في "دراسة" قدمها للمؤتمر الأخير لاتحاد الادباء العرب الكاتب عبدالله أبو هيف وتتناول بحسب عنوانها "الخطاب الثقافي العربي، وتحدي التطبيع" أحكام بالجملة في حق عدد من الكتّاب والمثقفين العرب تصمهم بأنهم من "دعاة التطبيع" و"الحوار مع الآخر الإسرائيلي والصهيوني"، وضمن قائمة أسماء تتجمع خليطاً غير متجانس. وفوق ذلك تخلو من حيثيات الاتهام وأسبابه، التي تظل - على ما يبدو - في بطن الكتاب، الذي لا يرى ضرورة لشرحها أو تبيانها، بل هو - على ما يبدو أيضاً - يعتمد على الثقة بينه وبين قراء دراسته العتيدة وعلى تسليمهم المسبق بصحة أحكامه وخلاصاته. وفي التوضيح نشير إلى أن السيد أبو هيف قد وضع الكتّاب العرب في ثلاث خانات ضمت الأولى "دعاة التطبيع" وهم أدونيس وإميل حبيبي ولطفي الخولي وعلي سالم وعبدالمنعم سعيد وهشام دجاني وهاني الراهب وربعي المدهون، في حين أسكن في الخانة الثانية أصحاب الموقف "غير الحاسم، المرتهن للمتغيرات والنزعة العلمية البراغماتية"، حيث "يقبل أصحابه بالحوار مع الآخر الإسرائيلي والصهيوني بشروط هي نقض الطابع الصهيوني لإسرائيل المتمثل في توسعها وعنصريتها وعدوانيتها"، وهو يضع مثالاً على ذلك الموقف الكاتب نبيل سليمان في كتابه "الثقافة بين السلام والظلام" العنوان الصحيح للكتاب: "الثقافة بين الظلام والسلام"، كما يضع بعضاً آخر من الكتاب من أولئك الذين يضعون شروطاً للتطبيع على سبيل ما يسميه "المقاطعة الانتقائية" كما عند محمد سيد أحمد، ويضيف إليهما آخرين ممن "لم يعنوا بتفصيل القول في مواقفهم" مثل رياض عصمت الذي "قرن التطبيع بالسلام"، في حين يسكن في الخانة الثالثة والأخيرة "الكتاب والمثقفون الرافضون للتطبيع" والذين "يقف على رأسهم سعدالدين وهبة وعلي عقله عرسان وناجي علوش وغازي حسين وسواهم". ومن التقسيم السابق، يمكن ملاحظة المأزق الأساس الذي تعيشه هذه الدراسة، والذهنية التي أنتجتها، والمتمثل في وصولها دون نقاش حقيقي وجدي إلى الخلاصات والأحكام في موضوع لا يزال ملتبساً وغير متفق عليه بين معظم الكتّاب والمثقفين العرب الذين يذهبون في تفسيرهم لمعنى التطبيع ومظاهره مذاهب شتى، تنبع أصلاً من وقوفهم على مواقع فكرية وسياسية مختلفة ومتباينة ليس من هذا الموضوع فحسب، ولكن أيضاً من موضوعات التسوية السياسية، أو ما بات يعرف في وسائل الاعلام ب "العملية السلمية"، ناهيك عن وقوع الدراسة المذكورة في خلط ظالم بوضع شروط على كل الكتّاب العرب من دون النظر إلى ظروف حياة وحركة كل واحد منهم، فاللوم والتخطئة والإدانة للكاتب العربي الذي يحضر من بلاده لزيارة إسرائيل، لا يمكن منطقياً أن يكون عادلاً في محاكمة الراحل إميل حبيبي مثلاً، المقيم في جليل فلسطين، والذي لا مناص في ظروفه من التعامل اليومي مع الإسرائيليين، سواء من خلال جواز السفر الذي يحمله أو حتى من خلال أبسط التعاملات اليومية بما في ذلك شراء علبة التبغ مثلاً. وهو خلط فوق أنه غير موضوعي، ينطق عن مزايدة من يضع يديه الاثنتين في الماء البارد ويطلب من أولئك الذين تصطلي أرواحهم قبل أيديهم بالنار ان يشعروا بالمتعة مثله. هل يمكن مثلاً محاكمة إميل حبيبي كما لو أنه كان يعيش في عاصمة عربية؟ إلى ذلك، يمكن ملاحظة أن عبدالله أبو هيف يخلط في فهمه التطبيع بين مفاهيم متعددة تجعله يتشكك في كل اجتهاد يمكن ان يصدر عن أي من زملائه الكتّاب، ولعل ذلك يبدو واضحاً من اتهامه الكاتب السوري نبيل سليمان، إذ هو لا يرى في ما يقوله سليمان اختلافاً في وجهات النظر أو اجتهادات تستحق النقاش، بل هي تفترض النقاش وهو يسارع إلى استخلاص أن تلك الاختلافات إنما تضمر نوايا للتطبيع، وهذه ذهنية أقل ما يمكن ان يقال فيها عزوفها عن منطق الحوار وتفضيل الارهاب الفكري بما فيه من اتهامات وتجريم. فكثير من أسئلة موضوعة التطبيع لا تزال بحاجة إلى مزيد من النقاش الموضوعي حولها، انطلاقاً من الرغبة في الوصول إلى قناعات مشتركة، تتجاوز التراشق بالتهم على تلك الصورة التي لا تخلو من سذاجة سياسية أحياناً. فعبدالله أبو هيف، على سبيل المثال لا الحصر، يدين أدونيس بتهمة أنه يعتبر العرب هم "الآخر"، أي أنه يحصر لفظة "الآخر" بالإسرائيليين فقط في علاقة بين عدوين يمكن لكل واحد منهما أن يكون الآخر بالنسبة لعدوه، هذا إذا لم نناقش فهمه الغريب العجيب لكلمة أدونيس في غرناطة والتي تنطلق من تفسير لمطلعها باعتباره اعترافاً بإسرائيل حين يذكر أدونيس أن إسرائيل "تنتمي جغرافياً، إلى منطقة من العالم تقوم ثقافتها أساساً على التمازج والتنوع"، والخطأ المهم هنا، هو ان هذا التفسير الميكانيكي يقوم على الخلط بين وجود إسرائيل في هذه المنطقة، وبين اعتبار هذا الوجود شرعياً أو عادلاًَ، لأن إسرائيل موجودة هنا فعلاً وليس في واق الواق، بل أن معضلة العرب أنها موجودة في بلادهم بالذات. هذا المنطق يدفعنا إلى رؤية الشك والتشكيك في نقاشات الكتّاب الآخرين، إذا لم تنطلق من مسلمات الكاتب عبدالله أبو هيف أو إذا لم تلتزم باستخلاصاته، بل أن أبو هيف في مقالة أخيرة له نشرتها صحيفة "الأسبوع الأدبي" الدمشقية عن اشعيا برلين، يختتم بالدهشة من أن بعض المثقفين العرب يلمّعون إشعيا برلين بسبب تأييد الأخير لقيام دولة فلسطينية مستقلة، أي أن أبو هيف لا يرى في هذا الموقف ما يستحق تمييزه، لا لشيء إلا لأنه، كما يقول أبو هيف، صهيوني، وبغض النظر عن الموقف السياسي الذي يمكن أن يأخذه. مشكلة منطق كهذا أنه يختصر الثقافة والفكر إلى ما يشبه الوصفات الجاهزة أو إذا شئنا الدقة القوانين وقوانين العقوبات بالذات، فصاحب هذا المنطق الذي يكرر في "دراسته" المذكورة أنه كتب كثيراً من "الدراسات والأبحاث" حول موضوعة التطبيع، لا يدرك أنه على الرغم من كل تلك "الدراسات والأبحاث" لم يقدم مفهوماً واضحاً، علمياً لمسألة التطبيع، بل ظلت أفكاره كلها تحوم حول فكرة سياسية واحدة هي رفض التعامل مع الإسرائيلي