مؤسسة الوقف هي أحد مظاهر تمثل المجتمع الاهلي الاسلامي لمواجهة مشاكله بدافع من الضمير الفردي ارضاءً لله سبحانه وتعالى. وقامت مؤسسة الوقف في التاريخ والحضارة الاسلامية بأدوار عدة للحفاظ على المجتمع وحمايته في كل المجالات الخيرية الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والعسكرية الجهادية. والى مؤسسة الوقف يُعْزَى الازدهار الثقافي والعلمي والفني للحضارة الاسلامية في الوقت الذي كانت الصراعات بين النُخب السياسية تأخذ طابع الانقسام الرأسي الذي هدد تكامل الدولة الاسلامية ووحدتها. وتستند جذور الوقف الاسلامي الى مبادرات فردية قام بها الجيل الاول من الصحابة طمعاً في ثواب الاخرة ومرضاة الله سبحانه وتعالى. فأبو طلحة يقول للرسول صلى الله عليه وسلم: "ان الله تعالى يقول "لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون" وإن احبَّ اموالي اليّ "بيرحاء" وانها صدقة لله ارجو برها وذخرها عند الله فضعها يا رسول الله حيث امرك الله تعالى". فقال: "بخ بخ ذلك مال رابح، وأرى أن تجعلها في الاقربين". فقال أبو طلحة: "افعل يا رسول الله"، فقسّمها في اقاربه وبني عمه. وحين قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة لم يكن بها بئر ماء عذبة غير بئر "رومة" فانتدب النبي المسلمين لشرائها فاشتراها عثمان بن عفان بماله الخاص وجعلها مرتفقاً عاماً للمسلمين. ولما اصاب عمر ارضاً من خيبر قال: "يا رسول الله اصبت مالاً بخيبر لم اصب قط مالا أنفس منه ما تأمرني؟" فقال "ان شئت حبست اصلها وتصدقت بها". فتصدق بها عمر على ان لا تُباع ولا تُوهب ولا تورّث وتكون في الفقراء وذوي القربى والرقاب والغزاة في سبيل الله والضيف وابن السبيل، ولا جناح على من وليها ان يأكل منها بالمعروف ويطعم صديقاً غير متمول منه. فالآثار السابقة تدل على مبادرة الصحابة بالتصدق بالمال في اوجه الخير التي تنفع عامة المسلمين. ولذا فإن الفقهاء يعرفون الوقف بأنه "حبس عين للتصدق بمنفعتها" حيث لا يجوز التصرف في اصل الوقف بأي شكل من اشكال انتقال الملكية، وانما الانتفاع يكون بالمنفعة الناتجة عنه. وسبب عدم التصرف في اصل الوقف يرجع الى ان الواقف بعد تصدقه بوقفه على وجه من وجوه الخير التي تنفع المجتمع فإن ملكيته تنتقل الى الله سبحانه وتعالى. ولذا فإن اموال الوقف كان ينظر اليها باحترام شديد بين افراد المجتمع الاسلامي فكانوا يبالغون في المحافظة عليها والاهتمام بها. والوقف اما خيري اي متجه الى عمل خيري مثل التصدق على المساجد او الفقراء والمساكين او الكتاتيب او مؤسسات التعليم المختلفة او الخانقاه او البيمارستان او المكتبات العامة...إلخ، أو اهلي اي يقفه الواقف على اقاربه من اولاد او زوجة او زوج بحيث ينتفعون بريعه الى ان ينقطع وجودهم فيتحول الى وجه من وجوه الخير. وفي الواقع فإن الوقف يعكس الرؤية الاسلامية الى العلاقة بين الدولة والمجتمع، إذ ان الدولة الاسلامية تعبير حقيقي عن قاعدتها التي تقوم عليها وتنبثق منها الا وهي مجتمعها. فالدولة تعبير عن المجتمع، بل انه لا توجد دولة منفصلة عن المجتمع وانما هما كيانان تربطهما وحدة عضوية هي المقاصد