لشيخنا الجليل العالم المصري الدكتور يوسف القرضاوي عدد من الابحاث الفقهية التي يدعو فيها الى ألوان من "فقه جديد" تشمل فقه الموازنات بين المصالح والمفاسد والمصالح وبعضها، وفقه الاولويات الذي لا يجيز تقديم ما يستحق التأخير وتجاهل ما يستحق التقديم، واخيراً فقه الاختلاف وآدابه. وطبقاً لهذا اللون الأخير، فإن الاختلاف يجب أن يظل محصوراً في إطار الفكر والرأي لا يطاول القلوب. وما اخشاه من لجوء بعض الكتاب في الصحافة العربية الى الحدة في مقارعة إخوانهم المثقفين، ان يؤدي ذلك الى تحميل النفوس فوق طاقتها فيقع الاختلاف المحظور، والذي ندعو الله ان يجنبنا المزيد من شروره. هذه الحدة والعنف في الجدال كانا، مع الاسف، السمة الغالبة على رد ربعي المدهون "أفكار" 14/8/98 على مقالي المنشور في الصفحة نفسها 8/8/98 والذي قمت فيه بدحض الحجج التي ساقها الكاتب 25/7/98 في مسألة اتصال المثقفين العرب بالمؤرخين الاسرائيليين، من دون التعريض بشخص أي من المؤمنين بجدوى هذه الاتصالات. حتى تهمة التطبيع جاءت مقرونة بسلوك وليس بشخص معين، ومن هنا كانت دهشتي من وصف المدهون لمقالي بأنه يقدم "مشهداً بائساً لحال من ينسبون انفسهم لعالم يراد له ان يعكس قدراًَ من الاحترام والصدقية" ولجوئه الى ألفاظ من نوعية "مهووسين" و"هرطقة". يتهمني المدهون بپ"القراءة السطحية" وهي تهمة مردودة عليه، ودليل ذلك يتمثل في زعمه تغييبي لپ"أسئلة أساسية من نمط: مع من نتحدث، ولماذا وأي فائدة من ذلك؟"، هذه الاسئلة طرحتها فعلاً من خلال الاستفهام عن دواعي الاتصال بالمؤرخين: إذا كانت نياتهم غير صادقة، فالأمر لا يعنينا لأنها محاولة لغسل الأيادي من ماضيهم الملوث، وإذا كانت نياتهم حسنة، فهم ليسوا في حاجة إلينا نحن العاجزين عن مساعدة انفسنا، وهذا ما تأسس عليه مقالي ولم يستوعبه المدهون في عجالته. الدليل الثاني على قراءته السطحية يتمثل في عدم التفاته الى ضمير "هم" العائد إلى المؤرخين و"جوهرهم الانساني" وليس إلى اسرائيل كما خُيل اليه ان إعجاب المدهون بالمؤرخين الجدد الاسرائيليين - الى حد اعتبار ان ما يقومون به هو "افضل مليون مرة من الهرطقات" التي يمارسها امثالي - هو الذي يوحي بأنهم نجحوا في تقشير الايديولوجية الفاسدة عن انفسهم فأبرزوا جوهرهم الانساني، وان جهودهم بالتالي تساعد على تحقيق الانجاز نفسه في الاسرائيليين. اما عن "التشويه والتحوير" فهي اساليب يعف عنها الثابتون على المبدأ ولا يحتاج اليها اصحاب الحجة الواضحة والمنطق القوي، واتهامي باللجوء الى هذه الاساليب فيه كثير من الشطط، وإذا كنت اقتطعتُ اجزاءً من نص مقال المدهون واحتكمت لما رأيته كافيا للتعبير عن المعنى، فإن دافعي الى ذلك كان إبراز الفكرة والمقصد من خلال ما قل ودل، وكلنا يعلم مدى محدودية المساحة في هذه الصفحة، هذا بالنسبة إلى الشكل. اما بالنسبة إلى المضمون، فهناك كالعادة اتفاق حول الاهداف: رفع الظلم وتحقيق العدالة لكل الناس في فلسطينالمحتلة وعودة جميع اللاجئين واسترداد القدس، لكن الخلاف هو دائماً حول الوسيلة: كيف؟ هناك أيضاً مساحة اتفاق مع ربعي المدهون حول اضطرار الفلسطينيين للتطبيع والتعايش مع الاسرائيليين، وعلى هذا القياس افتى الشيخ يوسف القرضاوي بجواز الصلاة في الاقصى للفلسطيني وعدم جوازها لغيره "طالما بقي الاقصى تحت أسنة الحراب الاسرائيلية"، البون إذن شاسع بين تطبيع الإجبار وتطبيع الاختيار. لسنا "مهووسين" بورقة منع هذا التطبيع الاخير، فاللفظ يوحي باندفاع طائش غير محكوم، لكننا نعض عليها بالنواجذ كونها من اثمن الاوراق المتاح لنا نحن المثقفين استغلالها لمقاومة الاحتلال. يخطئ المدهون أيضاً في حق نفسه عندما يخالفنا الى ما ينهانا عنه، فهو يستنكر اللجوء الى "تعميم الافكار" ثم يقول عن المثقفين المقاومين للتطبيع انهم "معذورون إذ ان ما انتجته اتفاقات السلام لم يترك سوى ذيول سلبية"، وهو ما يعني ان مواقف هؤلاء المقاومين انفعالية مرتبطة بمصير تلك الاتفاقات المهينة، بينما الواقع ان مواقف الغالبية منهم مبدئية ومعلنة منذ سنوات طويلة. يتساءل المدهون بشأن المؤرخين الاسرائيليين "ألا يستحق من يُكذب مزاعم اسرائيل ويطعن في صدقيتها ويساعدنا في معارك كسب الرأي العام العالمي كل الاحترام؟". هذا التساؤل يبرز اهمية فقه الاولويات لجهة ان كسب معركة الرأي العام مشروط بانصاته لدعاوانا واصغائه لشكاوانا، وهذا بدوره مشروط بمدى ما نحظى به من احترام في دوائر هذا الرأي العام، ثم إن هذا الاخير يرتبط ارتباطاً وثيقاً بمدى احترامنا لذواتنا وشعوبنا. بمعنى آخر، فإن إشراك الشعب في اختيار حكامه وتقرير مستقبله والتوقف عن تهميشه وانتهاك حقوقه الانسانية يُغني عن استجداء المساعدة من الآخرين، اما تشكيل حكومات من اشخاص غير محترمين معروفين بفسادهم واستمرار برلمانات مزورة طعن القضاء في شرعيتها، فهذا لا ينتج غير مزيد من ازدراء الرأي العام العالمي بنا واستهانته بحقوقنا واستحالة كسبه الى صفنا. إن الاتصال بالاسرائيليين - المؤرخين أو "معسكر السلام" - لا نتيجة له سوى ضياع المزيد من الوقت، والتسويف هو نغمة نتانياهو التي تعزفها له اميركا وأوروبا وترقص عليها حكوماتنا. كنا قبل معاهدات السلام ندعو الله ونتوكل عليه، وتعاظمت المأساة بعد هذه المعاهدات فأصبحنا ندعو اميركا وكل من لف لفها ونتوكل عليهم. إن كسب معركة الاستبداد في الداخل مقدمٌ على كسب معركة الرأي العام في الخارج، وإن كان هذا لا يعني ان نتجاهل الثانية حتى ننتصر في الاولى، فالمؤكد انه يعني ألا نتجاهل الأولى كلية كما هو جارٍ الآن لكي نلهث وراء اسلحة ثبت عدم صلاحيتها لخوض المعركة الثانية. * كاتب وجامعي مصري