بغض النظر عن الظروف والمكان ومن ثم الاحتكام إلى لغة التخوين والإدانة، وهو منطق حجر الأساس فيه المقولة التي يروج لها أبو هيف وغيره حول هجمة تطبيعية مزعومة تتعرض لها الثقافة العربية وينبغي للمثقفين العرب أن يناموا مفتوحي الأعين كي لا تمر دون المواجهة. وهو زعم لا يقبل عقل أصحابه أن يفرق بين الحضور العربي في المنتديات الدولية وبين اللقاءات الثنائية المباشرة، ناهيك عن قبولهم مجرد التفكير في التفريق بدقة بين دعاة السلام في إسرائيل الذين يقرون الحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني بما فيها حقه في إقامة دولة فلسطينية مستقلة، وبين من يدعون علناً إلى الترانسفير. فالكل سواء بنظرهم، لأنهم جميعاً يؤمنون بالصهيونية، كما يقول أبو هيف، وهذا خلط يعيدنا من جديد إلى التسليم بالمقولة الصهيونية عن الانسجام الكامل في المجتمع الإسرائيلي، بل أنه أكثر من ذلك، يعيدنا إلى فكرة التطابق الكامل بين الصهيونية واليهود وإلى اعتبار كل يهودي صهيونياً، مهما حاول إخفاء ذلك. وهذه لعمري مقولة صهيونية صريحة، مهما زعم أصحابها من وطنية تزايد على الآخرين، إذ هل علينا حسب هذا المنطق ان نرفض شهادة غروسمان، اليهودي الإسرائيلي، عن الانتفاضة الفلسطينية مثلاً، لا لشيء إلا لأن أبو هيف يرفضها ويرفض من ثم صاحبها؟ إن هذه المسألة تجد تفسيرها المحزن في خلفية الوعي، حيث يؤمن أصحاب هذا المنطق بالصورة التي يرسمونها هم للمجتمع الإسرائيلي، والتي تنطلق من اعتبار هذا المجتمع كتلة متجانسة توحدها شعارات ومفاهيم سياسية واحدة صارمة، وهم حين يفكرون في وجود ثقافة ومثقفين داخل هذا المجتمع إنما يؤمنون ب "نظرية المؤامرة" التي تقوم على افتراض وجود المثقفين الإسرائيليين في قاعة مغلقة يديرها الموساد الذي يقدم لهم لائحة بما ينبغي أن يكتبوا فيه وبكيفية الكتابة. لا نريد هنا أن نضخّم حجم قوى الرفض والاختلاف في المجتمع الإسرائيلي، فهذا ليس شأننا، ولكننا نعتقد أن مجرد الانطلاق من فكرة رفض وجود الاختلاف أساساً، هو سذاجة لا تسهم إلا في رص صفوف المجتمع الإسرائيلي وتوحيده في مواجهتنا. فقضية الصراع العربي - الإسرائيلي التي سببت كل الآلام للفلسطينيين والعرب لا يمكن إلا أن تكون لسلبياتها بعض الانعكاسات داخل المجتمع الإسرائيلي ذاته، مهما كانت قوة قادة هذا المجتمع وجبروت سطوتهم. وضمن سياق كهذا تأتي تصنيفات أبو هيف وأحكامه بحق الكتّاب العرب في صورة لا تدع مجالاً للمناقشة. فهي تتهم بالتطبيع خليطاً غير متجانس من الكتّاب، وفي الوقت نفسه لا تذكر حيثيات تهمة كل واحد منهم، بل هي بعدم "توضيح" تلك الحيثيات تضع الجميع أمام إمكانية واحدة فقط، هي التسليم بصحة آراء أبو هيف ودقتها. بؤس هذا المنطق مجافاته الفجّة لأية مسوغات منطقية، وبؤس أنه يحتكر لنفسه الوطنية، ويخوّل نفسه الحكم بالاتهام أو البراءة على الآخرين وحق محاكمتهم والزّج بهم خارج جنة الطهارة القومية.