اجد نفسي في حيرة حينما احاول تحليل او معالجة اية ازمة تتعلق بالعراق. تعود الحيرة الى ان العراق - الدولة والشعب - جزء من الأمة العربية اعطى الكثير لثقافة وحضارة وعلوم الأمة، كما اعطى نموذجاً محتملاً لتركيب اجتماعي وطني يتجاوز الفروقات العرقية والدينية والمذهبية. من هذا المنظور يتطلع العرب في كل اقطارهم الى العراق كطاقة مبدعة فاتت فرصة تاريخية على صيرورتها. لذا يبقى العراق حاضراً في خطط الأمة اضافة الى حضوره في وجدانها. لكن استعمال كلمة "خطط" يفترض ان لدى الأمة العربية رؤى مستقبلية تستوجب اعداد البرامج التي من شأنها ان توفر للمجتمعات العربية كلها منطلقاً تؤمن للاجيال القادمة لا الفسحة الجغرافية التي تقع فيها الاقطار العربية بل الفسحة التي يمكن للطاقات المكبوتة ان تستأنف فيها عطاءاتها بحرية ايضاً. لماذا نستهل هذه العجالة بما هو معروف ومثبت؟ يعود هذا التأكيد والتذكير الى ان حال التشرذم في الأمة العربية تكاد تخرج الذاكرة القومية من تفكيرنا وسلوكنا، وتجعل من الولاءات الضيقة المقياس الذي يحدد مدى التزاماتنا. صحيح ان سيادة الدول العربية هي من صلب الشرعية السائدة، لكن من المنظور القومي هذا لا ينفي - او يلغي مسؤولياتنا تجاه بعضنا. فاذا تم حذف الانتماء المشترك للهوية العربية تحولت الأمة الى مجموعة من الاقطار المتناحرة والمتخاصمة جهات ما يفرقها عن بعضها هو الخط، وغدت وحدة مصير الشعب العربي في مختلف اقطاره الشواذ. يدفعنا الى هذه المقدمة ما نشاهده الآن على الساحتين الفلسطينيةوالعراقية. في فلسطينالمحتلة نجد ان اصرار اسرائيل في تأكيدها على اولوية شروط توفير "الأمن" لها - وكما تفهمه وتفسره هي - بمثابة وصفة من شأنها زرع بذور الفتنة بين ابناء الشعب الفلسطيني. هنا يتعين علينا جميعاً ان نقوم بعمل عربي موحد من شأنه احتضان الوحدة الوطنية الفلسطينية، وأن نساهم بشتى الوسائل المتوفرة لدينا في درء مثل هذا الخطر الذي يتفاقم يوماً بعد يوم. صحيح ان الولاياتالمتحدة راعية المسيرة السلمية، ستحاول ان تحجب عن الشعب الفلسطيني فرص احياء انتماءه القومي الذي اكاد اقول وحده الضامن لتعميق جذوة الوحدة الوطنية لشعب فلسطين. اما منطق التجزئة الذي يحمّل الفلسطينيين وحدهم مسؤولية مجابهة العدوانية الصهيونية وصد اطماعها في المنطقة في شأن الامعان في تفكيك عرى الروابط العضوية القائمة بين ابناء الأمة، وتكون النتيجة بالتالي بأن فلسطين لم تنسلخ عن امتها فحسب، بل، وفي الوقت نفسه تكون قد انسلخت عن مصادر قوتها وشرعية نضالها وأحقية اهدافها. قد نكون نحن بدورنا نحمل الشعب الفلسطيني المرهق المعذب المحروم من حقوقه الوطنية والمدنية اكثر من طاقته. لكن التقصير الكامن في الوضع العربي الراهن لا يجوز ان يتم التمرد عليه من خلال الانفصال عنه، بل بالاندفاع المدروس نحو معالجته وتصحيح من خلال وضوح الرؤيا وتعبئة المجتمعات الأهلية في مختلف ارجاء الوطن العربي الكبير. من جهة ثانية وفي الساحة العراقية أصبح الحال هناك شبيهاً بالحال الفلسطينية، وبات شديد التعقيد، ما اربك الامكانات الفكرية والسياسية، وحال دون قدرتها على فهم ما تنطوي عليه الازمة الحادة في العراق من احتمالات تفتيت داخل العديد من الاقطار العربية، بعد ان اسهم نظام العراق في التفريق بينها. هنا لا بد من اعادة القول ان النقمة على نظام العراق يجب ان لا تبرر مطلقاً سياسات التحريض على شعب العراق. من هذا المنظور يتبين لنا المأزق الذي نجد انفسنا جميعاً فيه، وهو مأزق ناتج عن شعور عارم بالعجز، لدرجة ان اي استئناف لنشاط او لمبادرات شجاعة يكاد ان يصير من المستحيلات. زد