كانوا كثراً أولئك المثقفون الذين وضعوا آمالهم كلها في الاشتراكية وبخاصة في الثورة الروسية حين اندلعت في العام 1917. بالنسبة اليهم كانت هي، بامتياز، الثورة التي ستقلب العالم رأساً على عقب، ستحقق العدل وتسحق المستغلين... وما الى ذلك من أفكار كبيرة ومشاريع انسانية. كذلك كان بالنسبة اليهم الانقلاب الجذري الذي سيحرر الأفكار والمفكرين من ربقة رأس المال. ومن هنا، ما إن تحقق الانتصار على أعداء كثر، مع بداية سنوات العشرين، حتى بدأ المثقفون يطالبون الثورة أن تفي بوعودها... انتظروا سنة وسنوات. ذهب لينين وجاء ستالين. ذهبت الدول المجزأة وجاء الاتحاد. ذهب الاغنياء وجاء الفقراء. ثم... لا شيء، بل بالاحرى عادت الأوضاع تنذر بأنها ستكون أسوأ مما كانت عليه. وإزاء هذا الوضع، الذي لم يكن المثقفون يتوقعونه، راح كثر منهم ينشقون ويسلكون دروب المنافي. وانتحر البعض، وصمت البعض الآخر، فيما تواطأ كثر منهم مع السلطات الستالينية المهيمنة ففقدوا كل بريق. وكما حدث داخل الاتحاد السوفياتي حدث خارجه: كانت الخيبة كبيرة. وأحس مثقفون في شتى انحاء العالم بأنهم خدعوا، فراحوا يعبرون عن ذلك كتابة ونشراً وانشقاقات عن أفكارهم واحزابهم. وحتى الذين عندوا منهم، سرعان ما زاروا «بلاد الأمل المستقبلي الكبير» ليعودوا أكثر خيبة. والحال أن أي صفحات ستبدو قاصرة عن الاتساع لأسماء هؤلاء كلهم، أو حتى لتفصيل الأسباب التي أدت الى الغضب والثورة والانشقاق. ولكن يمكن القول إن حقبة الخيبة الكبرى، كانت وصلت ذروتها، بين بدء محاكمات موسكو وانتهائها، أي بين الارهاصات بداية الثلاثينات، وانطفاء أضواء الأمل كلياً في عام 1939. واذا كان هناك عمل أدبي يمكن القول انه قادر على أن يؤطر هذه المرحلة، فهذا العمل هو روايتان لفكتور سيرج، أولاهما صدرت في العام 1931 وعنوانها «مدينة تم الاستيلاء عليها»، والثانية صدرت في العام 1939 بعنوان «إن كان منتصف الليل حلّ في القرن». للوهلة الأولى قد لا يكون ثمة رابط منطقي بين الروايتين، إذ إن اماكنهما وأزمانهما لا تلتقي تماماً... بل إن حجم الغضب الذي يعبّر عنه فيكتور سيرج ازاء ما يحدث في كل من الروايتين ليس هو نفسه... ومع هذا فإن قراءتهما معاً، وبالنظر الى أن سيرج كان مناضلاً سياسياً ومنشقاً أيديولوجياً اكثر منه كاتباً روائياً، تعطينا فكرة عن بدايات الانشقاق الايجابي في الأدب السوفياتي من الداخل. ذلك ان سيرج (وعلى عكس منتحرين من امثال ماياكوفسكي ويسينين، أو متواطئين من أمثال ايليا اهرنبورغ وميخائيل شولوخوف، أو منشقين متأخرين مثل بوريس باسترناك)، قرر ان يخوض معركته في شكل مباشر، ليقدم في الرواية الأولى أدباً يشهد على ما كانت عليه البدايات وتضحياتها، وفي الرواية الثانية أدباً يندد بما حدث بعد ذلك، وكيف غدرت الدولة بالثورة... قبل زمن بعيد من بروز منشقين صاخبين من طينة آرثر كوستلر وألكسندر سولجنتسين. الرواية الأولى («مدينة تم الاستيلاء عليها») تعود بنا الى المدينة التي كانت تسمى بتروغراد، في العام 1919. هي صارت لاحقاً لينينغراد، ثم عادت بطرسبورغ. ولكن في العام 1919، بعد عامين من اندلاع الثورة البولشفية كانت لا تزال بتروغراد. والرواية، من خلال هذه المدينة، تقدم لنا لوحة بانورامية شاملة وتفصيلية واقعية للحياة في الاتحاد السوفياتي في ذلك الحين. فما الذي كانت عليه صورة تلك الحياة: بكل بساطة كان الجوع مخيماً والى جانبه السوق السوداء والنهب والسرقة تستشري، كان هناك الحرب الأهلية، والمؤامرات وشتى ضروب التخريب المتعمد. صحيح ان المسؤولين البولشفيين كانوا يجهدون ليلاً ونهاراً، متحركين في الأبنية والقصور القديمة، لكن الآخرين كانوا يجهدون أيضاً - وربما أكثر - في