غداة خطبة علي خامنئي، مرشد الثورة الايرانية و «دولتها»، في تثبيت انتخاب مرشحه المعلن محمود أحمدي نجاد، والتلويح بقمع التشكيك في صحة الانتخاب بالقوة والعنف، وكان القمع أودى بحياة نحو عشرين ايرانياً وايرانية (أو مئات) وأسكت الآلاف من الصحافيين والناشطين - دارت مناقشة دولية وايرانية (داخلية) لا تقتصر دلالتها ومعانيها على داخل ايران. فبعد تثبيت المرشد، سعى المرشح الأثير والمنتخب السعيد، في استدراج مجلس الشورى ونوابه ال 209 الى مبايعته رئيساً نهائياً على ايران. ودعا نواب المجلس، وهو أي أحمدي نجاد يقتسمهم مع أحد منافسيه المحافظين، علي لاريجاني، الى المقر الرئاسي حيث أعد لهم استقبالاً. فلبى الدعوة الرئاسية الى اعلان الولاء أقل من نصف النواب بنائب واحد. وحضر 104. وفي المتغيبين رئيس مجلس الشورى الذي أقاله أحمدي نجاد من رئاسة لجنة الأمن القومي وتولي مفاوضة الدول الست على البرنامج النووي الايراني أو «الاسلامي» وعين محله أحد أنصاره المباشرين، سعيد جليلي. وخطب الرئيس المفترض ببركة المرشد ومجلس صيانة الدستور، نصف المجلس المبايع، ومن ورائه الايرانيين المتحفظين والمشككين. فرد على الرئيس الأميركي، باراك أوباما. وكان أوباما جهر «ضيقه وغضبه» من قمع أجهزة القوة الخامنئية والنجادية، وفي مقدمها ميليشيا «الباسيج»، المتظاهرين والمتظاهرات والمتجمعين والمتجمعات. فتلقف الجنرال الحرسي والاستخباري السابق رأي الرئيس الأميركي المتحفظ، والخائف على مصير دعوته الحكم الايراني الى المفاوضة غير المشروطة. ورد عليه رداً سياسياً (مراوغاً) وداخلياً. فأنكر على أوباما، صاحب خطبة جامعة القاهرة في 4 حزيران (يونيو)، جدة موقفه وكلامه، وربما سياسته، قياساً على سياسة سلفه جورج بوش الابن، صاحب حملتي أفغانستان والعراق ومصنف النظام «الاسلامي» الخميني في «محور الشر». وجمع الرئيس الجديد مع السلف في باب «الاستكبار» الواحد والمقيم. فقال إن الخلف، حين ينتقد قمع أجهزة القوة المتظاهرين أو المتجمعين العزل وقتلهم تمثيلاً وارهاباً وخطفهم، «يقع في الفخ، ويكرر أقوالاً اعتاد بوش قولها، وسبق (أوباما) الى قولها». ولوح «الباسدران» السابق والمزمن بغلق الباب في وجه المفاوضة المقترحة التي يرجوها الأميركي مخرجاً من حسم مسألة السلاح النووي «الاسلامي» بالقوة. فخاطب الرئيس الأميركي بالقول: «تريد أن تكلم ايران بهذه اللهجة؟ فماذا بقي للكلام فيه ومناقشته؟». فحين ينبه الرئيس الأميركي رأس حكم لا يتورع عن إعمال العنف والقتل في المحتجين سلماً الى انتهاك سياسته معايير مدنية وحقوقية مشتركة بين الأمم، لا يرد الرئيس الايراني (المفترض) بنفي التهمة، ولا بالقول إن معايير «جمهوريته» تخوله قتل المعارضين، وحملهم على مارقين ومرتدين وكفار. فهذا الرد تولاه في اليوم التالي، الجمعة في 26 حزيران، خطيب اليوم أحمد خاتمي. فقال: «من يقاتل (على توسع غير مقيد في عنى القتال - الكاتب) النظام الاسلامي (الخامنئي والحرسي) عليكم بقتاله حتى دماره الكامل»، أي «إعدامه»، على معنى لا يقبل التأويل. ويرد أحمدي نجاد بنقل ميدان المناقشة، الداخلي والسياسي، وهو يريد بالمناقشة حرباً وقتالاً، الى «الخارج»، على المعنى العدواني والعسكري. فيفسر ملاحظة باراك أوباما، وبيان مجموعة الثماني في اليوم التالي، ودعوتهما الحكومة الايرانية «إذا أرادت كسب احترام المجتمع الدولي» الى «احترام حقوق شعبها وارادته» (على