تتحوّل حكومة الولاياتالمتحدة الاميركية الفيديرالية بسرعة عن الانفاق على شراء اجهزة الكومبيوتر الاسرع والاقوى في العالم الى الانفاق على الابحاث العسكرية الخاصة بالسلاح فيما يزداد طلب العلماء الاميركيين على اجهزة الكومبيوتر الضخمة القوية ويتجاوز كثيراً المتاح والمتوافر منها. ولهذا يقول العلماء الاميركيون المدنيون كمثل الذين ينشطون في مجالات التنبؤ بحالات الطقس ومنشأ العالم كله وفيزياء السيّارات والنجوم وكيميائها والكيمياء المعقّدة انهم يضطرون احياناً الى الدخول في تنافس حاد مرير مع الباحثين العسكريين ومع بعضهم البعض على الاجهزة التي يحتاجون اليها في حساب المشاكل المعقدة جداً بحيث لا تستطيع حلها على نحو كافٍ إلا اكثر كومبيوترات العالم سرعة وقوة. ويقول كريستوفر بين، الباحث في "مجلس الموارد الطبيعية الخاصة بالدفاع"، وهو هيئة تدرس السياسات وأصدرت اخيراً تقريراً تنتقد فيه الطريقة التي توزَّع بها الاجهزة القوية الضخمة الموجودة في الولاياتالمتحدة على الذين يستخدمونها كافة: "ان ما يحدث حالياً هو عكس التحول الى الاستخدام السلمي، فالابحاث توجَّه على نحو يخدم مصالح برنامج التسلح النووي وهذا امر يختلف عن توجيه هذه الابحاث نحو ما هو في مصلحة الباحثين في الشأن الفضائي". وبالنسبة الى العلماء الذين ينشطون في مجال الابحاث العلمية الاساسية، تحتفظ حكومة الولاياتالمتحدة تقريباً بالاوراق كافة الخاصة باستخدام اجهزة الكومبيوتر الضخمة القوية فهذه الحكومة تشتري نحو 19 في المئة من هذه الاجهزة التي تُصنع في الولاياتالمتحدة سنوياً وتشتري مئة في المئة من الاجهزة الممتازة الافضل التي تحقق فتحاً جديداً في مجالي السرعة والقوة. ولا يستطيع تمويل مشتريات من هذا القبيل إلا حكومة أو هيئة بحجم حكومة. "آي. بي. ام" وآخر عقد منحته حكومة الولاياتالمتحدة كان الشهر الماضي لشركة "آي. بي. ام" لقاء أسرع جهاز كومبيوتر في العالم، وكانت قيمة العقد 85 مليون دولار. ومن المنتظر ان يبدأ الجهاز في العمل سنة 2000، ولا تزال الاجهزة التي تمّ انتاجها في السنوات السابقة تكلف على الاقل عشرة ملايين دولار في السنة الجارية. ومنذ انتهاء الحرب الباردة كانت الحكومة الاميركية توزع بالعدل والقسطاس تقريباً المتوافر من اجهزة الكومبيوتر الضخمة القوية وخدماتها على العلماء الناشطين في المجالين المدني والعسكري، لكن هذا التوزيع صار بنسبة اثنين الى واحد لصالح "العسكريين" في سنة 1996 وستصبح نسبة التوزيع خمسة الى واحد لصالح "العسكريين" بحلول عام 1999. والى حد بعيد يعود التنافس بين العلماء "المدنيين" وزملائهم "العسكريين" الى الخلاف والتباين بين موازنتي كل من وزارة الطاقة ومؤسسة العلوم الوطنية فمؤسسة العلوم الوطنية تنفق على اجهزة الكومبيوتر الضخمة القوية التي يستخدمها الباحثون المدنيون. وتدنى هذا الانفاق من 72 مليون دولار عام 1996 الى 68 مليون دولار عام 1997 الماضي. ولن يزداد إلا الى 74 مليون دولار عام 1999 المقبل. لكن الانفاق على اجهزة الكومبيوتر الضخمة القوية المستخدمة في الابحاث العسكرية يأتي من وزارة الطاقة الاميركية ومن خلال "مبادرة الحساب الاستراتيجي المُسرَّع" أو أي اس سي آي أو أسكي التي جاءت من لدنها. وأنفق برنامج "أسكي" 198 مليون دولار على الاجهزة الضخمة القوية عام 1996، وينوي العاملون فيه انفاق 