النهائية والاهداف الاسلامية الشرعية التي قامت الدولة والمجتمع لتحقيقهما. لذا فإن الدولة الاسلامية لا تنظر الى مجتمعها بعين الخوف والحذر وانما باعتباره مكملاً لوجودها ومسؤولاً عن تحمل بعض اعبائها. وتبدو الدولة الاسلامية كما لو كانت تلك الدولة الحارس التي تقوم بالاعباء التي لا يمكن للمجتمع ان يقوم بها مثل الجيش والشرطة وجمع الزكاة وتوزيعها في مصارفها الشرعية، والدعوة الى الاسلام في الخارج والحفاظ عليه في الداخل. لكنها تطلق العنان لمجتمعها في ان يعبر عن نفسه بحرية كاملة طالما كان هذا التعبير في الاطار الاسلامي ومحققاً لمقاصد الشريعة الاسلامية. ويفسر تداول السلطة السياسية في عواصم اسلامية متعددة مثل المدينة والكوفة وبغداد ودمشق والقاهرة واسلامبول حيوية المجتمع الاسلامي الذي ينهض بسرعة لملء اية فراغ للسطة في اي عاصمة من العواصم، لأن المجتمع فيه حيويته السياسية التي تتكامل بسرعة لتقوم بدور الدولة. وهنا فإن السياسة ليست فقط علم السلطة في طابعها الرسمي وانما هي علم السلطة في طابعها الاجتماعي غير الرسمي والمجتمعي ايضا. وبملاحظة صعود القوى السياسية وهبوطها في التاريخ الاسلامي سنكتشف ان المجتمع وجد قبل الدولة، لكن المجتمع كانت له ديناميته السياسية التي تكاملت لتصبح الدولة فيما بعد. ولكي يحافظ المجتمع على حيويته فإن الاوقاف كانت سنداً اساسياً له في استقلاله بموارده المالية عن الدولة وفي قدرته على التعبئة المجتمعية والسياسية في وجه السلاطين والحكام الذين يريدون اغتصاب حق المجتمع في التعبير عن نفسه. وعلى سبيل المثال فإن الازهر في مصر ظل على مدى الف عام يمثل مؤسسة علمية مستقلة عن الدولة وتقوم بالرقابة على سلوك حكامها ومواجهتهم ان هم ظلموا او تعدوا، وذلك بفضل الاوقاف الخيرية التي كانت موقوفة على الازهر الشريف. وحاول بعض الحكام السيطرة على الاوقاف خصوصاً في العصر المملوكي لكن العلماء كانوا يمنعونهم من ذلك باعتبار ان الاوقاف ملك للامة كلها ويجب توجيهها الى حيث اراد الواقفون. وتشير الاحصاءات الى ان الاوقاف المصرية بلغت العام 1812 م 1227 ه 000،600 فدان، اي انها كانت تزيد على خُمس الاراضي الزراعية في مصر في ذلك الوقت عندما كانت المساحة الكلية للاراضي المصرية تبلغ 000،500،2 فدان لكن ظهور دولة محمد علي مثل في ما نعتقد تحولاً جوهرياً في مسار التاريخ الاسلامي اذ استلهمت الحداثة الغربية وفهمتها بمعنى انقطاعها مع التقاليد السابقة عليها. وكان من آثار ذلك النظرة الى المجتمع نظرة ريبة وشك، فبينما كانت التقاليد الاسلامية تقول انه في البدء كان المجتمع - اي الامة - كان محمد علي يقول انه في البدء كانت الدولة. وبدأ محمد علي في فرض ضرائب على اراضي الاوقاف اولاً، وكانت معفاة من الضرائب، ثم طلب من نظار الاوقاف فحص حجج الاوقاف وتجديدها خلال اربعين يوماً فإن لم يفعلوا يتم الاستيلاء عليها لصالح الدولة. ثم استولى فعلاً على اراضي الاوقاف الخيرية والاهلية واعتبر نفسه ناظر الاوقاف وقام بقبض ريعها والصرف منها على المساجد والمدارس والازهر، اي انه ادخل ريع الاوقاف ضمن موازنة الدولة. وكان هذا بداية لمحاولة