م. عايض الميلبي لمحته بين زحمة الوجوه، فوقفت برهة أرمقه بنظرات فاحصة، وهو منهمك بانتقاء بعض حاجياته في أحد الأسواق الشعبية القديمة، عدت القهقرى، أقلب صفحات طوتها الأيام والسنين علني أجد في غياهب الماضي ضالتي. حاولت أن أعصر ذاكرتي علني اهتدي لمعرفته قبل مغادرته المكان، ولحسن الحظ أنني شرعت أتذكر أتراب الطفولة خاصة أولئك الذين كانوا يقطنون بالقرب من هذه الأسواق، فلم ألبث إلا قليلا حتى استحضرت اسمه وبعض ذكرياته التي ما زالت عالقة في الذاكرة. اقتربت منه رويدا دون أن يشعر أو يهتم بأمري، بادرته بالسلام، فرد علي مرحبا، سألته: هل عرفتني؟ أجاب: لا، حينها قلت: أما تذكر صديقا كان يأتي معك لهذا المحل، وتذهبان سوية لذات المدرسة قبل أعوام خلت؟ فكر برهة ثم قال: الآن قد عرفت من أنت! واصل حديثه قائلا: يا صديقي، مر دهر طويل لم أرك خلاله، منذ أن رحلت مع أسرتك عن هذا الحي. يا إلهي، كنا في عمر الزهور، كنا نلعب ونمرح، لم نذق طعم الهموم، أحلامنا وآمالنا لم تكن تتجاوز خطواتنا، مضت السنين كسحابة عابرة تسوقها الرياح سوقا، وها نحن اليوم قد بلغنا من العمر عتيا، فتغيرت ملامحنا، واهتماماتنا، وحتى نظرتنا وطريقة تفاعلنا مع ما يدور حولنا، والأهم من ذلك كله موقفنا من مستقبل الأيام، ولأن الحديث عن الطموحات والرغبات وما حققه منها يهمني كثيرا؛ حاولت استدراجه للحديث عن هذا الجانب لأسمع تجربته الخاصة، عندئذ صمت برهة وكأنه يستعيد آمال حقبة الشباب التي ابتعد عنها وابتعدت عنه، وأخذ تنهيدة عميقة ثم أفصح عما يجول بخاطره بقوله: آمال دهماء الناس وأنا واحد منهم كسراب في صحراء قاحلة، بقدر ما نقترب منه يبتعد. والعجيب أن ما يتحقق من الآمال قد يكون متأخرا جدا وفي غير وقته؛ وبالتالي يصبح معدوم القيمة، لا يضيف لنا شيئا يذكر. ولا أخفيك سرا يا عزيزي، أنني في هذه المرحلة قد طفقت أتخلى عن مآرب وأحلام كانت بالأمس تشغل تفكري وتملأ حياتي، دخلت في سباق مع الزمن وراهنت، فخسرت أكثر مما كسبت. وها أنا ذا أسير في ذات الطريق، ولا أعلم شيئا عن تلك المسافة التي تفصلني عن آخر محطة فيه، لكنني أرى أنه لم يعد جميلا كما خبرته؛ إذ بات يوحي بشيء من الضجر، وصارت مفاجآته المحزنة أكثر وأقسى وقعا على النفس. بالأمس كنت أرى الأزهار على جانب الطريق متفتحة في الشجيرات الخضراء، واليوم ألاحظ أن الذبول قد ساد الزهور، فلم تعد ألوانها زاهية، ولم تعد رائحتها شذية كما كانت. عند هذا الوصف توقف صديق الطفولة، ثم قال: يبدو أن الحديث في هذا الشأن شيق وذو شجون، بيد أن الوقت قد أزف، وكما تشاهد أصحاب المحال شرعوا بإغلاقها، لكن قبل أن أودعك، أخبرني عما فعلت وما أنجزت طوال أعوامك الخالية، أو دعك من ذلك كله، فما أروم معرفته هو مدى سعادتك ورضاك عن واقعك. هنا، أجبته بالقول: يا سيدي، سأختصر الجواب ببيت شعر من الزمن الجميل قدح في ذهني، تغنت به كوكب الشرق مفاده: "يا حبيبي كل شيء بقضاء .. ما بأيدينا خلقنا تعساء" وأرجو أن تكتفي بذلك، فكما تعلم، نكأ الجراح لا يجدي نفعا، ولا يزيد المرء إلا تبارا. بعد ذلك، قال لي هذا الرجل الذي غاب عن ناظري دهرا، وجمعتني به الصدفة دون موعد مسبق: يبدو أن هذا البيت خير عنوان لفصول حياتنا المتواترة. فكلانا سلك مسارا وآماله في مسار آخر مواز له تماما، ولا غرو أن التقاء المتوازيين ضرب من الخيال. والآن، حان الوداع فإلى اللقاء، إلى اللقاء يا صديقي. بادلته كلمات الوداع على عجل، وذهب كل منا في سبيله، وليس ثمة وسيلة تجمعنا ثانية سوى صدفة مماثلة؛ لأن كلانا غادر دون أن يعرف عنوان صديقه، ولا حتى وسيلة اتصال به.