشعوبها وعصبياتها وقومياتها، باسم إسلام سياسي واحد، فوق القوميات والعصبيات، جعله الخمينيون والدولةَ الإيرانية المركزية واحداً. وأوكل الخمينيون إلى الإسلام السياسي هذا إلحاق عرب إيران، وبلوش إيران، وأذريي إيران، وتركمان إيران، وأكراد إيران، ب"الجمهورية الإسلامية"، الإيرانية في نهاية المطاف. وجمعوا حول "الجمهورية" هذه، باسم إسلامها السياسي، إسلاميين عرباً قدَّموا "إسلامهم" على عروبتهم، وإسلاميين تركماناً صنعوا مثل إخوانهم العرب في الدين. واستعاد الخمينيون وصف العصبيات القومية، والمحلية الوطنية، بالجاهلية، على غرار سيد قطب وغلاة الإسلام السياسي. ونزعوا عن الحكم باسم الإسلام الصفة القومية، بل نزعوا عنه الصفة البشرية. ونسبوا الحكم هذا إلى "الحاكمية" الإلهية، إمعاناً في تجريده عن العصبيات القومية والعشائرية وإعلائه فوقها. غير ان التجريد والإعلاء عادا على السلطة الخمينية، ومن قبل على السلطة الستالينية، بولاء قومي وسياسي قوي ومتين. فكانت الثورة الإسلامية العالمية ذراع إيران الخمينية إلى الدول والمجتمعات المجاورة، المتحفظة والمعادية، وفي الدول والمجتمعات هذه. وأرست السياسة الإيرانية، القومية والعصبية، دورها الإقليمي الجديد على توجيه "حركات التحرر في العالم" وهذا ان اسم المكتب الذي تولى صهر الشيخ منتظري رعايته قبل إعدامه واستعمالها: في لبنانوأفغانستان والعراق وفلسطين وبعض بلدان جزيرة العرب على الضفة الغربية من الخليج. فكانت أفغانستان، إلى بلدان أخرى، تعاني من حروب داخلية وإقليمية، مرعى سياسة التدخل الإيرانية ومسرحها. واستعملت الأجهزة الأمنية والعسكرية والتعليمية الأفغان الشيعة، من قوم الهزارة، وبلادهم، الهزاراجات في وسط أفغانستان الشمالي وهراة إلى الغرب منها، من غير رادع ولا كابح. فكان الأفغان الشيعة، شأن اللبنانيين والعراقيين، و"برامجهم" الوطنية وسياساتهم، مطية السياسة الإيرانية إلى إضعاف الدولة الضعيفة، وتمزيقها، ودوس سيادتها. فجندت المهاجرين الأفغان في "الحرس الثوري" مقاتلين على طريق كربلاء فالقدس. وفتحت الحدود "المصطنعة" بينها وبين أفغانستان، وجال الإيرانيون، مقاتلين وموظفين وعمالاً ومعممين، في البلاد الأفغانية "المحررة"، وصالوا، على ما يصنع الفاتحون في بلاد مفتوحة. وسوغوا تمزيق البلاد الأفغانية، والدولة الأفغانية وأقوامها، تارة بالنضال ضد الاستكبار السوفياتي، وتارة بالحرب الأهلية. وإذ يستولي "طالبان" الأفغان اليوم على معظم أفغانستان، باسم إسلام سياسي أفغاني يغلب عليه قوم الباشتون، وهم القوم الغالب على أقوام أفغانستان، فهم ينجزون بوسائل عسكرية وسياسية و"عبادية" فظة، تقارن فظاظتها بفظاظة الوسائل الإيرانية والخمينية من قبل واليوم في كردستان والعراق ولبنان وفلسطين، مهمة قومية ووطنية هي توحيد أفغانستان الملكية والباشتونية، برعاية باكستانية أكيدة. وتنديد السيد علي خامنئي، المرشد الإيراني، بإسلام "طالبان"، يُحمل من غير تعسف على خيبة سياسةٍ قومية "كبرى"، على ما كان الشيوعيون يقولون، أو على سياسة "استكبارية" إقليمية هي من مألوف السياسة الإيرانية الخمينية حيث تقدر، وحيث يسعها الأمر. وليس تحميل السياسة الأميركية، و"صنيعتها" الباكستانية المزعومة - غداة ترحيب السيد خرازي، وزير الخارجية الإيراني، بالسلاح الذري "الإسلامي"، وتنويهه بسلاح "الإسلام" "الشهابي" الصاروخي - التبعة والمسؤولية عن توحيد "طالبان" بلاد أفغانستان بقوة عصبية غالبة، إلا من مترتبات عادة خمينية ودفاعية قديمة. ويبقى من هذا كله، وأشباهه، إفضاء التباس الحركات الدينية أو الاجتماعية الغالية والمتطرفة بالعصبيات القومية والعشائرية، إلى إلحاق "الدين" بالعصبية، وتقسيم العالمية الدينية إلى أجزاء ومراكز بعدد الدول وعصبيتها الحاكمة والمستولية. فإذا استقرت عصبية في الحكم اتهمت العصبية الجديدة في دينها، أو في "ماركسيتها" على ما كان يحصل في المعسكر الإشتراكي. ونددت ب"تحريفها" أو ب"حقارتها" وغلط اعتقادها وإيمانها. وينسى منددو اليوم أنهم يتصفحون صُوَر "ألبوم" صور صفراء، وأنهم هم أشخاصها وأبطال ملاحمها