على ذلك ان بعض المثقفين "الواقعين" ارتضوا التخلي عن دور "المنبه" وأصبحت مهمتهم استبدال التفكير بالتبرير كي يصبحوا وكلاء "النظام العالمي الجديد". لسنا هنا بصدد معالجة هذه الظواهر المرضية في واقعنا. لكن ما حصل في مجلس الأمن يوم الجمعة الماضي في الادانة الجماعية للعراق بعد قرار الحكومة العراقية منع مفتشي "اونسكوم" القيام بمهماتهم الموكولة اليهم من مجلس الأمن نفسه امر محزن. صحيح ان ما يتذمر منه العراق قائم: فبعثة التفتيش ضمت جاسوساً من اسرائيل، ونائب رئيس هيئة التفتيش الاميركي سكوت ريتر علاقاته بأجهزة المخابرات الاسرائيلية متواصلة، كما ان رئيس اللجنة الخاصة ريتشارد بتلر يتعالى على المسؤولين العراقيين وكأنه - او في الواقع انه - المفوض السامي للولايات المتحدة وخطابه استفزازي وهو شديد التحيز. الى ان جاءت مداخلة الأمين العام للهيئة الدولية كوفي انان التي كان من شأنها توفير آلية تابعة للأمين العام، يمكن للعراق ان يتعاطى خلالها مباشرة وليس حصر العلاقة مع الأممالمتحدة كما كانت قبل شباط فبراير 1998. يتراءى لي مع ذلك ان الأزمة الاخيرة في الاسبوع الماضي بين النظام العراقي ومجلس الأمن تستوجب منا القيام بعملية سريعة تتجاوز خلافاتنا وانقساماتنا قبل فوات الأوان، لانقاذ شعب العراق مجتمعة من المهالك التي تعد له، وهو لا يزال يخرج من واحدة حتى يدخل في مهلكة اخرى، ثم نجد انفسنا مقعدين نبدي مجرد آراء وعواطف تجاه شعبنا في العراق، هذا الشعب الواقع بين فكي كماشة: شراسة انغلو - اميركية تعمل على افتعال وضع يوفر لها ذرائع الاعتداء والاصرار على ابقاء العقوبات المجحفة على المجتمع، ونظام حكم لا يكاد يحصل على تجاوب بعض الدول الكبرى والمجموعات الدولية حتى يندفع نحو شفير مجابهات غير مدروسة مع التحالف الانغلو - اميركي المتربص ليجعل من العراق "مكسر عصا للغطرسة التي ينطوي عليها في سياسته الداعية الى الاحتواء المزدوج. في هذا المجال صار مفروضاً على الدول العربية وحلفاء قضاياها ان يساهموا في اخراج شعب العراق من المصيدة الواقع فيها. هذا ليس مجرد واجب قوي وتاريخي، بل انه تعبير عن موقف انساني ووجداني، على رغم اني أرى المتشدقين بنظرية "موازين القوى" يبتسمون على تسمية واجبنا في هذا المضمار وكأنه مجرد "احلام"! لكن مهما بلغ التشكيك في المقدرة على لحجم ابداعية التفكير وتطويق - او بالاحرى اجهاض المخاض الناتج عن المعاناة الجماعية من جهة، وللآمال التي تلازم اجيالنا الصاعدة من جهة ثانية، فان الكبت يولد اما الاختراق الذي يفتح الابواب امام عملية التطوير والتغيير او الانفجار الذي يشير الى فقدان الأمل والبوصلة. ما هي الحاجة، اذن، التي علينا تلبيتها قبل فوات الأوان؟ ما هي المقترحات التي نستطيع تقديمها للمجتمع الدولي وللعراق بالذات؟ لا بد من عودة المرجعية في حل النزاع الى الامانة العامة للأمم المتحدة من دون اللجوء الى احراجها كما يفعل الثنائي الاميركي - البريطاني في مجلس الأمن، وكما يفعل نظام العراق في المبالغة في مقدرته على المناورة ودفع المواجهات الى حافة الهاوية. من اجل نجاح هذا الاقتراح لا بد للدول العربية والاسلامية بادئ ذي بدء من ان تقدم مشروعاً شاملاً يفصل بين آليتين: آلية الپ"اونسكوم" وآلية اخرى مستقلة تماماً تقوم بتلبية الحاجات الانسانية وادارة الشؤون المتعلقة بتوفير الغذاء والدواء والكتب الدراسية وغيرها من توفير شروط السلامة والكرامة للإنسان العراقي لا مجرد استمرار النزف لهذا الإنسان معنوياً ومادياً. لذا، لا بد من صياغة موقف عربي متكامل، بحيث لا يصبح امتثال الحكم العراقي لقرارات مجلس