ما جاء في رد أوباما على رد أحمدي نجاد)، يفسر الملاحظة والبيان «تهديدات عسكرية واصطفافاً (يمهد) الى هجوم»، على قول أحمدي نجاد. وترجم هوغو تشافيز، الفينزويلي والكولونيل السابق، المجاز النجادي الى وقائع حرفية: «هناك قناصة قتلوا بعض المواطنين، ووراء الحوادث هذه كلها تقف وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية» و «يد الدول الأوروبية الامبرالية». وتابعت الأجهزة الايرانية الحليف الفينزويلي على ترجمته الحرفية. فزعمت أن «التدخل» البريطاني، وهي قصرته على الاعلام في أول الأمر، توسل بموظفين ايرانيين في السفارة بطهران، تورطوا في تنظيم التظاهر. ولا يبعد أن يتهم الموظفون بالقنص التشافيزي قريباً. وصبغُ المناقشة بصبغة عبثية، أو لفظية خالصة، يتعمد التستر على اشتباه أو التباس مقصود. ويتعمد القوميون «الاسلاميون»، ايرانيون خمينيون أم باكستانيون طالبانيون أم حزب اللهيون (لبنانيون) أم حمساويون أم مهديون (عراقيون)، الاشتباه هذا، ومعهم قوميون عروبيون أو سوريون «خالصون». فهؤلاء جميعاً لا يقرون بتقدم الدولة السياسية الوطنية والجامعة على العصبية الحزبية الجزئية والمقاتلة. فالوطنية ليست صفة المواطنين الايرانيين كلهم، وهي ليست صفة المواطنين اللبنانيين أو الباكستانيين أو العراقيين أو السوريين والفلسطينيين، على اختلاف مشاربهم ومذاهبهم ومناطقهم وتواريخهم. والوطنية، على هذا، ليست صفة تقريرية تصح وتصدق في اطار عام يشترك فيه أهل هذا الاطار المتفرقون، من بعد، أهواء وأحكاماً ومصالح. فيزعم أحمد خاتمي، باسم علي خامنئي وثلة من «علماء» الثورات «الاسلامية» والقومية، أن من يعارض «مرشد المجتمع الاسلامي وقائده» إنما «يقاتل الله». ويترتب على هذا أن من ينقاد لرأي علي خامنئي في المرشحين الى رئاسة جمهور الايرانيين، من أي طريق (مستقيمة أو منحرفة، حقيقية أو مزورة) بلغ المرشح الرئاسة، هو وحده الايراني الإمامي أو المسلم الصادق أو العدل. ومن عداه «طاغوتيون»، على قول أحمدي نجاد والثلة «العالمة» والمترئسة المزعومة. وإذا سأل مير حسين موسوي وعشرات ملايين الايرانيين معه، عن مصير أوراق الاقتراع، وأراد التثبت من احصائها احصاءً أميناً، جاءه الرد، وجاء المقترعين، على صورة التهمة والانكار والشك والتهديد والترهيب وقطع الاتصالات والاعتقالات وحظر الكلام بالفارسية في وسائل الاعلام والقتل. فموسوي، وأمثاله، ايراني مستقيم ما أتاح ترشحه للمرشد، ولأجهزة القوة التي يأتمر بأمرها، وندبت أحمدي نجاد الى الرئاسة، الادلال بعدد المقترعين الايرانيين الكبير، وبإقبال الايرانيين الشبان (والشابات) على الانتخاب. وما أتاح لأحمدي نجاد، غير مازح ولا مدرك تفلت كلامه من كل عقال، القول إن «الأنظمة الطاغوتية في الغرب تستشعر الخطر بعد الانتخابات الايرانية، وتساؤل شعوبها عن افتقارها الى حرية الايرانيين» (صحف 26 حزيران). فإذا لم يرضَ موسوي، ومن اقترعوا له، التخلي عن ولايتهم على أصواتهم واختيارهم، انقلبوا، وأولهم مرشحهم الذي تعهد اخراج ايران من عزلتها وانكفائها وترك هذيان ممثلها القومي والعصبي، طاغوتاً ومنافقين وأعداءً. وصل فيهم القهر والقمع والسجن وإلقامهم الحجار والرصاص، مجازاً وحقيقة. فليس كل الايرانيين الذين يحق لهم الاقتراع، ويقترعون، ايرانيين على معنى واحد، وقدر واحد متساوٍ. فثمة من هم أكثر مساواة من غيرهم، على قول قديم ساخر في الشيوعيين وقادتهم. وهم