بعد تغيير مفاجيء للحكومة، واضراب عمال مناجم الفحم، وأزمة سوق الأسهم، وكل هذا وسط اقتصاد يقف على حافة الافلاس، لا عجب في أن الكلمة التي تتردد أكثر من غيرها في وسائل الاعلام الروسية هي "الانهيار". لكن الكلمة اتخذت في موسكو الشهر الماضي معنى حرفيا مخيفا كاد ينسي السكان هموم الاضطراب الاقتصادي والسياسي. ففي 13 حزيران يونيو انهار فجأة في وسط المدينة، على بعد بضع مئات من الامتار من قصر الكرملين، مسكن من طابقين، أو بالأحرى انشقت الأرض تحته، إذ برزت اسفله فجأة حفرة بعمق 27 مترا ابتلعته في ثوان. وكان المبنى خالياً وقتها لحسن الحظ، فقد تركه سكانه لاجراء بعض الترميمات. كما شمل حسن الحظ سكان شارع بولشايا دميتروفكا كله، الذين ايقظهم في الليل ذلك الدوي المرعب، وسارعوا الى الشارع بعد ان شاهدوا الشقوق تظهر في جدران مساكنهم. وحين وقفوا ليحدقوا مذهولين في الحفرة الهائلة، وجدوا قربها محظوظا آخر، هو سائق سيارة تمكن من القفز منها في اللحظة الأخيرة قبل ان تسقط في الحفرة. كان يمكن للحادث، مهماً كان مروعاً، ان يعتبر وليد الصدفة لولا الظهور المفاجيء بعد يومين لثلاث حفر قطر كل منها يتجاوز المتر في ساحة سمولينسكايا، تماما أمام مبنى وزارة الخارجية، ثم انهيار رصيف شارع في وسط المدينة في 18 الشهر، وانخساف ملعب للاطفال في ضاحية في 20 منه، وبروز اخدود على ارض مجمع "كومبرسور" الصناعي في 25. واذ شاءت الصدف ان لا تؤدي أي من هذه الانهيارات الى خسائر بشرية، فقد بدأ سكان موسكو بالتساؤل عما يخبئه المستقبل، وهل ستشهد المزيد من الانهيارات الأرضية. كما تساءلوا ما هي المناطق الأخطر في هذه المدينة التي يبلغ عدد سكانها عشرة ملايين نسمة وتشغل مساحة طولها 50 كلم وعرضها 30 كلم، وتجري تحتها مئات الكيلومترات من انفاق المترو والمجاري واقنية الاتصال. بعد الانهيارات الأرضية الشهر الماضي، واصلت الصحف الروسية نشر معلومات مقلقة عن طبيعة تربةموسكو واحتمال المزيد من الانهيارات. وجاء في عدد من التقارير ان هذه تهدد ما لا يقل عن 40 في المئة من مساحة المدينة. وأوضح الى "الحياة" الدكتور ريم زيانغيروف، كبير الجيولوجيين في بلدية المدينة، أن موسكو "تقوم على أرضية متباينة من حيث الطبيعة الجيولوجية، إذ تشمل وادي نهر موسكفا اضافة الى تلال صخرية ركامية ومستنقعات". واعتبر ان هذا يعني ان "هناك صعوبات في البناء في بعض هذه الأراضي، لكن المباني هناك تقام بعد التأكد من وضع الأسس المناسبة. ان التنوع في طبيعة التربة لا يقود بالضرورة الى انهيارات وكوارث". احتفلت موسكو السنة الماضية بالذكرى ال850 لتأسيسها، واطلق الاحتفال موجة من أعمال الانشاء في قلب موسكو التاريخي. ومن بين المنشآت مجمع تجاري كبير متعدد الطوابق تحت الأرض في ساحة مانيج الملاصقة للكرملين. وبعد الانتهاء من بناء المركز اضطرت السلطات، تحت ضغط عدد من العلماء، الى وضع جهاز لاستشعار تحركات الأرض في المنطقة، خصوصاً بعد ظهور شقوق في جدران فندق "موسكو" الشهير المجاور. في حين حذرت تقارير صحافية من أن انشاء المجمع والتغيرات التي احدثها ذلك في حركة الأنهار الجوفية تحت الساحة يهدد بانهيار ارضي كبير يجرف الكثير من معالم موسكو الشهيرة، مثل متحف التاريخ وفندق "ناشونال"، وحتى سور الكرملين نفسه. وبالمقابل قال