بلحيته الكثة وصلعته اللامعة وابتسامته الساخرة، كان منظر الكاتب الايرلندي جورج برنارد شو في حد ذاته كافياً لإثارة الذين ينظرون اليه، سواء كانوا يدركون من هو، أو يجهلون كل شيء عنه، وهو الكاتب اللاذع الذي كان أدبه مقروءاً من العالم كله في ذلك الحين. من هنا لم يكن الرجل بحاجة لأي تصرف استعراضي حتى يلفت الأنظار. ومع هذا لم يتوان وهو يجتاز الحدود بين بولندا والاتحاد السوفياتي في القطار، عن إمساك ما كان في حوزته من طعام متبق ورميه من النافذة، ملتفتاً الى مرافقيه قائلاً لهم: "روحوا الى الغرب وقولوا له انني رميت ما بحوزتي من طعام وأنا أدخل الأراضي السوفياتية، لكي أؤكد ان لا مجاعة هناك، وان كل شيء متوافر في هذا البلد الذي يثير اعجابي". فالحال ان اخبار المجاعة من الاتحاد السوفياتي كانت تشغل أعمدة الصحافة في العالم كله، لكن جورج برنارد شو أصر في ذلك اليوم على ان ذلك كله ليس أكثر من "دعاية بورجوازية ضد بلد الطبقة العاملة الأول، وضد زعيمه ستالين". باختصار كان شو معجباً بستالين، حتى قبل ان يصل الى موسكو. واجتماعه به يوم 29 تموز 1931، خلال زيارته الشهيرة للاتحاد السوفياتي زادته اعجاباً. فالرجلان خلال الحديث الذي جرى بينهما بديا متفاهمين على طول الخط. فبالنسبة الى شو لا مجاعة في هذا البلد، ولا قمع ولا اضطهاد لبريء. اما حين سئل عن أعمال السخرة التي يقوم بها ملايين العمال، فكان جوابه: "بالعكس أنني أتمنى ان يفرض نظام السخرة في بريطانيا أيضاً". هل كان شو مازحاً أم جاداً؟ كل الدلائل تشير الى انه كان جاداً. ولو كان هذا صحيحاً، لكان على صواب أولئك البريطانيين المثقفين الذين رأوا في مجال تعليقهم على زيارة شو لموسكو وما أدلى به من تصريحات، انه - أي شو - جعل من نفسه المثال الصارخ على ما كان لينين يصف به بعض المثقفين الغربيين بأنهم "حمقى نافعون". المثقفون الذين كان لينين يعنيهم بهذا، هم أولئك الليبراليون الذين كانوا يساندون الثورة البلشفية، ضاربين الصفح عن عيوبها، وها هم الآن يساندون الاتحاد السوفياتي، وكان جورج برنارد شو من بين هؤلاء. بالنسبة الى شو، كانت معركته الرئيسية هي المعركة ضد البورجوازية البريطانية، وهو كان يرى ان هذه المعركة تجمعه مع ستالين الذي كان يبدو عليه انه قادر على مهادنة كل أعدائه، باستثناء تلك البورجوازية. من هنا حين توجه شو الى الاتحاد السوفياتي زائراً ليستكشف ذلك البلد - المعجزة، كان ينطلق كما يبدو من مفهوم "عدو عدوي صديقي"، لذلك كان في وسعه ان يغض النظر عن كل ما يراه من عيوب، وان يؤكد لمن يلتقي به ان هذا البلد يختلف كلياً عن الصورة التي تحاول الصحافة البورجوازية ان تصوره بها. مهما يكن فإن هناك جانباً آخر في شخصية شو، دفعه لأن يبدي كل ذلك التعاطف "مع أكبر تجربة اشتراكية" تتحقق في العالم حتى ذلك الحين. فهو كان بالفعل اشتراكياً، سبق له ان و ضع دراسات عدة عن الماركسية ضمت الى الكتاب الانكليزي الشهير الذي خاض في المسألة الاقتصادية "دراسات فابية" من هنا لم يكن غريباً منه ان يبدي كل ذلك الحماس للتجربة السوفياتية، وخاصة لجوزيف ستالين الذي التقاه في حديث خاص جرى بينهما طوال أكثر من ساعة، تباسط فيه الرجلان، وعند ختامه قال ستالين عن مؤلف "الاسلحة والانسان" انه "متعب لكنه مخلص وصادق"، فيما قال شو عن ستالين: "انني شديد الاعجاب بهذا الجيورجي الذي كان بإمكانه ان يكون ابناً غير شرعي لكاردينال ارستقراطي". ويقال ان ستالين اعجبته هذه الملاحظة وظل طوال سنوات يرويها في مجالسه الخاصة في الصورة: شو خلال زيارته لمزرعة جماعية قرب موسكو. لا بد ان نذكر ان جورج برنارد شو، حين زار ستالين، لم يكن وحده بل كانت ترافقه الليدي أستور، التي لم تعرف بأي تعاطف مع ستالين، أو مع التجربة السوفياتية، ومع هذا قامت بالزيارة لأنها - على حد ما قالت قبل ذلك - أرادت ان تقول رأيها لستالين "بكل صراحة". وبالفعل ما أن التقته حتى التفتت اليه وسألته: "متى يا سيدي الرئيس ستتوقف عن قتل الناس بنفس الطريقة التي كانت تجري أيام القيصر؟" ويبدو ان ستالين كان يتوقع منها ذلك السؤال، اذ ما ان تفوهت به حتى قال لها مبتسماً: "حين يتحقق السلام".