عدد من أثرياء القاهرة يفضل مقابر مزينة بالرخام الايطالي، وأحياناً مكيفة، وذات واجهة بحرية بعيداً عن قيظ الصيف القاهري المشبع بالرطوبة. آخرون يفضلونها مقابر أثرية ذات مقاصير خشبية وقباب حجرية منحوتة من الصخر. ربما يفضل البعض الموت في مقابر بعينها، البساتين مثلاً اذا كان من عشاق عبدالحليم حافظ، أو مقابر الإمام الشافعي لو كان المتوفي ذا ميول ملكية، أو تجري في دمائه آثار الأسرة المالكة، ويحن الى جوار قبر الخديو توفيق أو ابراهيم باشا. أحياناً يفضل البعض المقابر الحديثة مثل جبانة مدينة نصر، أو تلك التي تقع على طريق السويس عند الكيلو 29، ويطلقون عليها تمييزاً المقابر السياحية. على الجانب الآخر يفضل فقراء القاهرة سكنى المقابر نفسها بالمواصلات نفسها تقريباً ولأسباب اقتصادية بحتة و لا سيما ان القاهرة تلفظ من فيها، ولم تبقى قادرة على احتمال المزيد من المغامرين الذين يقصدونها من الريف والصعيد. بين رغبات الاثرياء في الراحة الأبدية المكيفة وحاجة الاحياء لبعض الراحة- ولو في مقبرة- فإن عالم المقابر يبدو شديد الثراء بتفاصيله الغريبة والطريفة. كلمة السر هنا بين الأموات والاحياء هي مرفوض، فالجميع يرفض نقل المقابر الى خارج حدود العاصمة نحو الصحراء كما هو مخطط، ويسعى إليه محافظ العاصمة الدكتور عمر عبد الآخر. مشروع المحافظ الذي يهدف الى إخلاء نحو ثلث مساحة القاهرة الذي تحتله 22 مقبرة قديمة وحديثة يصطدم بقدسية الموت ورفض جماعي للعبث بالرفات، بل ورفض ثلاثة أرباع مليون مواطن يسكنون فوق المقابر ولا يجدون بديلاً، فضلاً عن تراث هائل من الاسطورة السوداء لأرواح الموتى التي يشيعون انها تسيطر على تلك المناطق مع دخول الظلام، رغم ان القاهرة لا تنام ولا يغمض لها جفن. القرار الأول لنقل المقابر كان في العام 1933 وحدد نقل مقابر "باب النصر" - أقدم مقابر القاهرة على الإطلاق - إلا أن القرار اصطدم بقدسية الموت، وظل حبراً على ورق، ربما تلقى محاولات محافظ القاهرة المصير نفسه. "باب النصر" من المقابر الأثرية عمرها يزيد على مئة عام، وتشاركها المواصفات الأثرية مقابر الإمام الشافعي والإمام الليثي يطلق عليها مقابر الامامين. وهناك "القرافة الكبرى" في السيدة عائشة قرافة تعني مقبرة في العامية المصرية وقرافة سيدي جلال، والسيدة نفيسة والمجاورين على طريق صلاح سالم، وباب الوزير خلف القلعة. هناك قرافات حديثة نسبياً، مثل الخفير في العباسية شرق القاهرة وسيدي عبدالله ابو حمزة امام المجزر الآلي في ضاحية البساتين. وهناك قرافة البساتين القديمة والجديدة في اتجاه كوبري الفردوس، وقرافة سيدي عقبة الجديدة، والنخالة القديمة في جوار مسجد عمرو بن العاص، والنخالة الجديدة في طريق البساتين. وأخيراً هناك قرافات جديدة تماماً لخدمة الطبقات الثرية الجديدة في القطامية والسويس وطريق السويس الصحراوي عند الكيلو 29 وقرافة مدينة نصر السياحية، والوفاء والأمل، وقرافة طريق الفيوم، وقرافة 6 أكتوبر على بعد 45 كيلو متراً من نادي الرماية في اتجاه الاهرامات، وجميعها يشكل عالماً فريداً قوامه 22 قرافة تحوي 250 ألف مقبرة، كل منها تتسع لعائلة بأكملها. يخدم هذه المقابر 850 من متعهدي الأموال يسمون في القاهرة تُربية، تضمهم