518 مليون دولار عام 1999 على مشاريع وأبواب شتى منها قيام شركتي "آي بي ام" و"سيليكون غرافيكس انك" بصنع الجيل المقبل من اسرع كومبيوترات العالم كله. والمعلوم ان الاجهزة القوية الضخمة هي من اسرع الاجهزة في جيلها، وهي الى هذا تحل المشاكل العلمية والهندسية والتخطيطية والانتاجية التي تتطلب التعامل مع عدد كبير جداً من المتغيرات الديناميكية المتفاعلة مثل تلك التي تتناولها دراسة المناخ الارضي وارتفاع الحرارة في الكرة الارضية. ويحتاج العسكريون الى الاجهزة القوية الضخمة السريعة في صنع نماذج تزداد دقة باطراد للانفجارات النووية، وفي تصميم نماذج مفصّلة ذات ثلاثة أبعاد تصوِّر تقادم مكونات القنابل وخصوصاً المتفجرات البلاستيكية التي تحيط بالسطوح الكروية لسلاح من الاسلحة. وفي اعتقاد وزارة الطاقة ان تصميم نماذج من هذا القبيل يساهم في صيانة مخزون الولاياتالمتحدة أو ترسانتها من الاسلحة، وفي بقائها من دون الاضطرار الى تجربة القنابل بالفعل، اذ ان اجراء التجارب يخالف احكام "معاهدة تحريم اجراء التجارب كافة على الاسلحة النووية". وعلى رغم ان وظيفة برنامج "أسكي" الاولية هي سد حاجة مختبرات الاسلحة الاميركية الى خدمات اجهزة الكومبيوتر، يُطلب من مديري هذا البرنامج اعطاء عشرة في المئة من الموارد الكومبيوترية المتاحة لهم الى القائمين بالابحاث غير العسكرية. والمعلوم ان مختبرات الاسلحة الاميركية موجودة في "سانديا" و"لورنس ليفرمور" و"لوس ألاموس". لكن هذا لا يطمئن بالضرورة العلماء "المدنيين" ولا يُدخل السرور الى نفوسهم، اذ ان عدداً كبيراً منهم يتساءل عمّا اذا كان يحق لوكالة مكلفة بدراسة الاسلحة النووية، او عمّا اذا كان من المنتظر من وكالة من هذا القبيل، ان تختار هي من بين المشاريع غير العسكرية ما يستحق خدمة من اجهزة الكومبيوتر القوية الضخمة. وتعتبر العشرة في المئة "الممنوحة" لمؤسسة العلوم الوطنية تعدياً سبّب حتى الآن نشوء معركة ليست "كيِّسة" فقد قررت مؤسسة العلوم الوطنية العام الماضي شد الحزام ودمج أربعة مراكز تستخدم الاجهزة القوية الضخمة وجعلها مركزين فقط. لكن عندما سحبت المؤسسة تمويلها لمركز كارنيغي ميلون الخاص بجامعة بيتسبيرغ، تحدت الجامعة المؤسسة وردّت طلبها الذي كان فحواه نقل جهازين كانا فيها الى مركز شقيق موجود في سان دييغو. والتفافاً على المؤسسة، طلبت الجامعة تمويلاً من "أسكي". وفي الشهر الماضي اعلنت وزارة الطاقة انها وافقت على الصفقة ما جعلها عملياً مسيطرة على كومبيوترين ضخمين قويين تابعين لمؤسسة العلوم الوطنية تبلغ قيمتهما المقدّرة 30 مليون دولار. وأثار ما فعله مركز كارنيغي ميلون جدالاً حاداً لا لأنه وضع وكالة فيديرالية في مواجهة غير ودية مع وكالة فيديرالية اخرى، بل لما يترتب عليه من نتائج بالنسبة الى الابحاث العلمية الاساسية. ويشير المدافعون عمّا فعلته الجامعة الى ان صفقتها مع وزارة الطاقة ستموّل مركز بيتسبيرغ بموجب العشرة في المئة من موازنة "أسكي" المكرَّس للابحاث المدنية. ولكن عدداً كبيراً من العلماء الاكاديميين يبدي قلقاً من المعاني الضمنية المهمة المحتملة بالنسبة الى انواع الابحاث التي ستُجرى بواسطة اجهزة جامعة بيتسبيرغ وبالنسبة الى أيّ من العلماء الباحثين الذين سيُسمح لهم أوله بالمشاركة في استخدام هذه الاجهزة، وذلك من خلال اعطاء السيطرة على اجهزة