وحدهم «أكثرية حقيقية»، على قول مقلد لبناني و «ابن» للمرشد الايراني. والعدد ليس حجة ولا برهاناً. ف «الأكثرية» المقصودة لا تحصى على النحو المبتذل والسخيف الذي تفهمه العامة المسترخية والحالمة بالسلم، والمنصرفة الى شؤون «طحينها وبنزينها»، على قول المقلد، أو الى «نفاسها وحيضها»، على قول شيخ شيخه ومرجع تقليده. وهذه «الأكثرية»، أي النخبة والخاصة ولو جاءت من عوام العامة وجهّال الجمهور، معيار كثرتها ورجاحة رأيها وحاجاتها وميولها هو تقديمها «الشعب» المرجو والمتخيل، على ما تشبّهه زعامة الأمة، أي المقاتل والمجاهد، على الشعب الحقيقي. فهذا منقسم على نفسه، وغافل عن عدوه الكينوني أو الوجودي المفترض أو المزعوم غالباً والمتربص به. ويفترض أن مواطنته ترتب له حقوقاً على دولته، مثل الحق في احصاء اقتراعه احصاءً صادقاً. فلا ينتسب الفرد الايراني الى الشعب الايراني، مرجع الدولة ومصدرها وركن هيئاتها ومستودع سيادتها، من طريق مواطنته، وواجباتها وحقوقها، بل من طريق ولائه ل «قيادة الثورة» ومبايعته إياها. وايران ليست وطن الايرانيين بل وطن «المقاومة الاسلامية (الخمينية)» وجنودها وأجهزتها. وعليه، فالشعب الايراني، على معنى الأمة وليس العرق، شعبان: واحد معياري و «أكثري» وآخر تقريري واحصائي. والأول وحده حقيقي والثاني زائف وكاذب. والشعب الزائف و «التّقليد» - على شاكلة المقترعين لموسوي وكروبي والمقترعين ل «14 آذار (مارس)» اللبنانيين، وأنصار نوري المالكي في الانتخابات البلدية، واكراد كردستان العراق، ومناهضي طالبان بباكستان وافغانستان، وانصار حزب المجتمع الديموقراطي الكردي التركي، وأنصار حزب «تكيتي» الكردي السوري - لا مصالح ذاتية وخاصة مشروعة ووطنية تدعوه الى العمل والوجود السياسيين، وتبعثه على التكتل والاقتراع والتظاهر والتنديد بالقمع والتزوير والخطف والاحتجاز السري، وتحمله على ابلاغ رغباته وصوته العالم من غير تمييز. فهذا الشعب، أو هذا الشطر الكثير أو القليل منه، لا تعليل لحركاته وسكناته إلا من خارجه. أي من قوى الاستكبار والاستخبار و «الشر». فإذا بالحركة الشعبية العارمة التي التقى في بعض مهرجاناتها و «سلاسلها» الخضراء مليونا ايراني، مثل سلسلة طهران في 9 حزيران، ثمرة «ارسال (السفارة البريطانية بطهران) أشخاصاً ليندسوا بين المتظاهرين ويقولوا لهم ما عليهم فعله، ويلقنوهم الشعارات التي علهيم ترديدها»، على ما «كشف» وزير الاستخبارات الايراني غلام حسين محسني إجائي (صحف 29 حزيران)، غير هيّاب فداحة الحجة ولا ركاكة التعليل. وعلى مثال شبيه، لا يسوغ ثقل السيطرة السورية على اللبنانيين، وعِظمُ الخسارة الانسانية السياسية والاجتماعية المترتبة على السيطرة هذه، قيام اللبنانيين عليها، وعلى أصحابها وأعوانها وخدمها. فينبغي أن يكون المسوغ سفيراً أميركياً، وزيارات سفيرة أميركية، ورأياً صهيونياً، ومناورات عسكرية تُنسى قبل انقضاء أيامها. ويزعم الاسلاميون الباكستانيون أن تصدي الحكومة والجيش لطالبان، ولنفوذهم في بلاد القبائل الطرفية، الداعي اليه مصلحة أميركية. فبسط الدولة الوطنية سلطتها على أراضيها إنما السبب فيه انتداب السياسة الأطلسية «أداتها» المحلية الى شن «حرب على الاسلام»، على قول مولانا فضل الرحمن. وحملة أحمدي نجاد على «التدخل» الأميركي والأوروبي في شؤون ايران الداخلية تغفل حقوق الايرانيين السياسية والشخصية وتنكرها، وتضمر انتفاء هذه