أُعيد تنظيم القسم المولج بالأبحاث في شركة "آي بي إم" اسوة بما حصل في اقسام عدة من الشركة، في الفترة منذ تسلّم لُوي غستتنر الإبن رئاسة مجلس ادارة المؤسسة العملاقة قبل خمس سنين. ولم يُعاود تنظيم هذا القسم المهم في "آي بي إم" فحسب، في نصف العقد الماضي، بل أُعيد النظر في وظيفته ومهماته ايضاً. منذ فترة طويلة والقسم المكلف باجراء ابحاث الشركة، محركٌ لا نظير له لملكة الابتكار في قطاع الكومبيوتر برمته. فمختبرات القسم انتجت لغة البرمجة "فورترن" وابتكرت قواعد المعلومات الترابطية، وشريحة الذاكرة "دي - رام" D-Ram وتصميم ريسك RISC الخاص بالشرائح، اضافة الى شبكات كومبيوتر مرتبطة بدارة واحدة، ناهيك عن ان القسم "خرّج" خمسة اشخاص نال كل منهم جائزة نوبل. وعلى رغم ذلك، وُجّهت اخيراً انتقادات لاذعة الى جهود "آي بي إم" في مجال الابحاث، منها ان مختبراتها منعزلة جداً ويعيش مسؤولوها في برج عاجي ولا تستفيد منها الشركة الا قليلاً. والحقيقة هي ان دراسة قامت بها "آي بي إم" في بداية التسعينات، كشفت ان بين اثنين وخمسة في المئة فقط من نشاط قسم الابحاث في الشركة أنتج خدمات ومنتجات تعود بالنفع على زبائن الشركة. وبعد عملية اعادة التنظيم، اصبحت ابواب قسم الابحاث في الشركة الآن مشرّعة اكثر مما كانت في الماضي، وبات الباحثون في الشركة يمضون نحو 25 في المئة من اوقاتهم في فترات الدوام، مع الزبائن، كما ازداد تعاون القسم مع الجامعات الرئيسية. وباتت الشركة تستخدم مزيداً من غير العاملين فيها، إمّا ليتفرغوا لأنشطة معيّنة او لينشطوا في مجالات محددة فترة قصيرة من الزمن. وظهر للعيان اسلوب "آي بي إم" الجديد في العمل الاسبوع الماضي عندما عقد الباحثون وكبار الناشطين وطلاب الشهادات العليا، ممن يعملون في الشركة خلال فترة الصيف، وغستتنر نفسه لقاءات ليوم واحد تكرّس للتفكير وطرح التوقعات لما سيحمله المستقبل في مجال الكومبيوتر. وتضمّنت اللقاءات بحثاً طليقاً غير مقيّد ولا محدّد في ما ستكون عليه التكنولوجيا بحلول العام 2020. وعلّق غستتنر على اللقاءات بأنها سمحت بالنقاش في المثال الفعلي الذي ستكون عليه "آي بي إم" الجديدة. وكان معظم التغيير في الشركة كُرّس لمواجهة التحديات التي تزداد امام الشركات كافة ولا سيما في قطاع التكنولوجيا. وتتمثل التحديات في كيفية رعاية الابتكار واعلاء شأنه وترجمة الافكار والابتكارات الجديدة الى منتجات وخدمات وارباح. وتوجد أدلة تشير الى ان اداء "آي بي إم" في مجال تحويل الافكار الجديدة الى منتجات وخدمات، يتحسّن في صورة ملحوظة. فأبحاث الشركة في مجال خزن المعلومات تقف وراء ارتفاع شأنها في مجال سواقات الاقراص الخاصة بأجهزة الحضن، وهو مجال يوفر 40 في المئة من ارباح "آي بي إم". وصمّم الباحثون في الشركة ايضاً شرائح متدنية الكلفة وفائقة السرعة تُستخدم في اجهزة الهاتف النقّال واجهزة لاسلكية اخرى ما قد يفتح امام الشركة سوقاً جديدة كبيرة. ويقول احد المحلّلين في شركة "ميريل لينش" ستيفن مايلونوفيتش: "كانت آي. بي. إم دائماً تتمنّع عن تسويق ابحاثها لكن هذا تبدّل الآن ولم يعد سِمَة نشاط الشركة". ويذكر ان نشاط "آي بي إم" انتعش على نحو ملحوظ منذ تسلّم غستتنر المسؤولية العليا فيها عام 1993، اذ خفّض عدد العاملين في الشركة التي اعلنت عامذاك عن خسائر بلغت ثمانية بلايين دولار. لكن عام 1997 شهد ازدياد ارباح الشركة الى 6.1 بليون دولار من عائدات بلغت 78.5 بليون دولار، ما كان بمثابة عودة باهرة ل "آي بي