الأكواخ والأزقة المظلمة. كان الجوع من نصيب الجميع، لكن المسؤولين الحزبيين كانوا يدبرون أمورهم في شكل أفضل... طعامهم كان أكثر إن لم يكن افضل لكن هذا ضروري، كما يقولون، فهم عليهم أن يبقوا أقوياء لكي يوزعوا المؤن العشوائية القليلة بين الناس، ويعززوا من عضد القوات التي تفتقر الى كل شيء، ويحددوا العمل والجهد للعمال المنهكين، والذين كانوا يتطوعون للعمل، حماسة واندفاعاً وبطونهم خاوية. ولأن للحرب منطقها، كان من المنطقي أن تكثر اعمال المصادرة والاعتقال والاعدام. ثم فيما كان العمال الثوريون يقاتلون ويعملون ويسقطون صرعى على جبهة القتال أو على جبهة العمل، كان آخرون، باسم العمال هذه المرة، يتمتعون بالسلطة، ليكوّنوا من أنفسهم تلك الجماعة البيروقراطية التي ستحكم البلد طوال عقود تالية... بالنار والحديد. هذا كله يصفه الثوري فيكتور سيرج في هذه الرواية القاسية الساخرة. ويبدو، بالأحرى، أن من خلال وصفه هذا انما يمهد لكتابة الرواية الثانية، بعد ثماني سنوات. هذه المرة أيضاً يكتب سيرج باسم الثورة. أو لنقل بالأحرى، باسم نقاء ثوري كان سيرج يرى ان ستالين وفريقه لا يعرفان شيئاً عنه. وإلا «لماذا قرر ستالين أن يلعب في اسبانيا وغيرها من بلدان أوروبا تلك اللعبة التي كان الثوار الشيوعيون أول ضحاياها؟». هذا السؤال كان سيرج لا يتوقف عن طرحه. ومن هنا كان من الطبيعي له، ونحن الآن نعيش سنوات ما بعد الحرب الأهلية الاسبانية مباشرة، أن يهدي كتابه هذا («ان كان منتصف الليل حلّ في القرن») الى «الثوريين الاسبان، ضحايا الاستخبارات السوفياتية، سواء كانوا أسرى الآن لدى فرانكو ونازييه، أو كانوا لا يزالون يحاولون استئناف النضال»). في الحقيقة ان سيرج وضع في عبارات الاهداء هذه، معاني سياسية وفكرية عدة، وكان أول المثقفين الذين اشاروا الى تواطؤ ما، مباشر و/أو موارب، بين الاستخبارات السوفياتية وفرانكو. اما الرواية نفسها، فإنها شديدة التعقيد، ذلك ان سيرج انما أراد أن يضع في فصولها عشرات الاحداث السياسية، وعشرات الحكايات والشخصيات. وكأنه أراد منها أن تكون - بدورها - صورة بانورامية لوضع «الاحلام الاشتراكية وما آلت اليه» في العالم كله. ومن هنا، امتلأت الرواية، بعشرات المعارضين الشيوعيين لستالين من الذين نفوا او اقتلعوا من ديارهم، لكنهم مع هذا يواصلون نضالهم للبقاء. وليس للبقاء البيولوجي - على قيد الحياة - فقط، بل كذلك للبقاء الثوري النقي. ومن هنا يناضلون ضد ستالين ولكن ايضاً ضد النازية في المانيا، وضد الفاشية في اسبانيا... وضد الضعف الذي يصيب بعضهم، والخيانات التي يحاولها البعض الآخر. هنا، من أجل التعبير عن هذا كله يمزج فيكتور سيرج بين المصائر الفردية والاحداث الكبرى... ويطالعنا ابطاله (ومنهم كوستروف وروديون وألكين) وهم يتقاطعون مع التطورات الدرامية للوضع السياسي العام... وكل هذا على خلفية الديكتاتورية التي كانت بدأت تفرض نفسها على قمة السلطة في موسكو. والحقيقة ان فكتور سيرج، يتحدث عن هذا كله حديث العارف الخبير. فهو كان منذ بداياته ثورياً ينشط ضمن التيار الفوضوي، ثم انضم الى الثورة البولشفية، قبل ان ينتفض ضد ستالين حيث صار جزءاً من المعارضة اليسارية للزعيم السوفياتي. وفي العام 1933 اعتقل سيرج ثم رُحّل الى المنفى، لكن تدخل كتاب اجانب مرموقين من امثال رومان رولان واندريه جيد واندريه مالرو ادى الى اطلاق سراحه. ومع هذا لم يصمت الرجل. ففكتور لفوفتش كيبالتشيش (1890 - 1947) وهذا هو اسمه، لم يكن من الذين يخلدون الى الصمت والهدوء... ولهذا نجده يواصل الكتابة ليصدر في سنواته الاخيرة كتابين هما «قضية تولاييف» و «مذكرات ثوري» يمعن فيهما في التنديد بستالين ونظامه. [email protected]