مؤسسة العلوم الوطنية القوية الضخمة الى وكالة همّها الاول والاخير محاكاة انفجارات الاسحلة النووية. ويقول لاري سَمَرْ، عالم الفيزياء الفضائي ومدير "المركز الوطني لتطبيقات الحاسوب الضخم القوي" في جامعة الينوي في بلدة اوربانا - شامبين، ان ازدياد الخلل في القوة الكومبيوترية المتاحة لصالح العسكريين سيسبّب ايضاً تخلي الخبرة الانسانية المجربة عن ميدان العلوم المدنية. ويضيف سَمَرْ: ما لم نفعل شيئاً لمواجهة هذا الخلل سيصبح لا مفر من اتجاه الباحثين العلميين الاكاديميين نحو اجهزة وزارة الطاقة القوية الضخمة، ما يجعلنا نتساءل عمّا سيكون عليه وضع البحث العلمي الاساسي". ومن المغريات الكثيرة التي يستطيع برنامج "أسكي" ان يقدمها نيته صنع كومبيوتر قوي ضخم بوسعه القيام بمئة تريليون عملية حسابية في الثانية بحلول عام 2005، ما يشكل قوة تزيد مئة مرة على قوة أسرع كومبيوتر موجود في عالم اليوم. ويعترف الباحثون المدنيون بأن تقدماً من هذا القبيل سيؤدي من دون اي شك الى تقدم واسع النطاق في تصميم الكومبيوتر ما يخدم في آخر المطاف البحث العلمي الاساسي. لكن البعض يخشى من ان حاجات الحاضر الملحّة لاجهزة قوية ضخمة تقع ضحية التجاهل والاهمال. وعلى سبيل المثال يؤكد المركز الوطني للابحاث الفضائية الخارجية ان الولاياتالمتحدة باتت تحتل المرتبة السادسة في العالم بعد المانيا وكندا وبريطانيا وفرنسا واستراليا في مجال الطاقة على الابحاث المناخية. ويقول بيل بَزْبي، مدير القسم العلمي الكومبيوتري في المركز: "يقوم المركز الاوروبي الخاص بالتكهن بالاحوال الجوية في المدى المتوسط بأبحاث مناخية لا تستطيع أية هيئة اميركية القيام بها". وعلى رغم ان ادارة الرئيس بيل كلينتون شدّدت علناً على اهمية الابحاث الفضائية والجوية في مجال تهدئة المخاوف من ازدياد حرارة الكرة الارضية، لم تخصص حتى الآن أية اموال لتطوير جهاز الكومبيوتر القوي الذي يحتاج اليه رسم نموذج للتقلبات الجوية والمناخية. ويقول موريس بلاكمون، الناشط في مجال التكهن بالاحوال الجوية ومدير قسم ديناميكيات الاحوال الجوية وأحوال العالم في المركز المشار اليه: "نتخلف عن اليابانيين بمقدار عام واحد على الاقل". ويقول بلاكمون، على سبيل المثال، ان الباحثين اليابانيين تمكنوا اخيراً من تصميم نموذج للطقس بالغ الاهمية على جهاز كومبيوتر ياباني من نوع "ان اي سي" في خلال اسبوع واحد فقط. لكن تصميم نموذج من هذا القبيل يستغرق بين خمسة وستة أسابيع على كومبيوتر "كري ريسيرش سي 90" الموجود في المركز منذ نحو 1980. ويعترف المسؤولون في وزارة الطاقة الاميركية بأن الفجوة تتسع بين القوة الكومبيوترية المدنية وبين القوة المماثلة العسكرية لكنهم يقولون ان من الخطأ الانحاء باللائمة على تنامي برنامج "أسكي". ويقول ديفيد كوبر، المدير المشارك للحوسبة في "مختبر لورنس ليفرمور الوطني": "أنا لا اعتقد ان الامر بسيط، فأنا اتعاطف الى حد ما مع الوضع الذي هم أهل مؤسسة العلوم فيه. وأنا قلق حيال احتمال تخلف مراكز مؤسسة العلوم الوطنية. ويضيف كوبر ان من الخطأ الانحاء باللائمة على برنامج "أسكي" لأنه يستحوذ على المواهب النادرة "فالتهديد الاكبر للبحث العلمي يأتي من سيليكون فالي الذي أصبح الهوليوود الجديدة، فعدد كبير من العلماء يرغب حالياً في الانتقال الى هذه المنطقة وفي التنعم بالكنوز"