الحقوق، و «شبهها» بحقوق الانسان والجماعات والشعوب التي تُجمع حكومات الدول الأعضاء في الهيئات والمنظمات الدولية أو الأممية عليها. وفي ايران، كما في لبنان وباكستان والعراق وفلسطين، ينوب أنصار الحريات والمسؤوليات عن السياسات الأميركية واليهودية ومصالحها. والسياسات الوطنية، على معنى المشتركة والعامة، ليست ما يخلص اليه المواطنون، افراداً وجماعات أهلية أو سياسية، ويقرونها معاً في أفعالهم وأحكامهم وهيئاتهم، بل هي ما يقره «حزب» يرسي سيطرته على المجتمع والدولة، ويشرط السلمَ الأهلي باقراره، والتسليم به من غير رقابة. و «الحزب» هذا، الإلهي والقومي والشعبي والتاريخي (أي المتعالي عن التاريخ) على الدوام، وطنه و «دولته» ومعتقده المقاومة والحرب والصراع في الداخل والخارج. وتتقدم الدولة المزعومة هذه دولة المواطنين، وسياستها الناجمة عن مداولاتهم وتكتلاتهم وخلافاتهم وتحكيمهم. وتحل محلها، وتلغيها، وترتب المواطنين على مراتب متفاوتة في الصفة السياسية، وفي الانسانية. فيبطل الاجتماع المقاوم، أو مجتمع الحرب القومية والدينية، المجتمع السياسي الوطني ومعاييره. ويلزم هذا أصحاب دولة المواطنين الوطنية ودعاتها، من غير أن يدروا في بعض الأوقات، بالتماس السلم الداخلي والمهادنة من طريق مماشاة دعاوى «حزب» الحرب والمقاومة والصراع. فيقول رئيس الحكومة اللبناني المكلف الجديد، سعد الحريري، وهو في ردهة القصر الجمهوري، في الأسطر الأولى من بيانه الأول: «من موقع الوفاء لوالدي ومعلمي (...) ومن موقع التزام حق لبنان في الدفاع عن أرضه وسيادته وشعبه في مواجهة تهديدات العدو الاسرائيلي...». ف «الحق في المقاومة»، على قول «حزب» مجتمع الحرب، يسبق «الحق» في مجتمع سياسي وطني، وفي دولة المجتمع السياسي هذا. ويترتب على السبق هذا «الحق» في تقويض الدولة ووحدتها، وفي ترتيب مواطنيها «ستات» و «جواري»، و «وطنيين» و «عملاء» واذكاء حرب أهلية دائمة في صفوفهم. ويترتب عليه «الحق» في عزلها من المجتمع الدولي، وفي انتهاك ارادات وآراء المواطنين الناخبين والمتظاهرين والمتحزبين أحزاباً متفرقة ومختلفة. والطعن في «لبنان أولاً»، وهو اسم التجمع البرلماني المتحلق حول سعد الحريري الاستقلالي والسيادي، على ما يفعل الزعيم الدرزي «الوطني» (أي الفلسطيني والعروبي) وليد جنبلاط، ومساواة «الانعزال» بالخصخصة الاقتصادية، والعروبة وفلسطين بالقطاع العام والسياسة الاجتماعية الشعبوية، ثمرة من ثمرات التقرب من «حزب» المقاومة والحرب والصراع، ومرآة الاضطراب والترجح اللذين يصدر «الحزب» هذا عنهما وينفخ فيهما ويجددهما على المنعطفات وعندها. فاشتراط تقديم «المقاومة» أو حزب الأهل القومية والدينية أو الثورة الاجتماعية، وأحزاب هذه وأجهزتها، على الدولة الوطنية والمدنية المشتركة، والقائمة على الكثرة (الأهلية والتاريخية والثقافية والفكرية) والمنازعة والتركيب السياسي، وذلك على خلاف الحاق الحرب الوطنية الضرورية بالدولة - يترتب على الاشتراط هذا التسليم بانفراد أجهزة القوة الخاصة بالحكم، وبازدواج الشعب والدولة والوطن شعبين ودولتين ووطنين. ويقود التسليم هذا الى تعطيل العمليات والأبنية السياسية، وتحويلها اطاراً شكلياً للمبايعة الملزمة. ويقود الى وصم المواطنين، في المرات التي ينزعون عنهم فيها جلد المبايعين والمرشحين، واخراجهم من أوطانهم السياسية ونفيهم الى معازل الاعتقال والخطف والتأهيل. * صحافي لبناني