تأميم المجتمع لصالح الدولة ورهن ايقاع حركة مؤسسات المجتمع بما تريده الدولة خصوصاً مؤسسة العلماء التي ضمنت الاوقاف لها استقلاليتها لكن الاوقاف عادت بقوة في العام 1891 عندما صدر الامر العالي من السلطان العثماني بحق الفلاحين في الملكية التامة للاراضي الزراعية فعاد الوقف الخيري والاهلي بقوة وانشئ ديوان الاوقاف بمرسوم العام 1895 ثم تأسست وزارة الاوقاف في مصر العام 1913 ثم صدر القانون رقم 48 لسنة 1946. وكانت ثورة تموز يوليو تعبيراً عن الدولة القومية التي ظهرت بعد الاستقلال في دول العالم الثالث، ورأت نفسها القوة الوحيدة في الملعب السياسي والتي لا يجوز منازعتها. ومن ثم بدأت تأميم مجتمعها بمؤسساته المختلفة لصالح تفردها وقوتها، وصرنا بإزاء كيان اسطوري ضخم بلا قاعدة تحميه او تسنده في المجتمع. وكان صدام الدولة الناصرية مع الاتجاه الاسلامي سبباً في التفكير في تأميم الاوقاف الاسلامية، فصدر القانون رقم 180 لسنة 1952 الذي الغى نظام الوقف الاهلي، ثم القانون رقم 247 لسنة 1953 الذي اتاح لمجلس الاوقاف ووزارة الاوقاف ان يغيرا شروط الواقفين وان ينفقا ريع الوقف حيث يريدان. ثم صدر القانون رقم 152 لسنة 1957 الذي نقل ملكية اراضي الاوقاف الخيرية الى الاصلاح الزراعي فقام بتوزيعها على الفلاحين من دون احترام لملكية الوقف. واليوم فإن الدعوات تتصاعد نحو احياء مؤسسات المجتمع المدني والاهلي خصوصاً ان الدولة تتنازل عن كثير مما كانت تقوم به الى المجتمع. كما ان الدولة غير قادة خصوصاً في ما يتصل بمواجهة الاعباء الاجتماعية لقطاعات عريضة من الفقراء والشباب اذ ان ميزانيتها لا تمكنها من ذلك. لذا فإن احياء الوقف الخيري والاهلي يمكنه ان يقوم بوظائف جوهرية وبشكل معاصر في ما يتصل بمشاكل الامية والبطالة والزواج والامراض وبناء المدارس والمستشفيات بل وتسديد الديون واستيراد التكنولوجيا وتشجيع مؤسسات البحث العلمي وزراعة الاراضي واقامة صناديق مالية لمواجهة الازمات المختلفة. وكذلك مساعدة الاقليات الاسلامية التي تعيش في مجتمعات غير مسلمة. لكن احياء الوقف مرهون باحترام الدولة لمجتمعها ورفع يدها عن التدخل في الاوقاف الجديدة التي يمكنها ان تؤسس لنفسها مجالس ادارات وقفية مستقلة عن هيمنة الدولة، ولا مانع ان تكون هناك صيغ اشرافية ورقابية من الدولة. ان الوقف في الاساس هو مبادرة فردية مبعثها ديني، فإذا وجد الواقف ان وقفه سيتحول الى ميزانية وزارة الاوقاف لتصرف منه في اغراض غير ما يريد فإنه لن يقدم على الوقف. وتشير الاحصاءات الى ان ريع الاوقاف المصرية يبلغ 68 مليون جنيه منها فقط 13 مليوناً تصرف على 1500 اسرة فقيرة، أما الباقي فيدخل موازنة الوزارة. واذا كانت وزارة الاوقاف اعادت، عبر لجنة عمل، الاوقاف القبطية الى الكنيسة فإن عليها لإحياء دور الاوقاف ان تعيد الاوقاف الاسلامية الى اصحابها او تسجلها باسمائهم وتحترم شروطهم على ان تكون مستعدة لتغيير هيئة الاوقاف بداخلها الى هيئة قومية تعبّر عن المجتمع وليس عن الدولة. ذلك ان احياء دور الاوقاف مرتبط باحياء دور المجتمع الاسلامي، وقبول الدولة بهذا الدور من دون شك او غضب. * كاتب مصري.