المسافة التي تفصل بين منزلي في بيروت وبين قريتي في الجنوب اللبناني لا تتعدى الكيلومترات المئة ومع ذلك فإن زياراتي لمسقط رأسي آخذة بالتباعد بحيث أصبحت تتم مرة واحدة كل شهرين أو أكثر. كنت أظن ان ذلك الأمر ناجم عن رداءة الطرق وزحمة السير، أو أن تلك الحجة هي ما كنت أتذرع بها على الدوام لأخفف من عتب الأهل والأقارب، ولكنني اكتشفت مع مرور الزمن ان المشكلة لا تكمن في المسافة التي يمكن للسيارة ان تقطعها خلال ساعتين أو أقل بل في المسافة الأخرى التي لا يمكن قطعها على الإطلاق. لم تعد الرحلة بين المكان الذي أغادره والمكان الذي أذهب اليه متصلة بالجغرافيا وحسب وإلا كان عليّ أن أشعر بالكثير من المتعة وأنا أشاهد من نافذة السيارة المندفعة نحو الجنوب عشرات القرى والمدن المتناثرة على الشاطىء وفوق الهضاب المجاورة. ويمكن للمرء أن يتأكد من جمال الطريق من خلال الضيوف القادمين من بلدان أخرى الذين لا يكفون عن ابداء دهشتهم بجمال البحر ووداعته المتوسطية أو بسحر السهول الخضراء المترامية على جانبي الطريق بدءاً من أطراف صيدا وحتى آخر نقطة على الحدود. ومع ذلك فإن كل ذلك الجمال يبدو وكأنه يلمع في مكان وزمان آخرين. أقول أحياناً ربما يكون ذلك ناجماً عن تكرار المشهد ومألوفيته وأظل مشدوداً بالكامل الى لحظة الوصول التي أنتظرها بفارغ الصبر. وحين تلوح أمام ناظري المنازل الأولى من القرية أحس بوخزة من الحنين تهب ربما من شجرة البدايات القديمة ومن صبار الماضي الذي يزهر للتو في تربة الروح المثلومة. ربما تكون هذه اللحظة وحدها هي خط تماسي الوحيد مع الزمن الغابر الذي خلفته هناك. ذلك أن بهجة اللقاء مع الأهل وأفراد العائلة لا تستمر سوى دقائق قليلة نتبادل خلالها كلمات مكررة حول الصحة والأحوال ومشقات الطريق ثم يحل بعدها نوع من الصمت الذي يقطعه بين الحين والآخر دخول أحد الضيوف أو معابثات الأطفال الصغار الذين يصطحبهم الأشقاء والشقيقات لرؤية الضيف القادم. البيت الذي نجتمع فيه هو نفسه بيت العائلة المتواضع الذي ولد فيه قبل عشرات الأعوام تسعة أطفال كنت أنا الأكبر بينهم. وها هم الآن يجلسون شبه صامتين وقد وخط الشيب رؤوس بعضهم فيما بعضهم ينتظر تلك اللحظة بحزم. في البداية يكون الحديث حاراً ومتلاحقاً ومفعماً بالضحكات ثم ما نلبث جميعاً أن نعود الى الصمت الأقرب الى الوجوم. ذلك أن التعابير القليلة التي نكررها كل لقاء سرعان ما تنفد، مخلية مكانها للتأمل والشرود والإنكفاء على الذات. أحياناً أحدق في وجوههم فلا أكاد أعرفها، ذلك أن ما بيننا لم يكن سوى سحابة طفولة سريعة ثم قضي الأمر وانفرط عقد ذلك المسرح القديم الذي مثلنا فيه أدواراً لم يعد لها مكانها اليوم. وأحياناً أخرى أشعر كما لو أننا افترقنا منذ أيام قليلة فقط وأن الزمن الذي باعد فيما بيننا ليس سوى قبضة من الوهم، ثم لا ألبث أن أشاهد زوجاتهم الجالسات بالقرب منهم وأطفالهم الذين بلغوا تخوم المراهقة فأستعيد احساسي بتقادم السنين وتعاقبها المستمر. الأب والأم الجالسان في وسط الحلقة يرمقان الأبناء المتحلقين من حولهم بشيء من الدعة والاغتباط وبقليل من الخوف أيضاً. فالأبناء الذين يفترض أن يكونوا استمراراً لوجودهم ومرآة لمستقبلهم بدأوا بدورهم يفقدون نضارتهم ويميلون باتجاه الكهولة. لذلك فهما يوزعان نظراتهما الملتبسة بين الأبناء والأحفاد فيما يرمقونني، أنا الذي لم أتزوج بعد، بنظرات يتوزعها العتاب والإشفاق. ذلك أنهم ينظرون لي بوصفي شجرة آيلة الى اليباس دون أن تترك وراءها فروعاً وحواشي تعيدها الى الحياة من جديد. أما الشعر الذي ادعيه عزاء لي وأتذرع به لكي أرد على توسلاتهم المستمرة فلا يرون فيه ما يرد غائلة الوحشة والعقم وانقطاع السلالة. لقد باتت زيارة القرية مناسبة متكررة