إم". ولكن اذا ارادت الشركة لنشاطها ان ينمو على نحو جيد في المستقبل يتعيّن على مختبرات الابحاث فيها ان تمهّد الطريق لمثل هذا النمو، ما يعني انتاج ما يكتسح السوق اكثر من مرة وبأكثر من نتاج واحد بالنظر الى ضخامة الشركة. ويقول الاستاذ في كلية التجارة في جامعة هارفرد، ديفيد يوفي: "يتمثل التحدي الحقيقي الذي تواجهه "آي بي إم" في وجوب استحداثها تكنولوجيا ثورية تقضي على التكنولوجيات المنافسة كافة كما كانت فعلت في مجال الاجهزة الضخمة في الستينات والسبعينات". وأضاف: "ليس من البيّن الآن ما اذا كان بوسع الشركة ان تكرر نجاحاتها السابقة". وادراكاً منه لاهمية الاستثمار في المستقبل، لم يُقدم غستتنر على خفض موازنة قسم الابحاث في الشركة، كما فعل بالنسبة لموازنات اقسام اخرى. ففي العام الماضي بلغت موازنة هذا القسم الأثير 600 مليون دولار وازداد عدد العاملين فيه الى 2785 وهما رقمان اعلى بكثير مما كانا عليه عام 1993. ويقول عميد قسم الابحاث في جامعة ستانفورد تشارلز كروغر: "أعطت آي. بي. إم لقسم الابحاث فيها قيمة ومكانة رفيعة واستثمرت فيه حتى عندما كانت احوالها متأزمة وصعبة". وما جرى الاسبوع الماضي، من لقاءات، حضرها 1200 من الباحثين وكبار العاملين في الشركة والخرّيجين الذين يعملون في فصل الصيف في مختبرات الشركة السبعة الموزّعة على انحاء العالم، كان لحضّ هؤلاء جميعاً على التفكير بغير الصغائر وفي المدى الطويل ولصالح النشاط التجاري لجهة الربحية. وغالباً ما تنظم الشركة لقاءات للمفكّرين والمبتكرين لكي ينصرفوا كلياً الى التفكير في المسائل المطروحة وغير المطروحة واستخلاص نتائج وتوصيات. لكن الشركة لم تنظم في تاريخها مثل اللقاءات التي عُقدت الاسبوع الماضي، والتي كانت بمثابة جهود بُذلت للجمع بين اشخاص ينظرون الى الامور كافة من مختلف الزوايا وانطلاقاً من مواقف فكرية وغير فكرية مختلفة، على أمل ان تخلص هذه اللقاءات الى تفكير جديد، وان تبهر الخريجين، الذين كانوا خلال فترة قصيرة طلاباً لعلوم الكومبيوتر، لعل واحداً او اكثر منهم يخلص الى ان "آي بي إم" تستحق ان يعمل فيها عالمِ الكومبيوتر يوماً ما. وُعقد اكبر هذه اللقاءات في مركز "تي. جي. واتسون" للابحاث في بلدة يوركتاون هايتس، في ولاية نيويورك، وهو المقر الرئيسي لقسم الابحاث في شركة "آي بي إم". وبدأت اللقاءات بخطاب قصير ألقاه غستتنر شدد فيه على ان الغاية الاكبر من البحث العلمي هي حل المشاكل الفعلية. واضاف: "اود ان تخلص هذه اللقاءات الى اكثر من مجرد تفكير لامع لا صلة له بالواقع ومشاكله الفعلية. فأنا أود ان تخرج هذه اللقاءات بأشياء ملموسة ذات شأن، وبنتائج عملية خطيرة". وأمضى الحضور يومهم، في المقام الاول، في "لعب" ألعاب تتطلب التفكير والتبصّر. وانقسموا في هذا الى فئات لا يزيد عدد المشاركين في كل منها على اثني عشر شخصاً. ومن الاسئلة التي طُرحت على الحضور: "كيف سيمضي طفل او حدث يومه عام 2020"؟ و"كيف ستغيّر التكنولوجيا مظهر المنزل العائلين ووظيفيه"؟ و"ماذا ستكون عليه التطبيقات الاكثر عمقاً وتأثيراً التي اشتهرت اكثر ما اشتهرت عندما استُخدمت في جهاز "آي بي إم" المسمى "ديب بلو" الذي يلعب الشطرنج وتغلّب فيها على بطل العالم غاري غسباروف في العام الماضي". ولا يعرف احد الآن ما ستسفر عنه تلك اللقاءات. لكن كل ما تم قوله وفعله فيها سُجّل. وسيقوم الباحثون في الشركة بالتنقيب في هذه التسجيلات كافة وتفحصها على مدى اسبوعين، أملاً بالعثور فيها على "كنوز".