الأمن مرتبطاً بإرادة ومزاجية الثنائي الانكلو - أميركي الضارب بعرض الحائط كل الاعتبارات والقيم الإنسانية التي يدعي هذا الثنائي أنه أحرص الناس عليها. كذلك يجب أن تجنب الشعب العراقي من أن يتحمل وحده وزر عدم امتثال النظام العراقي لما تبقى من اشكالات يمكن معالجتها بالأساليب الديبلوماسية وجعل تباينات المواقف الدولية عنصراً فاعلاً في تسهيل وتسريع المخرج من هذا الامتحان العسري للسلطة العراقية ومن المحنة المثقلة بآلام أطفال العراق ونسائه وشبابه وكهوله. إن قيام مثل هاتين الآلتين - واحدة للتجاوب مع قرارات مجلس الأمن مع توفير شروط الموضوعية في اعضاء فريق التفتيش وأخرى لإدارة وتوجيه مسيرة المعونات الإنسانية يحول دون ان يصبح الشعب العراقي نفسه كبش محرقة لسياسات الاستعلاء والاحتواء المزدوج وإضعاف المناعة في معظم - إن لم يكن كل - الأقطار العربية تسهيلاً للهيمنة الإسرائيلية وللتعاون الاستراتيجي بين الولاياتالمتحدة وإسرائيل. هذه خطوط عريضة قابلة للتحقق، خصوصاً إذا وعت الأمة العربية ان بقاء العراق مستباحاً بهذا الشكل يتيح الفرصة لعدوى في الجسم العربي ككل. أما إذا استمرت الولاياتالمتحدة في إصرارها على بقاء العقوبات على شعب العراق حتى يمتثل نظام العراق لقرارات مجلس الأمن كما تفسره هي، فسيؤدي ذلك - كما هو حاصل الآن - إلى ربط مماثل بين إصرار الحكم العراقي على رفع العقوبات واستئناف التعاون مع فرق التفتيش عن أسلحة الدمار الشامل الذي تدعي الإدارة الأميركية وتصر على وجودها. يتعين، إذن، على المجموعتين العربية والإسلامية في الأممالمتحدة القيام فوراً ببلورة مشروع من شأنه أن يساهم في تشكيل هاتين الآليتين، إضافة إلى مرجعية الأمين العام المستند على والمساند لقرارات مجلس الأمن والإرادة الموضوعية لأعضائه، كما ينشئ، بالتعاون والتنسيق بين جامعة الدول العربية والمؤتمر الاسلامي، جهازاً يجعل الشعب العراقي بمنأى عن الأضرار الجسيمة اللاحقة به. وان تعاون الجامعة العربية والمؤتمر الإسلامي من شأنه أن يزيل الاشتباه من قبل النظام في العراق بأنه محرم عليه ممارسة سيادته المطلقة، فالعراق عضو في كل من المنظمتين الاقليميتين، مثلما هو عضو في الأممالمتحدة. لذا، يمكن من خلال بلورة مشروع ثنائي الآلية ان نخطو خطوة كبيرة نحو انقاذ الشعب العراقي من المأزق - المصيدة - الكماشة التي يعيشها من يعيش في ذاكرتنا ووجداننا ومستقبلنا! ساحة فلسطين وساحة العراق، أي منهما، لديها مناعة كافية لردع أي من المجتمعات العربية، من شأنه استنزاف مجتمعات الوطن العربي بأسره؟ ألم ندرك بعد أن ما يحصل في فلسطين وفي العراق وفي معظم أقطارنا يستهدف ابقاءنا في الحيرة التي نحن فيها تمهيداً للضياع المرشحين له؟ إن القيام بالمبادرات في الحالين الفلسطينيةوالعراقية يعيد الثقة بالنفس ويمهد للتصميم ويحفز إرادة التغيير ويبلور العلاقة الجدلية بين المرغوب والواقع. صحيح ان علينا أن نسلم بالواقع المسلوبة فيه ارادتنا لكن التسليم شيء والاستسلام شيء مغاير تماماً. في أواخر القرن الماضي قال شاعر كفر شيما لبنان إبراهيم اليازجي: "تنبهوا واستفيقوا أيها العرب" هذا في نهاية القرن الماضي. هل من رغبة لتحقيق ما غاب عنا في هذا القرن؟ هل من صحوة قادمة؟ هل ما يبدو مستحيلاً الآن يمكن ان يصبح ممكناً؟ فلنحاول الاختراق في ساحة معاناة العراق وفي ساحة مأساة الفلسطينيين، عندئذ تتوحد المصائر بدلاً من ان تستمر في تناقضاتها ونسترجع لأنفسنا مفاتيح أبواب المستقبل العربي المقفولة الآن والمرشحة لتصبح مشرعة ومضيئة. * مدير مركز دراسات الجنوب في الجامعة الأميركية في واشنطن.