للتأكد من حقيقة واحدة هي الزوال أو الوقوف العقيم على أطلال ذلك الماضي الذي لن يعود أبداً. لقد تبين لي بالملموس بأننا حين نغادر قرانا في مطالع الصبا الأول فإنما نغادرها دفعة واحدة وإلى الأبد. كأن المكان يفطمنا عن ثديه كما تفعل الأمهات بحيث لن يتسنى لنا أن نعود الى الثدي نفسه مرة ثانية. ونحن من هذه الزاوية نبدو حين نزور قرانا كما لو أننا نزور نصب أعمارنا التذكارية وحطام حياتنا الغابرة. لا يعود هناك فرق بين المكان وأهله، كلاهما يصابان بالشيخوخة ذاتها ويتحولان عما كانا عليه. بهذا المعنى يمكن أن نفهم صرخة محمود درويش المأساوية "البيوت تموت إذا غاب سكانها". والبيوت أيضاً تهرم وتشيخ بمقدار ما يشيخ سكانها في الوقت ذاته. لهذا تبدو كل زيارة الى الأماكن الأولى على متعتها ودفئها أحياناً مشوبة بالكثير من الغصة والشجن الداخلي. ليس ثمة سوى سلسلة مركبة من الأطلال التي يتأمل بعضها بعضها الآخر. يصبح الأهل طلل أيتامهم والأبناء طلل طفولاتهم والأماكن نثار ما كانت عليه في اندلاع الحياة وهبوبها الأول. لذلك فإن الأمر لا يختلف بمجرد الخروج من البيت القديم باتجاه فضاء القرية الأوسع. فالمشهد لم يعد نفسه كما أننا نحن لم نعد أنفسنا أيضاً. فساحة القرية التي كنت أظنها أوسع مكان في العالم ليست الآن سوى خلاء ضيق لا يتسع لتنهيدة صغيرة. والبركة التي تتجمع فيها أمطار الشتاء السنوية والتي كانت أطرافها تترامى كأطراف البحيرة لا تبدو الآن سوى مستنقع صغير للذباب والوحول ما يلبث أن يجف في بدايات الصيف. لا الأشجار هي نفسها ولا الصخور ولا العصافير على الأغصان. كل ذلك بات جزءاً من عدة الطفولة التي انصرمت وانفرط عقده بانفراطها. غدت الطبيعة ظلاً باهتاً لتلك الطبيعة التي كانت تتفجر حيوية وبهاء وتسيل ألوانها وأصواتها على جنبات الجسد الطفولي وضفافه اليافعة. حتى ضوء الشمس الذي كان لمعانه يغشي البصر ويخطف القلب لم يعد بالكثافة التي كانها وباتت ألوانه باهتة وشاحبة وخالية من التفجر القديم. أسئلة كثيرة تجول في الذهن وأنا أغادر القرية بسرعة قبل أن تمر ساعات معدودة على وصولي اليها. ربما تلزمني عينا الطفل الذي كنته لأستعيد رؤيتي للعالم ودهشتي القديمة أمام جمالاته. ربما تنقصني الزاوية التي أرى منها الأشياء والتي لم تعد تصيب كما كانت في الماضي. لكن الطريف في الأمر أنني ما أن أغادر تلك الأماكن الذابلة حتى تستعيد نضارتها في داخلي من جديد. يكفي أن أبتعد قليلاً الى الشمال حتى تنبجس من أعماقي الألوان نفسها التي لم أستطع تبينها عن كثب، والشمس نفسها التي بدت شاحبة وهزيلة قبل قليل، والملاعب نفسها التي بدت مضحكة وضيقة وأنا أرمقها بالعين المجردة. كأن الطبيعة حين نكبر تكف عن أن تكون وجوداً أرضياً ومكاناً بعينه ثم تنتقل الى داخلنا لتعشش هناك في أعمق نقطة من الروح. كل الأشياء الرائعة تتعذر استعادتها في الواقع مرة ثانية لأنها تتألف في الحلم وتصنع من حوله شرنقتها التي تكبر ككرة الثلج. والأماكن الأولى كالحبيبة الأولى هي حضور طيفي لا يكبر ولا يشيخ. لكن شرطه لكي يحتفظ بنصاعته أن يغادر حيزه الواقعي لكي يتختر في المخيلة ويتغذى من سرابها المتجدد. لذلك فنحن حين نرى امرأة احببناها قبل عشرين عاماً لا نصدق ما نراه في قسماتها من غضون وتجاعيد، لأن الذي أحببناه فيها هو انعكاس الأبدي وليس الزائل. لهذا نغمض أعيننا بشدة أو نحاول تجنب الموقف لكي لا يفسد الدهر ما أصلحته الاسطورة. إن القرى التي نغادرها كالحبيبات اللواتي نغادرهن ينسحبن من الواقع وينسللن الى فراش القصيدة لكي يتحولن الى كائنات من كلمات وأخيلة. هذا ما تراءى لي وأنا أشعر باستحالة الوصول الى قريتي مرة ثانية فيما لا يفعل الشعر شيئاً سوى النهل من معين تلك المسافة التي لا تنضب