رابطة يرأسها أقدم تربي في مصر الحاج عبدالعزيز صالح شيخ الرابطة والذي توارث المهنة أباً عن جد، وأسرته تعمل في مجال "توريد الأموات" منذ 350 سنة كاملة، وجده أحمد صالح حاصل على شياخة المهنة بقرار من الخديوي توفيق المدفون في مقابر الإمام الشافعي، والتي يرعاها الحاج عبدالعزيز، ويروي اشجارها يومياً وبانتظام منذ عام 1954. عبدالعزيز لا يقبل أية جثة إلا إذا كان لها مقبرة، ومعها تصريح بالدفن موقع عليه من طبيب وزارة الصحة، وبتاريخ محدد ورقم محدد. يعدد عبدالعزيز مقابر المشاهير ويعرفها واحدة واحدة، فخلاف مقابر أهل البيت والمشايخ، فإن مقابر البساتين تحوي قبر العندليب الأسمر عبدالحليم حافظ، وعلى رأس شارعه هناك قبر مداح الرسول صلى الله عليه وسلم المطرب محمد الكلاوي. الشارع يتحول الى ما يشبه أحد شوارع القاهرة يوم ذكرى عبدالحليم حين يزور القبر مئات من الفتيات والشبان من عشاق رومانسية العندليب وتدوي في المقبرة أغانيه الرومانسية الدينية. وفي قرافة الإمام الشافعي توجد مقابر العائلة المالكة بداية من الخديوي توفيق وابراهيم باشا والوالدة باشا الى الامير محمد علي توفيق، وكان هناك قبر الملك فاروق قبل ان ينتقل الى جوار قبر جده في مسجد الإمام الرفاعي في حي القلعة. جميع هذه المقابر كانت موشاة بالحرير والذهب والفضيات والرخام الايطالي والقناديل، وجميعها بيعت في مزاد علني في الحديقة الخارجية لوزارة الاوقاف بعد قيام ثورة تموز يوليو 1952. كما تعرض بعضها للسرقة. تحوي مقبرة السيدة نفيسة مقابر علي باشا مبارك، ومحمد باشا فريد والشيخ محمد رفعت أحد مشاهير قرّاء القرآن في مصر والكاتب الصحافي مصطفى امين وأمينة السعيد. الدولة تملك أراضي المقابر، ويجوز للدولة الترخيص بإقامة مقابر خاصة خلاف المقابر العامة، تحت هذه اللافتة العريضة تدور أكبر تجارة كبرى للمقابر في مصر، ولا سيما بعدما ضاقت الارض بما فيها من جثث. ورغم الترخيص بمقابر جديدة، إلا أنها تظل عاجزة عن استقبال موتى مدينة ال 12 مليون نسمة. ثمن المقبرة في القاهرة تجاوز الخمسة آلاف جنيه ويصل السعر الى 50 ألف جنيه في المقابر السياحية. ولكل مقابره التي تحددها قدراته المالية. والتقديرات القليلة تشير إلى وجود ثلاثة أرباع مليون مصري يسكنون المقابر. البعض يعود بهذه الظاهرة الفريدة الى الحرب العالمية الثانية أو "حرب هتلر" كما يسميها العامة في مصر، إذ اضطر السكان خاصة في اتجاه الصحراء الغربية الى الهجرة الى القاهرة خوفاً من شبح الحرب وقامت الشركة بتمكينهم من احواش المقابر الفناء الخارجي حتى تنتهي الحرب. انتهت "حرب هتلر" ولم يخرج الغزاة من المقابر، ولا سيما انها كانت جيدة وذات مبان على الطرز الحديثة، فضلاً عما فيها من مشربيات ومقاصير. ومع مرور الوقت وزيادة السكان والهجرة الداخلية قرر محافظ القاهرة في الستينات حمدي عاشور تمكين الجمهور من أرض المقابر التي تزيد على مئة متر. وفعلاً تمكن جمهور كبير من دخول المقابر واحتلالها بل تم ادخال كل المرافق والخدمات اليها مثل المياه النقية والصرف الصحي والكهرباء والهاتف. وحالياً يحرص الاثرياء على تزويدها بصالونات للراحة ومياه مثلجة وتكييفات للترطيب في مقابر أقل ما توصف بأنها خمس نجوم