كبير الجيولوجيين الدكتور زيانغيروف ل "الحياة": "لا اعتقد بأن المجمع التجاري يحمل اي خطر ... وليس هناك "قنبلة زمنية" في ساحة مانيج". واعتبر ان تحذيرات الصحافة لا تستند الى اساس علمي، وأضاف مشيراً الى المباني الأخرى على الساحة: "من الطبيعي لأي مبنى ان يتغير مع مرور الزمن، تماماً مثلما يهرم الانسان". تعتمد غالبية الصحف في تحذيراتها على ما يقوله "الحفارون"، أي تلك المجموعة من الشباب التي تمارس منذ سنين هواية التنقيب في انفاق موسكو وكهوفها ومجاريها، أحيانا في شكل مخالف للقانون. ويعتبر هؤلاء ان لديهم معرفة شاملة بجيولوجيا المدينة، ويقدمون الى الصحف بانتظام التقارير عن مؤشرات الى اخطار ممكنة، مثل تسربات في المجاري الرئيسية، وتجمع الغاز القابل للانفجار في بعض المناطق، والشقوق في أسس المباني القديمة وغيرها من المشاكل. لكن الدكتور زيانغيروف قال ان دائرته تتابع الوضع الجيولوجي للمدينة بدقة عن طريق رصد جوي شامل مرتين في السنة. وأضاف: "ان دائرتنا تتحرك فوراً لدى بروز أي مؤشر على الخطر، ولدينا مختصون على أعلى المستويات يستطيعون التعامل مع كل المشاكل. لكن لا يمكن التنبؤ بكل حادث محتمل". وذكر ان السبب في انهيار المبنى في شارع بولشايا دميتروفكا هو ان المهندسين الذي كانوا يعملون على ترميم مجاريه اغفلوا وجود رافد تحت الأرض لنهر نيغلنكا ولم يحصنوا المجاري بما يكفي لوقف تحرك العمق الرملي. واعتبر ان غالبية الانهيارات الأرضية تأتي من اخطاء فنية وهندسية مشابهة. وقد نشرت صحيفة "ارغومنت أي فاكتي" الاسبوعية قبل ايام احصاءات بينت حدوث 642 انهياراً ارضياً في موسكو خلال السنة الجارية، مقابل 43 انهياراً خلال السنوات السبع والثلاثين الماضية. وربط مراقبون تزايد عدد الانهيارات بموجة البناء التي تشهدها العاصمة الروسية، ويفترض ان تتم هذه الانشاءات تحت اشراف الحكومة المحلية. وقال الدكتور زيانغيروف: "اعمال البناء احيانا تفتقر الى المواصفات الصحيحة". وأضاف: "نحن نعرف المواقع التي يمكن ان تكون خطرة، ويمكن تجنب كل المشاكل عن طريق اتخاذ الاستعدادات المناسبة". وتحدث عن مشروع "موسكو سيتي" الهائل الحجم، الذي سيكون مركزاً للنشاطات الاقتصادية في العاصمة، مؤكداً أن دائرته "قامت بدراسة جيولوجية شاملة لموقعه ونحن على ثقة كاملة بصلاحيته للاستثمار العقاري... إنها أرضية جيرية صلدة". لكن من يضمن "أرضاً صلدة" للمستثمرين الذين يقلون ثراء عن المساهمين في مشروع "موسكو سيتي"؟ وفي حين تطالب صحف موسكو، معتمدة على "رأي الخبراء"، بوضع اجهزة الاستشعار الأرضي في كل مكان، يكرر الدكتور زيانغيروف رفضه ل "حملة التخويف في الصحف". ويضيف: "لا يمكننا وضع جهاز في كل مبنى في المدينة... وهو ما لا تعمله حتى اليابان" المعرضة اكثر من غيرها للهزات الأرضية. ويعبّر زيانغيروف بهذا عن الرأي السائد بين الجيولوجيين والمهندسين والقائل إن لا أساس للتشاؤم الذي يشيعه "البعض من غير المختصين خدمة لمصالح خاصة". من جهتهم، يأمل سكان موسكو العاديون بأن كلمة "انهيار" لن تنتقل من حيز التشبيه لتأخذ معنى حرفيا، سواء في ما يخص الاقتصاد او التركيب الجيولوجي لمدينتهم. كما يطالبون بالمزيد من التنسيق بين العلماء والسلطات المحلية وشركات الانشاء لضمان سلامة المباني، الجديد منها والقديم